۞ منتديات كنوز الإبداع ۞
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

۞ منتديات كنوز الإبداع ۞


 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
العربي

عضو جديد  عضو جديد
العربي


الجنس : ذكر
العمر : 30
الموقع مكة المكرمة
التسجيل : 12/03/2012
عدد المساهمات : 27

التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان Empty
مُساهمةموضوع: التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان   التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان Icon_minitimeالجمعة 16 مارس 2012, 9:12 pm



التوكل من أعمال القلوب



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102], وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء:1], وقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب:70-71], أما بعد:

فالاستعانة والتوكل على الله من أعظم واجبات الإيمان، وأفضل الأعمال المقربة إلى الرحمن، فإن الأمور كلها لا تحصل ولا تتم إلا بالاستعانة بالله ولا عاصم للعبد سوى الاعتماد على الله فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تحول للعباد من حال إلى حال إلا بالله، ولا قدره لهم على طاعة الله إلا بتوفيق الله، ولا مانع لهم من الشر والمعاصي إلا عصمة الله، وكذلك أسباب الرزق لا تحصل وتتم إلا بالسعي في الطلب مع التوكل على الله.

قال ابن القيم- رحمه الله-: «التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها منزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل»(1).

إن الله -عز وجل- خلق الخلق لعبادته، وقد قرن العبادة بالتوكل في كتابه في مواضع كثيرة قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود:123], وقدم العبادة على التوكل؛ لأن التوكل إنما ينفع أهل العبادة، قال الألوسي- رحمه الله-: «وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة تنبيه على أن التوكل لا ينفع دونها وذلك؛ لأن تقدمه في الذكر يشعر بتقدمه في الرتبة أو الوقوع»(2)، وقال البيضاوي: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ فإنه كافيك وقي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع العابد»(3).

لم يأمر الله بالتوكل فقط بل أمر مع التوكل بعبادته وتقواه التي تتضمن فعل ما أمر وترك ما حذر، فمن ظن أنه يرضى ربه بالتوكل بدون فعل ما أمر به كان ضالا، كما أن من ظن أنه يقوم بما يرضى الله عليه دون التوكل كان ضالاً، بل فعل العبادة التي أمر الله بها فرض, وإذا أطلق لفظ العبادة دخل فيها التوكل و إذا قرن أحدهما بالآخر كان للتوكل اسم يخصه كما فى نظائر ذلك مثل التقوى وطاعة الرسول، فإن التقوى إذا أطلقت دخل فيها طاعة الرسول»(4).



معنى التوكل في اللغة والشرع:

1- في اللغة:

في أسماء الله تعالى الوكيلُ: هو المقيم الكفيل بأرزاق العباد، وحقيقته أنه يستقل بأمر الموكول إليه، وقيل: الوكيلُ الحافظ، وقال أبو إسحق: الوكيلُ في صفة الله –تعالى- الذي توكل بالقيام بجميع ما خلق، وقال بعضهم: الوكيلُ الكفيل، والمُتوكل على الله الذي يعلم أن الله كافلٌ رزقه وأمره فيركن إليه وحده ولا يتوكل على غيره، قال ابن سيده: وَكِل بالله، وتوكل عليه، واتكل: استسلم إليه.

ويقال توكل بالأمر إذا ضمن القيام به ووكلت أمري إلى فلان أي ألجأتُه إليه واعتمدت فيه عليه، ووكل فلانٌ فلاناً إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته أو عجزاً عن القيام بأمر نفسه، ووكل إليه الأمر سلمه، ووكله إلى رأيه وكلا ووُكُولا تركه، ورجل وكلٌ بالتحريك ووُكلة مثل هُمزة وتُكلة على البدل، ومُواكل عاجزٌ كثير الاتكال على غيره، يقال: وُكلةٌ تُكلةٌ أي: عاجز يكل أمره إلى غيره، ويتكل عليه(5).



2- في الشرع:

والتوكل على الله: تفويض الأمر إليه في جميع الأمور.(6)

والتوكل: هو تفويض الأمور إلى الله.(7)

قيل: التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك وقيل: أن لا تطلب لنفسك ناصرا غير الله ولا لرزقك خازنا غيره ولا لعملك شاهداً غيره.(Cool

وقال الألوسي- رحمه الله-: «وأصل التوكل إظهار العجز والاعتماد على الغير والاكتفاء به في فعل ما يحتاج إليه».(9)

فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده(10).



الفرق بين التوكل والتفويض، والتوكل والثقة، والتوكل والعجز.

1- الفرق بين التوكل والتفويض:

قال صاحبُ المنازل- رحمه الله- وهو يتكلم عن التفويض: «وهو ألطف إشارة وأوسع معنى من التوكل، فإن التوكل بعد وقوع السبب، والتفويض قبل وقوعه وبعده، وهو عين الاستسلام والتوكل شعبة منه»(11).

