إنَّ الشَّهوة غريزة مزروعة في الإنسان من الله - سبحانه - مثل شهوة النِّكاح ، وشهوة الأكْل ، وشهوة المال ، وغير ذلك من الشَّهوات ، وتتفاوت درجةُ هذه الشَّهوة من إنسانٍ لآخرَ.
ولقد جاء ذِكْر الشهوات في القرآن الكريم، وما تقع الشهوة عليه في قوله - تعالى -: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [آل عمران: 14 - 15].
وجاء ترتيبُ الشهوات في الآية ، فبدأ بالنِّساء ؛ لأنهنَّ أشدُّ فتنةً من التي تَليها ؛ كما ثبت في الصحيح : أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال : (( ما تركتُ بعدي فِتنةً أضرَّ على الرِّجال من النِّساء )) ، حيث إنَّ جميع هذه الشهوات من الشهوات المباحة ، ولكنَّها تتحوَّل إلى معاصٍ وآثام ، إذا تغيَّر المقصود من التمتُّع بها.
فإذا كان القصدُ بالنِّساء الزواجَ والإعفاف ، وكثرة الأولاد، فهذا مطلوبٌ مُرغَّب فيه ، مندوب إليه ؛ كما وردتِ الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه ، " فإنَّ خير هذه الأمَّة أكثرُها نساءً "، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( الدنيا متاع ، وخيرُ متاعها المرأة الصالحة ؛ إنْ نظر إليها سرَّتْه ، وإن أمرها أطاعتْه ، وإن غاب عنها حفظتْه في نفسِها وماله )) ، وقال في الحديث الآخر : (( حُبِّب إليَّ النِّساءُ والطِّيب، وجُعِلت قُرَّة عيني في الصلاة )).
وأمَّا إن كان المقصود في الفاحشة والزِّنا ، فهذه الشَّهوة هي الشهوة المحرَّمة التي نهانا الشارع الحكيم عنها ، ورتَّب الحدَّ على الوقوع فيها ، كذلك المال يكون للنفقة في القُربات ، وصِلة الأرحام والقرابات ، ووجوه البِرِّ والطاعات ، فهذا ممدوحٌ محمود عليه شرعًا ، ويكون للفخر والخُيلاء والتكبُّر على الضُّعفاء ، والتجبُّر على الفقراء ، فهذا هو المنهيُّ عنه.
أيضًا للخيل مقصودٌ ، فإنْ كان للجهاد في سبيل الله ، ونُصرة للدِّين ، فهو أمر مستحَبٌّ ، ويُثاب صاحبُه على ذلك؛ قال – تعالى -: { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } [الأنفال: 60]، وإمَّا لبلوغ القصْد في السَّفر ، والاقتناء للتعفُّف عن الحاجة ، فهو مباحٌ ، وأمَّا مجرَّد اللهو ، فهذا من السَّرف ، وأما قطع الطريق ، فمن المحرَّم.
ومِن الشهوات في وقتنا الحاضر : السَّهرُ والسفر ، وسماع الأغاني ، ومشاهدة المسلسلات ، وغيرها الكثير ، فماذا نحن عاملون تُجاهَها ؟! وإنَّ الله - تعالى - جعل هذه الشهواتِ ابتلاءً وامتحانًا ، أنَشكُر ونصبر ونتدبَّر؟
ويَرجع السببُ في الوقوع في الشهوات المحرَّمة ، أو الإسراف في الشهوات المباحة إلى اتِّباع الهوى ، والغفلة عن الطاعة ، ورفقة السُّوء ، والاحتقار والاستهتار بما فعل مِن معاصٍ ، وقد قال الله - تعالى - ذامًّا هؤلاء : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا } [مريم: 59]، وقال – سبحانه - مبيِّنًا حقيقةَ هذه الدنيا : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا } [الحديد: 20].
وجاء عن أنس - رضي الله عنه – أنَّه قال : " إنَّكم لتعمَلون أعمالاً هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعر، إن كنَّا لنعدُّها على عهد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الموبقات "، ووصف الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم – الدنيا قائلاً : (( ما الدنيا في الآخرة إلاَّ مثل ما يجعل أحدُكم إصبعَه في اليمِّ، فلينظر بما يرجع ))، وأشار بالسبابة.
وعدم معرفة قدر الدنيا، وأنَّها لا تَزِن عندَ الله جَناحَ بعوضة؛ كما جاء في الحديث : (( لو كانتِ الدُّنيا تزن عندَ الله جناحَ بعوضة، ما سَقَى كافرًا منها شربةَ ماء )) ، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (( ما لي وللدنيا ؟ إنَّما مَثلي ومثل الدنيا كمثل راكبٍ قال في ظلِّ شجرة في يوم صائف، ثم راح وتَرَكها )).
وجهل الإنسانِ، أو تجاهلُه بعواقب ما يرتكبه من معاصٍ، وعدم معرفة مآل الإنسان في الآخرة، إمَّا لجنة، أو إلى نار، قال الرسول - عليه الصلاة والسلام -: (( حُفِّت النار بالشهوات، وحُفِّت الجنة بالمكاره )).
وإنَّ الإنسان لا يُدرك حين يعمل المعصية إلاَّ لذَّة فعْلِه لها، وإنَّما هي لحظات، وتنتهي وتبقى حسرتُها والندامة عليها، وتبقى أيضًا آثارُها التي ذكرها ابن القيم في "الجواب الكافي"، فإنَّها تُدخل العبدَ تحت لعنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّه لعن على معاصٍ كثيرة، فَلَعَن الواشمةَ والمستوشمة، والواصلة والموصولة، والنامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة، وَلَعَن آكِلَ الرِّبا وموكلَه وكاتبه وشاهده.
وإنَّها تُورِث الذلَّ والمهانة لدى الإنسان، قال عبدالله بن المبارك :
وإنَّها سببٌ لزوال النِّعم ؛ كما جاء في الأثر عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: " ما نزل بلاء إلاَّ بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة "، وقد قال - تعالى -: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى: 30]، وقال - تعالى -: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأنفال: 53]، نَسأل الله العافية، وإذا تكرَّر هذا من كلِّ إنسان في المجتمع، فَستحُلُّ العقوبةُ الجماعيَّة.
كما جاء في الحديث عن زينبَ بنت جحش - رضي الله عنها -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - دخل عليها فزعًا، يقول : (( لا إلهَ إلاَّ الله ، ويلٌ للعرب مِن شرٍّ قدِ اقترب، فُتِح اليومَ من رَدم يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذا ))، وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها ، فقالت زينب : فقلت : يا رسول الله ، أنَهلِك وفينا الصالحون ؟ قال : (( نعم ، إذا كَثُر الخبث )).
إنَّها تُحدِث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه والهواء، والزَّرع والثِّمار والمساكن؛ قال - تعالى -: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون } [الروم: 41]، وهذا ما يحصُل في وقتنا الحاضر، وجاء في الحديث أيضًا عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : (( أَقبَل علينا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال : (( يا معشرَ المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهنَّ - وأعوذ بالله أن تدركوهن -: لم تظهرِ الفاحشةُ في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها، إلاَّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مَضتْ في أسلافهم....)) الحديث.
أسأل الله أن يحمي مجتمعنا الإسلاميَّ من المعاصي، وألاَّ يؤاخذَنا بما فعل السفهاء منَّا.