ويقول ابن القيم- رحمه الله- مبيناً قول الهروي: «يعني أن المفوض يتبرأ من الحول والقوة، ويفوض الأمر إلى صاحبه من غير أن يقيمه مقام نفسه في مصالحه، بخلاف التوكل فإن الوكالة تقتضي أن يقوم الوكيل مقام الموكل.

فالتفويض: براءة وخروج من الحول والقوة وتسليم الأمر كله إلى مالكه.

فيقال: وكذلك التوكل أيضاً، وما قدحتم به في التوكل يرد عليكم نظيره في التفويض سواء، فإنك كيف تفوض شيئاً لا تملكه ألبتة إلى مالكه، وهل يصح أن يفوض واحدٌ من آحاد الرعية الملك إلى ملك زمانه، فالعلة إذن في التفويض أعظم منها في التوكل، بل لو قال قائل: التوكل فوق التفويض وأجل منه وأرفع لكان مصيباً، ولهذا كان القرآن مملوءاً به أمراً وإخباراً عن خاصة الله وأوليائه وصفوة المؤمنين بأن حالهم التوكل وأمر الله به رسوله في أربعة مواضع من كتابه وسماه المتوكل، وأخبر عن رسله بأن حالهم كان التوكل، وبه انتصروا على قومهم وأخبر النبي عن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: أنهم أهل مقام التوكل، ولم يجيء التفويض في القرآن إلا فيما حكاه عن مؤمن آل فرعون من قوله: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّه﴾ [غافر: 44], وقد أمر الله رسوله بأن يتخذه وكيلا فقال: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً﴾ [المزمل: 9]، وهذا يبطل قول من قال من جهلة القوم: إن توكيل الرب فيه جسارة على الباري؛ لأن التوكل يقتضي إقامة الوكيل مقام الموكل وذلك عين الجسارة، قال: ولولا أن الله أباح ذلك وندب إليه: لما جاز للعبد تعاطيه، وهذا من أعظم الجهل فإن اتخاذه وكيلا هو محض العبودية وخالص التوحيد إذا قام به صاحبه حقيقة، ولله در سيد القوم وشيخ الطائفة سهل بن عبدالله التستري إذ يقول: العلم كله باب من التعبد، والتعبد كله باب من الورع، والورع كله باب من الزهد والزهد كله باب من التوكل، فالذي نذهب إليه: أن التوكل أوسع من التفويض وأعلى وأرفع»(12).

وقد ذكر المفسرون أن التفويض بمعنى التوكل وممن قال بذلك ابن جرير الطبري- رحمه الله- فقال، في قوله تعالى: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر:44]، «وأسلم أمري إلى الله وأجعله إليه وأتوكل عليه، فإنه الكافي من توكل عليه، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل»(13) ومن قال بذلك ابن كثير(14)، والقرطبي(15)، والشوكاني(16).



2- الفرق بين التوكل والثقة:

اللبيب إذا أراد أن يوكِّل فإنه يبحث عن من يثق به؛ لأنه هو الذي سينصح له في ما وكله، ولله المثل الأعلى، ويضرب لنا الغزالي- رحمه الله- مثلاً في ذلك فيقول:

«من ادعي عليه دعوى باطلة بتلبيس، فوكل للخصومة من يكشف ذلك التلبيس لم يكن متوكلاً عليه ولا واثقاً به، ولا مطمئن النفس بتوكيله إلا إذا اعتقد فيه أربعة أمور: منتهى الهداية، ومنتهى القوة، ومنتهى الفصاحة، ومنتهى الشفقة، أما الهداية: فليعرف بها مواقع التلبيس حتى لا يخفى عليه من غوامض الحيل شيء أصلاً، وأما القدرة والقوة: فليستجرئ على التصريح بالحق فلا يداهن ولا يخاف ولا يستحى ولا يجبن فإنه ربما يطلع على وجه تلبيس خصمه فيمنعه الخوف أو الجبن أو الحياء أو صارف آخر من الصوارف المضعفة للقلب عن التصريح به، وأما الفصاحة: فهي أيضا من القدرة إلا أنها قدرة في اللسان على الإفصاح عن كل ما استجرأ القلب عليه وأشار إليه فلا كل عالم بمواقع التلبيس قادر بذلاقة لسانه على حل عقدة التلبيس، وأما منتهى الشفقة: فيكون باعثا له على بذل كل ما يقدر عليه في حقه من المجهود فإن قدرته لا تغني دون العناية به إذا كان لا يهمه أمره ولا يبالي به ظفر خصمه أو لم يظفر هلك به حقه أو لم يهلك فإن كان شاكاً في الأربعة أو في واحدةٍ منها أو جوز أن يكون خصمه في هذه الأربعة أكمل منه لم تطمئن نفسه إلى وكيله، بل بقي منزعج القلب مستغرق الهم بالحيلة والتدبير ليدفع ما يحذره من قصور وكيله وسطوة خصمه»(17).

فالثقة هي أصل التوكل، ولا يتحقق معنى التوكل إلا بالثقة في الوكيل، قال صاحب المنازل: «الثقة: سوادُ عين التوكل، ونقطة دائرة التفويض، وسويداء قلب التسليم، وصدر الباب بقوله تعالى لأم موسى: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 7] فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله –تعالى- إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وجرياته إلى حيث ينتهي أو يقف»(18).

قال ابن القيم: «ومراده: أن الثقة: خلاصة التوكل ولبه كما أن سواد العين: أشرف ما في العين، وأشار بأنه نقطة دائرة التفويض إلى أن مدار التوكل عليه وهو في وسطه، كحال النقطة من الدائرة فإن النقطة هي المركز الذي عليه استدارة المحيط ونسبة جهات المحيط إليها نسبة واحدة، وكل جزء من أجزاء المحيط مقابل لها، كذلك الثقة هي النقطة التي يدور عليها التفويض، وقد تقدم أن كثيرا من الناس يفسر التوكل بالثقة ويجعله حقيقتها ومنهم من يفسره بالتفويض ومنهم من يفسره بالتسليم فعلمت: أن مقام التوكل يجمع ذلك كله»(19).

وبهذا يتبين أن التوكل يشمل الثقة والتفويض ويدل على ذلك قول الغزالي: «التوكل: مشتق من الوكالة يقال: وكل أمره، إلى فلان أي: فوضه إليه واعتمد عليه فيه، ويسمى الموكول إليه وكيلاً، ويسمى المفوض إليه متكلاً عليه ومتوكلاً عليه مهما اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتهمه فيه بتقصير ولم يعتقد فيه عجزاً وقصوراً، فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده»(20).

3- الفرق بين التوكل والعجز.

الفرق بين التوكل والعجز: أن التوكل عمل القلب وعبوديته اعتماداً على الله وثقة به والتجاء إليه وتفويضا إليه ورضا بما يقضيه له؛ لعلمه بكفايته سبحانه وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور بها واجتهاده في تحصيلها فقد كان رسول الله أعظم المتوكلين وكان يلبس لامته ودرعه بل ظاهر يوم أحد بين درعين واختفى في الغار ثلاثاً فكان متوكلا في السبب لا على السبب.

وأما العجز: فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما، فإما أن يعطل السبب عجزاً منه ويزعم أن ذلك توكل ولعمر الله إنه لعجز وتفريط وإما أن يقوم بالسبب ناظرا إليه معتمدا عليه غافلا عن المسبب معرضا عنه وإن خطر بباله لم يثبت معه ذلك الخاطر ولم يعلق قلبه به تعلقا تاما بحيث يكون قلبه مع الله وبدنه مع السبب فهذا توكله عجز وعجزه توكل(21).



حكم التوكل على الله:

التوكل على الله واجب، كما نص على ذلك القرآن لكريم، فقال تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:23] وقال: ﴿فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ﴾ [يونس: 84].

فالتوكل على الله من أعمال القلوب، وأعمال القلوب منها الواجب ومنها المستحب،

يقول ابن القيم- رحمه الله-: «وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له وإخلاص الدين له والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والرضى به وعنه والموالاة فيه والمعاداة فيه والذل له والخضوع والإخبات إليه والطمأنينة به وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها، أفرض من أعمال الجوارح، ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة»(22).

وقال البيضاوي في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:2-3]. أي: «كافية ﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ يبلغ ما يريده ولا يفوته مراد وقرأ حفص الإضافة وقرئ ﴿بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ أي نافذ و بالغا على أنه حال والخبر: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ تقديراً أو مقدراً أو أجلاً لا يتأتى تغييره وهو بيان لوجوب التوكل»(23).



التوكل من أعمال القلوب:

قال البيضاوي في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2], «لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل»(24).

وقال الجنيد بن محمد: «التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب»(25).

ويقول ابن القيم- رحمه الله-: «التوكل يجمع أصلين: علم القلب وعمله، أما علمه فيقينه بكفاية وكيله وكمال قيامه بما وكله إليه وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك، وأما عمله فسكونه إلى وكيله وطمأنينته إليه وتفويضه وتسليمه أمره إليه وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك ورضاه بتصرفه له فوق رضاه بتصرفه هو لنفسه فبهذين الأصلين يتحقق التوكل وهما جماعه»(26).

قال ابن تيمية- رحمه الله-: «قال الجنيد بن محمد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب، فلابد فيه من قول القلب وعمله، ثم قول البدن وعمله ولابد فيه من عمل القلب مثل حب الله ورسوله وخشية الله وحب ما يحبه الله ورسوله وبغض ما يبغضه الله ورسوله وإخلاص العمل لله وحده وتوكل القلب على الله وحده وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من الإيمان»(27).

السعي والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل:

من الناس من يرى أن العبد لا يكون متوكلاً حتى يترك الأسباب وينقطع عنها قال القرطبي- رحمه الله-: « قالت طائفة من المتصوفة: لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله- تعالى-»(28).

وقال عامة الفقهاء: التوكل على الله هو الثقة بالله، والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعمٍ ومشربٍ وتحرزٍ من عدوٍ وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة، وإلى هذا ذهب محققو الصوفية، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب، فإنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب، فإنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضراً، بل السبب والمسبب فعل الله -تعالى -والكل منه وبمشيئته ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم ثم المتوكلون على حالين: الأول: حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه ولا يتعاطاه إلا بحكم. الأمر الثاني: حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى الأسباب أحياناً غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية والبراهين القطعية والأذواق الحالية، فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين ويلحقه بدرجات العارفين(29).

وأصح المذاهب في ذلك ما قاله ابن القيم- رحمه الله-: «أن قوله لأنك رفضت الأسباب ووقفت مع التوكل إن أراد به رفض الأسباب جملة فهذا كما أنه ممتنع عقلا وحسا فهو محرم شرعا ودينا، فإن رفض الأسباب بالكلية انسلاخ من العقل والدين، وإن أراد به رفض الوقوف معها والوثوق بها وأنه يقوم قيام ناظر إلى سببها فهذا حق، ولكن النقص لا يكون في السبب ولا في القيام به وإنما يكون في الإعراض عن المسبب تعالى كما تقدم، فمنع الأسباب أن تكون أسبابا قدح في العقل والشرع، وإثباتها والوقوف معها وقطع النظر عن مسببها قدح في التوحيد والتوكل، والقيام بها وتنزيلها منازلها والنظر إلى مسببها وتعلق القيام به جمع بين الأمر والتوحيد وبين الشرع والقدر وهو الكمال والله أعلم»(30).

وقد أرشد الإسلام إلى التوكل على الله رب العالمين، فقال تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:23] وقال: ﴿فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ﴾ [يونس:84].

وجعل الله – عز وجل- في الكون أسباباً وسنناً كونيةً وأرشد إلى الأخذ بها، فقال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً﴾ [الأحزاب:38], وقال الله-تعالى-: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب:62].

فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله، بل من تمام التوكل الأخذ بالسبب، قال الغزالي- رحمه الله-: «وليس معنى التوكل التباعد عن الأسباب بالكلية، ولو كان كذلك لبطل التوكل بطلب الدلو والحبل ونزع الماء من البئر، ولوجب أن يصبر حتى يسخر الله له ملكاً أو شخصاً آخر حتى يصب الماء في فيه، فإن كان حفظ الدلو والحبل لا يقدح في التوكل وهو آلة الوصول إلى المشروب فحمل عين المطعوم والمشروب حيث لا ينتظر له وجود أولى بأن لا يقدح فيه»(31).

قال سهل: من قال إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الله -عز وجل- يقول: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنفال: 69] فالغنيمة اكتساب وقال تعالى: ﴿وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: 12] فهذا عمل وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -."إن الله يحب العبد المحترف" وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرضون على السرية(32).

ولن يكون أحد أفضل من الأنبياء- عليهم السلام- وقد كانوا يعملون بالأسباب على أتم الوجوه وأكملها، قال ابن الجوزي- رحمه الله-: «وقال ابن عقيل: التسبب لا يقدح في التوكل؛ لأن تعاطي رتبة ترقي على رتبة الأنبياء نقصٌ في الدين، ولما قيل لموسى عليه السلام: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، خرج ولما جاع واحتاج إلى عفة نفسه أجر نفسه ثمان سنين »(33).

ويتكلم القرطبي- رحمه الله- عن الأخذ بالأسباب مستدلاً بما كان عليه النبي- صلى الله عليه وسلم-، قائلاً: «قلت: ومنه حفر النبي -صلى الله عليه وسلم- الخندق حول المدينة تحصيناً للمسلمين وأموالهم مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحدٌ، ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحدٌ من تحولهم عن منازلهم مرة إلى الحبشة ومرة إلى المدينة؛ تخوفاً على أنفسهم من مشركي مكة وهرباً بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم، وقد قالت أسماء بنت عميس لعمر: لما قال لها سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- منكم: كذبت يا عمر كلا والله كنتم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار - أو أرض - البعداء البغضاء في الحبشة وذلك في الله ورسوله وايم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن كنا نؤذي ونخاف الحديث بطوله خرجه مسلم(34) قال العلماء: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم عليه كاذب وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها»(35).

وها هو يعقوب -عله السلام- يوصي بنيه ألا يدخلوا من بابٍ واحدٍ، وأن يدخلوا من أبوابٍ متفرقة، وذلك أخذاً منه بالسبب، ولم يمنع ذلك من توكله على الله، بل أعلن توكله على الله، كما ذكر سبحانه ذلك فقال: ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [يوسف: 67]، والأدلة من كتاب الله والسنة كثيرة نذكر منها ما يأتي:

أولا: من القرآن الكريم.

ا- ما أرشد الله في كتابه العزيز من السير في الأرض والأكل من رزقه- سبحانه- وما المشي في مناكب الأرض إلا من باب الأخذ بالأسباب، وقد أرشد الله إليه في كتابه العزيز، وفي ذلك دلالة على أن الأخذ بالسبب لا يدل على عدم التوكل على الله- عز وجل-، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك:15] قال ابن كثيرٍ- رحمه الله-: «أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾ فالسعي في السبب لا ينافي التوكل»(36).

ب- أمر الله بالتزود للحج، والتزود أخذٌ بالسبب، قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [البقرة:197].

قال ابن العربي: «أمر الله –تعالى- بالتزود لمن كان له مالٌ ومن لم يكن له مال، فإن كان ذا حرفة تنفق في الطريق أو سائلا فلا خطاب عليه، وإنما خاطب الله أهل الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون: نحن المتوكلون »(37).

قال أبو الفرج الجوزي: ومن المتزهدين أقوامٌ يرون التوكل قطع الأسباب كلها، وهذا جهل بالعلم فإن النبي -صلى الله عليه و سلم-: دخل الغار، وشاور الطبيب، ولبس الدرع، وحفر الخندق، ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي وكان كافراً، وقال لسعد: "لأن تدع و رثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس"(38),(39).

ج- وأمر الله المؤمنين أن يأخذوا حذرهم فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً﴾ [النساء:71]

قال القرطبي- رحمه الله-: «هذا خطابٌ للمؤمنين المخلصين من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- وأمرٌ لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله، وحماية الشرع، ووجه النظم والاتصال بما قبل أنه لما ذكر طاعة الله وطاعة رسوله أمر أهل الطاعة بالقيام بإحياء دينه وإعلاء دعوته وأمرهم ألا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسسوا إلى ما عندهم ويعملوا كيف يردون عليهم فذلك أثبت لهم فقال: ﴿خُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ فعلمهم مباشرة الحروب ولا ينافي هذا التوكل بل هو مقام عين التوكل»(40).

د- ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ [النساء:78].

قال القرطبي: «واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج فقال الأكثر- وهو الأصح-: إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية؛ لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة فمثل الله لهم بها، إلى أن قال: ...اتخاذ البلاد وبنائها ليمتنع بها في حفظ الأموال والنفوس وهي سنة الله في عباده، وفي ذلك أدل دليل على رد قول من يقول التوكل ترك الأسباب، فإن اتخاذ البلاد من أكبر الأسباب وأعظمها، وقد أمرنا بها واتخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدة زيادة في التمنع وقد قيل للأحنف ما حكمة السور ؟ فقال: ليردع السفيه حتى يأتي الحكيم فيحميه» (41).

هـ- الأخذ بالأسباب هو من سلوك الأنبياء – عليهم السلام- قال الله تعالى، عن موسى- عليه السلام-: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً﴾ [الكهف:62]

قوله تعالى: «فيه مسألة واحدة وهو اتخاذ الزاد في الأسفار، وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار الذين يقتحمون المهامه والقفار؛ زعماً منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار، هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه وتوكله على رب العباد»(42).

و- ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال:9] «نزول الملائكة سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق فليعلق القلب بالله وليثق به فهو الناصر بسبب وبغير سبب ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]؛ لكن أخبر بذلك ليمتثل الخلق ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب: 62] ولا يقدح ذلك في التوكل وهو رد على من قال: إن الأسباب إنما سنت في حق الضعفاء لا للأقوياء فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا الأقوياء وغيرهم هم الضعفاء وهذا»(43).

ز- أمر الله – عز وجل- كما في كتابه العزيز مريم- عليها السلام-، أن تهز بجذع النخلة اليابسة حتى تساقط الرطب، ولو شاء الله لأنزلها دون أن تهزها كما أوجد الرطب فيها وليست مثمرة، لكنه إرشاد إلى الأخذ بالسبب، فقال تعالى: ﴿َهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً﴾ [مريم: 25]

قال ابن كثير – رحمه الله-: «أي: وخذي إليك بجذع النخلة قيل: كانت يابسة قاله ابن عباس، وقيل: مثمرة، قال مجاهد: كانت عجوة، وقال الثوري عن أبي داود نفيع الأعمى: كانت صرفانة، والظاهر أنها كانت شجرة ولكن لم تكن في إبان ثمرها قاله وهب بن منبه، ولهذا امتن عليها بذلك بأن جعل عندها طعاماً وشراباً فقال: ﴿ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ﴾أي: طيبي نفسا».(44)

وقال القرطبي- رحمه الله-: « استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوماً فإن الله –تعالى- قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة؛ لترى آية وكانت الآية تكون بألا تهز» (45).

ثانياً: من السنة النبوية:

ا- عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً" (46).

وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئاً، حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجل جهل العلم فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- " إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي"(47), وقال: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا" فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق قال: وكان الصحابة يتجرون ويعملون في نخيلهم والقدوة بهم انتهى (48).

قال المباركفوري: قوله: "لو أنكم كنتم توكلون" بحذف إحدى التاءين للتخفيف أي تعتمدون "حق توكله" بأن تعلموا يقينا أن لا فاعل إلا الله وأن لا معطي ولا مانع إلا هو ثم تسعون في الطلب بوجه جميل وتوكل " لرزقتم كما ترزق الطير" بمثناة فوقية مضمومة أوله " تغدو" أي تذهب أول النهار"خماصا" بكسر الخاء المعجمة جمع خميص أي جياعا "وتروح" أي ترجع اخر النهار"بطاناً" الموحدة جمع بطين وهو عظيم البطن والمراد شباعا (49).

وقال المناوي- رحمه الله-: «أي ممتلئة البطون جمع بطين أي شبعان أي: تغدو بكرة وهي جياع وتروح عشاءا وهي ممتلئة الأجواف أرشد بها إلى ترك الأسباب الدنيوية والاشتغال بالأعمال الأخروية ثقة بالله وبكفايته فإن احتج من غلب عليه الشغف بالأسباب بأن طيران الطائر سبب في رزقه فجوابه أن الهواء لا حب فيه يلقط ولا جهة تقصد ألا ترى أنه ينزل في مواضع شتى لا شيء فيها فلا عقل له يدرك به فدل على أن طيرانه في الهواء ليس من باب طلب الرزق بل هو من باب حركة يد المرتعش لا حكم لها فيتردد في الهواء حتى يؤتى برزقه أو يؤتى به إلى رزقه هذا الذي يتعين حمل طيران الطائر عليه أعني أنه لا حكم له في الرزق ولا ينسب إليه لأن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم سماه متوكلا مع طيرانه ولذلك مثل به والمكلف العاقل أولى بالتوكل منه سيما من دخل إلى باب الاشتغال بأفضل الأعمال بعد الإيمان وهو طلب العلم»(50).

يقول ابن كثيرٍ- رحمه الله-: «فأثبت لها رواحاً وغدواً لطلب الرزق مع توكلها على الله -عز وجل- وهو المسخر المسير المسبب»(51).

ب- قال سمعت أنس بن مالك يقول: قال رجل يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو اطلقها وأتوكل ؟ قال: "اعقلها وتوكل"(52).

قال الألوسي- رحمه الله-: «ولا يمنع من التوكل مباشرة الأسباب مع العلم بأنه –سبحانه- المسبب لها ففي الخبر: "إعقل وتوكل" وجاء: "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله تعالى وأجملوا في الطلب" ولا ينبغي أن يعتقد أنه لا يحصل الرزق بدون مباشرة سبب، فإنه سبحانه يرزق الكثير من دون مباشرة سببٍ أصلا»(53).

وقال المناوي: «لأن عقلها لا ينافي التوكل الذي هو الاعتماد على الله وقطع النظر عن الأسباب مع تهيئتها، وفيه بيان فضل الاحتياط والأخذ بالحزم»(54).

ج- وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفاتصدق بثلثي مالي ؟ قال: "لا" . قلت: بالشطر ؟ فقال: "لا"ثم قال: "الثلث والثلث كبير أو كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة تتبغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فِيِّ امرأتك"(55), النبي- صلى الله عليه وسلم- سيد المتوكلين على الله رب العالمين، وهو أعرف الناس بما ورد في كتاب الله من الأمر بالتوكل والحث عليه، وقد أرشد سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- إلى أن يذر ورثته أغنياء خير من أن يذرهم عالة يتكففون الناس، وهذا لا ينافي التوكل كما قد يتوهم البعض.

د- عن بن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بعثت بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم"(56).

قال ابن حجر- رحمه الله-: «وفي الحديث إشارة إلى فضل الرمح، وإلى حل الغنائم لهذه الأمة، وإلى أن رزق النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل فيها لا في غيرها من المكاسب، ولهذا قال بعض العلماء أنها أفضل المكاسب، والمراد بالصغار وهو بفتح المهملة وبالمعجمة بذل الجزية، وفي قوله: "تحت ظل رمحي" إشارة إلى أن ظله ممدود إلى أبد الآباد، والحكمة في الاقتصار على ذكر الرمح دون غيره من آلات الحرب كالسيف أن عادتهم جرت بجعل الرايات في أطراف الرمح، فلما كان ظل الرمح أسبغ كان نسبة الرزق إليه أليق، وقد تعرض في الحديث الآخر لظل السيف كما سيأتي قريبا من قوله -صلى الله عليه وسلم-» (57).

وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي فقال: هذا رجلٌ جهل العلم فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي"(58).

هـ- عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب"(59).

قال الغزالي- رحمه الله-: «أمر بالإجمال في الطلب ولم يقل اتركوا الطلب»(60).

ثمار التوكل:

1 - تحقيق الإيمان: قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:23]. فالمؤمنون هم المتوكلون على الله – عز وجل-، وقد ذكر الله من أوصاف المؤمنين أنهم على ربهم يتوكلون، فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:2]، وقال: ﴿فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الشورى:36].

فإن الإيمان بالله والتوكل عليه يمنعان الشيطان من وسوسته لهم وإن وسوس لأحد منهم لا تؤثر فيه وسوسته وهذه الجملة تعليل للأمر بالاستعاذة وهؤلاء الجامعون بين الإيمان والتوكل هم الذين قال فيهم إبليس: إلا عبادك منهم المخلصين »(61).

قال ابن القيم- رحمه الله-: «كلما علا مقام العبد كانت حاجاته إلى التوكل أعظم وأشد وأنه على قدر إيمان العبد يكون توكله»(62).

قال ابن القيم- رحمه الله-: «وهو من لوازم الإيمان ومقتضياته قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:23] فجعل التوكل شرطاً في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل، وفي الآية الأخرى: ﴿وقال موسى يا قوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين﴾، فجعل دليل صحة الإسلام التوكل وقال تعالى: ﴿وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾، فذكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل وإذا كان التوكل ضعيفاً فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد»(63).

2- كفاية الله المتوكل جميع شئونه لقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا﴾ً [الطلاق:2-3].

قال ابن القيم-رحمه الله-: « ﴿فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ أي كافية ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدا وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه وبين الضرر الذي يتشفى به منه قال بعض السلف: جعل الله تعالى لكل عمل جزاء من جنسه وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده فقال: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ ولم يقل نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه فلو توكل العبد على الله تعالى حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجا من ذلك وكفاه ونصره، وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده وعظم منفعته وشدة حاجة العبد إليه في كتاب الفتح القدسي وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة أنه من مقامات العوام وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة وبينا أنه من أجل مقامات العارفين وأنه كلما علا مقام العبد كانت حاجاته إلى التوكل أعظم وأشد وأنه على قدر إيمان العبد يكون توكله»(64).

3- طمأنينة النفس وارتياح القلب وسكونه، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:173]

لأنههم متوكلون على الله رب العالمين الذي يثقون به كامل الثقة، ويعلمون أنه إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون، عن ابن عباس قال: ﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾. قالها إبراهيم- عليه السلام- حين ألقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾»(65).

4- يورث محبة الله –تعالى- للعبد لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران:159] إن الله يحب المتوكلين عليه الواثقين به المنقطعين إليه فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة(66).

5 - يورث الصبر والتحمل و لهذا اقترن الصبر بالتوكل على الله في مواضع من القرآن منها: ﴿ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل:42] قال ابن كثير- رحمه الله-:أي «صبروا على الأذى من قومهم متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والاخرة».(67) وقال تعالى: ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم:12]

6- يورث النصر والتمكين؛ ولهذا قرن الله –تعالى- بينه وبين التوكل في قوله: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران:160]، ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال:49]

7- يقوي العزيمة والثبات على الأمر، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران:159]، وقال تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة:51]

8- يقي من تسلط الشيطان. قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل:99] قال الشوكاني- رحمه الله-: «فإن الإيمان بالله والتوكل عليه يمنعان الشيطان من وسوسته لهم وإن وسوس لأحدٍ منهم لا تؤثر فيه وسوسته وهذه الجملة تعليل للأمر بالاستعاذة وهؤلاء الجامعون بين الإيمان والتوكل هم الذين قال فيهم إبليس: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر:40] »(68).

عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله وتوكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله " قال: يقال حينئذ هديت وكفيت ووقيت، فتتنحى له الشياطين، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي"(69).

9- من أسباب دفع السحر والحسد والعين، قال تعالى: ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [يوسف:67].

قال الطبري- رحمه الله-: «خشي عليهم أعين الناس؛ لهيأتهم وأنهم لرجل واحد, وقوله: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ﴾ يقول: وما أقدر أن أدفع عنكم من قضاء الله الذي قد قضاه عليكم من شيءٍ صغيرٍ ولا كبيرٍ؛ لأن قضاءه نافذ في خلقه: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّه﴾ِ يقول: ما القضاء والحكم إلا لله دون ما سواه من الأشياء فإنه يحكم في خلقه بما يشاء فينفذ فيهم حكمه ويقضي فيهم ولا يرد قضاؤه: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾يقول: على الله توكلت فوثقت به فيكم وفي حفظكم علي حتى يردكم إلي وأنتم سالمون معافون لا على دخولكم مصر إذا دخلتموها من أبواب متفرقة: ﴿وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ يقول: وإلى الله فليفوض أمورهم المفوضون»(70).

10 - يورث الرزق، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ [الطلاق:2-3]

قال الشوكاني- رحمه الله-: «أي من وجه لا يخطر بباله ولا يكون في حسابه»(71).

وقال المناوي: «والرزق إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أهنأ وأمرأ كما أن الخبر السار إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر والشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم وأشر، فالتقوى تصير رزقه من غير محتسبه فبسقوط المحتسبية عن قلبه يعلم أنه متق، قال سفيان الثوري: اتق الله فما رأيت تقيا محتاجا، والمحسبة مظان الرزق ومصادره وأسبابه، قال الحراني: وفيه إشعار بأنه عطاء متصل لا يتجدد ولا يتعدد؛ لأن كل محسوب في الابتداء محاسب عليه في الإعادة فكان في الرزق بغير محسبة بشرى برفع الحساب عنه، فالمؤمن الكامل يشهد الرزق بيد الرازق يخرج من خزائن الغيب فيجريه بالأسباب فإذا شهد ذلك كان قلبه مراقبا لما يصنع مولاه وعينه ناظرة لمختاره له معرضة عن النظر للأسباب فالساقط عن قلبه محسبة الرزق من أين وكيف ومتى بحيث لا يتهم ربه في قضائه يؤتى رزقه صفوا عفوا وتقواه معه وعلى رزقه طابع الإيمان والمتعلق بالأسباب قلبه جوال فإن لم يدركه لطف فهو كالهمج في المزابل يطير من مزبلة إلى مزبلة حتى يجمع أوساخ الدنيا ثم يتركها وراء ظهره وينزع ملك الموت مخالبه التي اقتنص بها الحطام ويلقى الله بإيمان سقيم دنس وينادى عليه يوم القيامة هذا جزاء من أعرض عن الله وإحسانه واتهم مولاه فلم يرض بضمانه» (72).

11- سبب في دخول الجنة بلا حساب، ولا عذاب لحديث ابن عباس في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهو:عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خرج علينا النبي-صلى الله عليه وسلم- يوماً فقال: "عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق فرجوت أن يكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب" فتفرق الناس ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك ولكنا آمنا بالله ورسوله ولكن هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن فقال أمنهم أنا يا رسول الله ؟ قال: "نعم" فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ فقال: "سبقك بها عكاشة"(73). وأما كيف يعارض التوكل مع أن التداوي قد ثبت في الصحاح عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة:

أحدها: قاله الطبري والمازري وطائفة أنه محمول على من جانب اعتقاد الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطبعها كما كان أهل الجاهلية يعتقدون، وقال غيره: الرقي التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية ومن الذي لا يعقل معناه لاحتمال أن يكون كفراً بخلاف الرقي بالذكر ونحوه ثانيها: قال الداودي وطائفة: إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة؛ خشية وقوع الداء، وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا، وقد قدمت هذا عن ابن قتيبة وغيره في باب من اكتوى وهذا اختيار بن عبد البر غير أنه معترض بما قدمته من ثبوت الاستعاذة قبل وقوع الداء.

ثالثها: قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المعدة لدفع العوارض فهم لا يعرفون الاكتواء، ولا الاسترقاء وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله والرضا بقضائه فهم غافلون عن طب الأطباء ورقي الرقاة ولا يحسنون من ذلك شيئاً والله أعلم.

رابعها: أن المراد بترك الرقي والكي: الاعتماد على الله في دفع الداء والرضا بقدره لا القدح في جواز ذلك, لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة وعن السلف الصالح، لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب وإلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه.

قال بن الأثير: هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء هم خواص الأولياء ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلاً وأمراً؛ لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل، فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله؛ لأنه كان كامل التوكل يقينا فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئا بخلاف غيره ولو كان كثير التوكل لكن من ترك الأسباب وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاما(74).

12- دخول الجنة بوجوه مضيئة على صفة القمر، قال أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يدخل الجنة من أمتي زمرة هي سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر"فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نمرة عليه قال: ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم، فقال: "اللهم اجعله منهم" ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "سبقك عكاشة"(75).

13- هم أول من يدخل الجنة لحديث: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، ولا اختلاف بينهم ولا تباغض،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» ۩∰۩ مقامات بديع الزمان الهمذاني ۩∰۩
»  مقامات بديع الزمان الهمذاني
» الفُكاهة في مقامات بديع الزمان الهمذاني
» ☆❀☆ شجرة الإيمان ☆❀☆
» *¤®§(*§ التوكل على الله سبحانه وتعالى §*)§®¤*

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
۞ منتديات كنوز الإبداع ۞ :: ۞ المنتديات الإسلامية ۞ ::  ۩ الإسلام .. دين السلام ۩-
انتقل الى: