الحرم المكي : هو أول بيت وضع على الأرض يُعبد الله فيه ، مباركاً وهدىً للعالمين ، وتقع فيه الكعبة قبْلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وقد أجمع علماء المسلمين على أن مكة المكرمة والمدينة المنورة هما أفضل بقاع الأرض على الإطلاق ، ويليهما في الأفضلية بيت المقدس .
وفي الحديث : " والله أنك لأحبُّ البقاع إلى الله ، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت " .
وتاريخ مكة حافل بالتوقير والتعظيم من بطحائها سطع النور ، وهي مهبط الوحي ، ومتعلق قلوب المسلمين .
ولمكة أسماء كثيرة وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى ، منها : مكة ، لقوله تعالى : { ببطن مكة } .
بكة ، لقوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة } .
البلدة ، قال تعالى : { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة التي حرمها } .
البلد ، قال تعالى : { لا أقسم بهذا البلد } .
أم القرى ، لقوله تعالى : { لتنذر أم القرى } .
الوادي ، قال تعالى : { بوادٍ غير ذي زرع } .
وتضم مكة الكثير من الآثار الإسلامية منها :
مقام إبراهيم ، بئر زمزم ، دار الأرقم ، غار حراء ، وغار ثور .
وقديماً عظم الله بيته وحماه ، فكل من أراد به سوءاً قصم الله ظهره ، ومن أراد تعظيمه وإجلاله أمدّ الله له في الخير والسلطان ونصره وأعزّه .
ولأهمية البيت العتيق فقد صُنّفت فيه التصانيف ، ودُوّنت فيه الدواوين ، ووردت روايات كثيرة في أول من بناه ، وقد ذكر بعض المؤرخين أن الكعبة المشرفة بًنيت إحدى عشرة مرة .
إن أول من بناه الملائكة ، ثم آدم ، ثم شئث ، ثم إبراهيم وإسماعيل ، ثم العمالقة ، ثم جُرْهُم ، ثم قُصَيّ ، ثم قريش ، ثم عبد الله بن الزبير ، ثم الحجاج بن يوسف الثقفي ، ثم السلطان مراد ب السلطان أحمد من سلاطين آل عثمان .
ولا خلاف إن أول من عَمَّر البيت بعد الطوفان إبراهيم عليه السلام ، إذ وضع ابنه إسماعيل وزوجته هاجر عند مكان البيت حيث ذاك ، حيث لا يوجد به ساكن .
ففي البخاري : " أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أمّ إسماعيل ، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وابنها إسماعيل وهي تُرضعه ، حتى وضعها عند البيت عند دَوْحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندها جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قَفَى إبراهيم منطلقاً فتبعته أمّ إسماعيل ، فقال : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقال : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يُضيعنا ، ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثّنيَّة ، حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال : { ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرَّم } حتى بلغ { يشكرون } .
وجعلت أمّ إسماعيل تُرضع إسماعيل ، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أو قال : يتلبط ـ قال : فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود ، حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ، ثم نظرت هل ترى أحداً ، فلم ترى أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلذلك سعى الناس بينهما " ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه ـ تريد نفسها ـ ثم تسمَّعت فسمعت أيضاً ، فقالت : قد أسمعت إن كان عند غَوَاثٌ فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه ـ أو قال : جناحه ـ حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه ، وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها ، وهو يفور بعدما تغرفه ، قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم ـ أو قال : لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عيْناً معيناً " ، قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها المَلَك : لا تخافي الضيعة ، فإن هاهنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يُضيع أهله ، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهًم ، أو أهل بيت من جُرْهُم مُقْبلين من طريق كداء ، فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائراً عائفاً فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جرياً أو جريين ، فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا وأمّ إسماعيل عند الماء ، فقالوا ، أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء عندنا ، قالوا : نعم . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فألفى ذلك أم إسماعيل ، وهي تُحبُّ الأنْس " فنزلوا وأرسلوا إلى أهلم فنزلوا معهم ، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبَّ الغلام ، وتعلَّم العربية منهم ، وأنْفَسَهم ، وأعجبهم حين شبَّ ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم ، وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل ، يطالع تركته ، فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عند ذلك ، فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيأتهم ، فقالت : نحن بشرٍّ ، نحن في ضيق وشدة ، فشكت إليه . فقال : فإذا جاء زوجك فاقْرإي عليه السلام ، وقولي له : يًغيِّر عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً ، قال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم ، جاء شيخ كذا وكذا ، فسألنا عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا فأخبرته إننا في جهد وشدة ، قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول غيِّر عتبة بابك ، قال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك ، فألحقي بأهلك ، وطلّقها وتزوج منهم بأخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بَعْدُ فلم يجده ، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ، قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بخير وسعة ، وأثَنت على الله عز وجل ، قال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحم ، قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماء ، قال : اللَّهم بارك لهم في اللحم والماء ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ولم يكن لهم يؤمئذ حبٌّ ، ولو كان لهم لدعا لهم فيه " ، قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه ، قال : فإذا جاء زوجك فقْرإي عليه السلام ، ومُريه يُثبِّت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد ؟ قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه ، فسألني عنك فأخبرته ، فسألني كيف عيشنا فأخبرته ، أنا بخير ، قلا : فأوصاك بشيء ؟ قالت نعم ، هو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تُثبت عتبة بابك ، قال : ذاك أبي وأنت العتبة ، فأمرني أن أمسكك ، ثم لبث عنهم ما شاء الله ، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دَوْحَة قريبة من زمزم ، فلما رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ، ثم قال : وتُعينني ؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها ، قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة ، وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء فجاء بهذا الحجر فوضعه له ،فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان : { ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم } قال : فجعلا يبنيان وهما يدوران حول البيت وهما يقولان : { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } .
وأما ما جاء في أمن حرم مكة فمنه قوله تعالى إخباراً عن الخليل إنه قال : { رب اجعل هذا البلد آمناً } . أي من الخوف لا يرعبُ أهله ، وقد فعل شرعاً وقَدَراً ، قال تعالى : { ومن دخله كان آمناً } وقال تعالى : { أو لم يروا أنا جعلنا لهم حرماً آمناً ويُتخطفُ الناس من حولهم } .
وفي الحديث : " إن إبراهيم حرّم مكة ودعا لها ، وحرمّتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوتُ لها في مُدِّها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة " .
حدودالحرم المكي من جميع جهاته :
من المواضيع التي تهم كثيراً من الناس ، وتتميماً للفائدة أذكر أهم ما كتب عنها في بعض كتب التاريخ ، فقد ذكر الأزرقي في أخبار مكة عدة روايات عن أنصاب الحرم ، أهمها :
إن أول من نصب أنصاب الحرم المكي إبراهيم عليه السلام ، يُريه جبريل عليه السلام ، ثم لم تُحرك حتى قُصَيّ فجددها ، ثم لم تُحرك حتى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث عام الفتح تميم بن أسد الخزاعيّ فجددها ، ثم لم تحرك حتى كان زمن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فبعث أربعة من قريش كانوا يبتدئون في بواديها فجددوا أنصاب الحرم ، فمنهم مَخْرَمةُ ابن نوفل وأبو هود سعيد بن يربوع المخزوميّ، وحُويطب بن عبد العُزَّى ، وأزهر بن عبد عوف الزهري ، ولما ولّي عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وأمر أن يجدد أنصاب الحرم ، ولما ولّي معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ كتب إليه واليه بمكة فأمره بتجديد أنصاب الحرم .
وحدود الحرم هي :
من طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت غفَار على ثلاثة أميال ، ومن طريق اليمن طرف إضاءة لبن في ثنيّة لبن على سبعة أميال ، ومن طريق جدة منقطع الأعشاش على عشرة أميال ، ومن طريق الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة على إحدى عشر ميلاً ، ومن طريق العراق على ثنيّة خلّ بالمقطع على سبعة أميال ، ومن طريق الجعرّانة في شعب عبد الله بن خالد بن أُسَيْد على تسعة أميال .
وأسباب الخلاف بين العلماء في المسافة بين الحدود والمسجد الحرام ناتج عن أمرين :
أحدهما : الاختلاف في بدء الذراع هل هو من باب المسجد الحرام أم من باب مكة ، مثل باب الشُّبَيْكَة ، أو باب المعلاة .
والثاني : الاختلاف في قدر الميل ، حيث أن بعض العلماء قدّره بستة آلاف ذراع باليد ، وبعضهم قدّره بأربعة آلاف ذراع ، وبعضهم بثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع ، وبعضهم قدّره بألفي ذراع ، كما أن الذراع يختلف باختلاف الأجسام في الطول والقصر .
وفي رواية أخرى للأزرقي : إن آدم عليه السلام اشتد بكاؤه وحزنه ، لما كان من عظم المصيبة ، حتى أن كانت الملائكة لتحزن لحزنه وتبكي لبكائه ، فعزَّاه الله بخيمة من خيام الجنة ، وضعها له بمكة في موضع الكعبة ، قبل أن تكون الكعبة ، وتلك الخيمة ياقوته حمراء من يواقيت الجنة ، وفيها ثلاثة قناديل من ذهب من تبْر الجنة ، فيها نور يلتهب من نور الجنة ، والركن يومئذ نجم من نجومه ، فكان ضوءه ينتهي إلى موضع الحرم ، فلما سار آدم إلى مكة حَرَسَها الله حَرَس تلك الخيمة بالملائكة ، فكانوا يقفون على مواضع أنصاب الحرم يحرسونه ويذودون عنه سكان الأرض ، وسكانها يومئذ الجن والشياطين ، فلا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شيء من الجنة لأنه من نظر إلى شيء منها وجبت له ، والأرض يومئذ طاهرة نقية طيبة لم تنجّس ، ولم تسفك فيها الدماء ، ولم تعمل فيها الخطايا ، ولذلك جعلها الله تعالى يومئذ مستقراً لملائكته ، وجعلهم فيها كما كانوا في السماء ، يسبحون الليل والنهار لا يفتُرون ، فلم تزل تلك الخيمة مكانها حتى قبض الله تعالى آدم ، ثم رفعها إليه .
كما قيل : إن جبريل عليه السلام جاء بالحجر إلى إبراهيم عليه السلام ، فوضعه في موضعه هذا ، فأنار شرقاً وغرباًَ ويميناً وشاماً ، فحرّم الله تعالى الحرم من حيث انتهى نور الركن وإشراقه من كل جانب .
وقيل لما قال إبراهيم : { وأرنا مناسكنا } أنزل الله جبريل ، وذهب به فأراه المناسك ، ووقَفَهُ علىحدود الحرم ، فكان إبراهيم يَرْضمُ الحجارة ، وينصب الأعلام ، ويحثى عليها التراب وكان جبريل عليه السلام يقفه على الحدود .
وقد جاء في تحفة الألباب شرح الأنساب ذكر الحجر وأن أصله ياقوته أُهبطت من الجنة لآدم ، ليستأنس بها ، وكانت تُضيئ ، وحيث بلغ ضوؤها هو الحرم .
ونذكر هنا على سبيل الاستطراد بعض أخبار من عظّم البيت الحرام في الجاهلية ، ومَنْ أراده بسوء :
فأما تُبَّعُ أسعد أبو كُرَيْب فإنه لما أشار إليه رجال من هُذَيْل بهدم البيت ونهب كنزه استشار الأحبار الذين معه ، فقالوا : أبيت اللعنه ، إن هؤلاء يريدون قتلك ، فإنا لانعلم بيتاً لله غير هذا البيت ، وما قصده جبّار إلا قصمَه الله ، بل إنا نشير عليك بأن تطوف بهذا البيت ، وأن تعظّمه ، وأن تكسوه ، ففعل .. وكان بذلك أول من كسا البيت ، فزاده الله أُبَّهَةٌ ، ومكَّن له في الأرض .
وعلى العكس من ذلك ، فإن أبرهة الأشرم لمَّا لطَّخ نُفَيْل الخثعمي كنيسته بالقَذرَة وألقى فيها الجيف ، أقسم ليهدمَنَّ بيت العرب حجراً حجراً ، فتوجه إلى مكة ، ولمَّا نزل المُغَمَّس على ثلث فرسخ من مكة بعص رجلاً من الحبشة يُقال له الأسود بن مقصود على خيل يحشر له أموال أهل مكة ، فجمع سوائم ترعى في الحرم لأهل تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير مقلّدة لعبد المطلب بن هاشم ، فبعث أبرهة حُناطة الحمْيري إلى مكة ، فقال : سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ، ثم أخبره أن الملك يقول : إني لم آت لحربكم ولا لقتال أحد ، إنما جئت لأهدم هذا البيت لمَا نذرتُ وأوجبت على نفسي ، من أجل ما صنعت العرب بكنيستي ، فإن صددتمونا عنه قاتلناكم ، وإن تركتمونا هدمناه وانصرفنا عنكم ، قال : فإن هو لم يرد حربي فائتني به ، فسأل حُناطة عن سيد قريش وشريفهم ، فقيل له : عبد المطلب بن هاشم ، فجاءه وأخبره بما قال له أبرهة ، فقال عبد المطلب : والله ما نريد حربه وسنخلِّي بينه وبين ما يريد ، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن يُخلِّ بينه وبينه فوالله ما عندنا مَنْ يدفعه عنه ، فقال حُناطة : انطلق معي إلى الملك ، فإني قد أمرني أن آتيه بك ، فانطلق عبد المطلب ومعه ولده الحارث ، فلما استأذن عبد المطلب على ملك الحبشة ، فأذن له ، فلما رآه أجلَّه واستعظمه ، وكان أبرهة على سرير فنزل ، وجلس مع عبد المطلب على بساط تحت السرير ، وقال لترجمانه : قل له كل حاجة جئت تطلبها فهي مقضية لك ، فقال عبد المطلب : إن جيشك عدا على مائتي ناقة لي فأخذوها ، أسألك أن تردها عليّ ، فقال لترجمانه : قل لما رأيتك أعجبتني ثم زهدت فيك ، حين تكلمني في أبْعُر أصبناها وتركت بيتاً هو دينك ودين آبائك وعزّك وشرفك ، لا تُكلمني فيه ، وقد جئت لأهدمه ، فما منعك أن تكلمني فيه ، أما إبلك فقد رددناها عليك ومثلها ، فقال عبد المطلب ، أنا ربُّ الإبل ، وإن للبيت الذي تريده رباً سيحميه ، قال أبرهة : ما كان يمتنع مني ، قال عبد المطلب : أنت وذلك . فرّد أبرهة لعبد المطلب إبله ، وأمر بالرحيل إلى مكة ، ليهدم البيت ، ولما رجع عبد المطلب إلى قريش أخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة خوفاً عليهم من معرَّة الجيش وأخذ بحلقة باب الكعبة وقال مرتجزاً :
يا رب لا أرجو لهم سواكيا رب فامنع منهم حماك
إن عدو البيت من عـادكامنعهـم أن يخربـوا قـراك
ولما أصبح أبرهة أمر أصحابة بالتعبئة وصفوا صفوفهم ، وقدّموا الفيل كما يصنعون في الحروب ، فلما وجهو الفيل إلى مكة وقدّموا فيل النجاشي الأكبر ، واسمه محمود ، فأقبل نوفيل بن حبيب الخثعميّ حتى قام إلى جنب الفيل ، فقال في أذنه : أبرك محمود ، وارجع راشداً من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ، فبرك الفيل ، وخرج نوفيل يشتد حتىطلع الجبل ، فكان الفيل إذا وجهوه إلى مكة برك ، وإذا وجهوه إلى أي جهة أخرى تحرك ، فلم يزالوا كذلك حتى إذا كان مع طلوع الشمس ، ويقال حتى غشيهم الليل ـ خرجت عليهم طير من البحر لها رؤوس مثل السباع ، شبيهة بالوطاويط ، بُلْقٌ حمر وسُود ، لم تر قبل ذلك ولا بعده ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، فجاءت حتى صفت على رؤوسهم ، وصاحت وسارت تعجُّ عجيجاً ، وألقت ما في الأرجل والمناقير ، فما وقع حجر على بطن إلا خرقه ، ولا على عظم إلا أوهاه وفتته ، ولا على رأس رجل إلا خرج من دبره .
وقيل إن ذلك أول ما أصاب الجُدُريّ ، ولم ير قبل هذه الطير ، وهلكوا جميعهم فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون بكل مهلك ، وأرسل الله السيل فذهب بأصحاب الفيل فألقاهم في البحر ، فلما رأت العرب ما أصاب الجيش أعظمت قريشاً وأهل مكة ، وقالوا : هؤلاء أهل الله ، قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم .
وهذه القصة في القرآن الكريم ، علاوة على الأخبار المتواترة .
التوسعات التي مرت على الحرم المكي حتى الآن
كانت التوسعة الأولى في عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حين قال : افسحوا لبيت الله رحبته أنتم نزلتم عليه ، فاشترى الدور المجاورة للكعبة وأدخلها في صحن البيت ، ثم ضرب حدوداً للمسجد لأول مرة في السنة السابعة عشرة حيث قدم ـ رضي الله عنه ـ إلى مكة ، حين جاء سيل عظيم واقتلع المقام من مكانه ، فذهب به ، فكتب الناس إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فأقبل منزعجاً فدخل مكة في شهر رمضان ، وقد أعفى السيل مكان المقام ، فدعا عمر الناس وقال : أنشد الله عبداً عنده علم في هذا المقام ، فقال عبد المطلب بن أبي وَداعة السَّهْمي : أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك ، فقد كنت أخشى عليه هذا ، فأخذت قدره من موضعه إلى الركن ، ومن موضعه إلى باب الحجر ، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط ، وعندي في البيت . فقال له عمر : أجلس عندي ، وأرسل إليها فأتي بها فمدّها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا ، فسأل الناس وشاورهم ، فقالوا : نعم ، هذا موضعه ، فلما استثبت ذلك عمر ـ رضي الله عنه ـ فأمر به فردّ في مكانة .
وكانت مساحة المسجد الحرام عند خلافة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لا تتجاوز حدود بئر زمزم ، والمطاب غرباً ، وكذلك من الشمال والجنوب ولم تكن تتجاوز صحن الكعبة ، فضاق حين ذلك المسجد بالمصلين فاشترى عمر ـ رضي الله عنه ـ المنازل المجاورة للمسجد ، فهدمها وأدخلها في أرض المسجد وأقام جداراً حول المسجد ، كان ارتفاعه دون القامة ، وهو أول من وسع المسجد وأحاطه بجدار ، وجعل له أبواباً ، كما أمر بعمل سد لحجز السيول عن الكعبة ، وكانت تلك الزيادة العمرية في السنة السابعة عشرة من الهجرة .
ثانياً : توسعة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ :
كان لاتساع الفتوحات الإسلامية في عهد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ سبباً كبيراً أدى إلى زيادة روّاد المسجد الحرام وازدحام مكة بالسكان ، فاشترى عثمان بن عفان المنازل الملاصقة للمسجد فوسع بها المسجد ، وكان ذلك في السنة السادسة والعشرين من الهجرة ، وكان عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أول من اتخذ الأروقة للمسجد الحرام .
ثالثاً : هدم عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ للكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم :
رد عبد الله بن الزبير الكعبة على هيأتها التي كانت عليها على قواعد إبراهيم قبل بناء قريش لها ، وإخراج الحجر منها لنقص النفقة عليهم ، ذلك لأن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أخبرته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ارتفاع باب الكعبة ، فقال ما معناه : أولئك قومك يريدون إدخال من شاءوا فيها ومنع من شاءوا ، ولولا قومك حديثو عهد بكفر لهدمت البيت ولجعلته على قواعد إبراهيم ، ولجعلت له بابين : باب من الشرق وباب من الغرب ، فقال لها ابن الزبير : أنا قادر على النفقة وقومك بَعُد عهدهم عن الكفر ، فسأبني البيت على قواعد إبراهيم ، ففعل .
وبعد أن انتهى عبد الله بن الزبير من عمارة الكعبة المشرفة بدأ بعمارة المسجد الحرام ، فاشترى المنازل المجاورة للمسجد وأدخلها في مساحته ، فازداد المسجد زيادة كبيرة تُقدّر بحوالي 16.000 م2 ، وكان ذلك عام خمس وستين من الهجرة النبوية .
رابعاً : هدم عبد الملك بن مروان للبيت وإعادة بناء قريش :
لما قتل الحجاج أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى عبد الملك بن مروان يقول : إن ابن الزبير جعل الكعبة على قواعد إبراهيم فماذا أفعل ؟ فردّ عليه عبد الملك : أن أردد الكعبة إلى ما كانت عليه قبل بناء ابن الزبير ، وارفع من جدرانها ولا تترك لنا أثراً لابن الزبير هناك .
فأعاد عامله الكعبة على بناء قريش ، وزاد في ارتفاع جدرانها وسقّفها بخشب السَّاج ، زويَّن أساطينها ، ووضع على رأس أسطوانة مثقالاً من الذهب ، وسبب ذلك كان من تصدع في العمارة السابقة .
وورد أن عبد الملك لما اجتمع بالحارث بن أبي ربيعة الملقب "بالقُبَّاع " . أخي عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ ، وكان صديقاً لعبد الملك ، فجرى في الحديث معه ذكر حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ الذي بموجبه غيّر ابن الزبير بناء الكعبة ، فندم عبد الملك على مافعل ، وقال : لو بلغني هذا الحديث قبل التصرّف في البيت لتركته على ما فعل ابن الزبير ، والله أعلم .
خامساً : توسعة الوليد بن عبد الملك :
وسّع الخليفة الوليد بن عبد الملك المسجد الحرام وأقام العقود ، وزيّن الجدران بالفسيفساء ، وشيد الشرفات ليستظل بها المصلون ، وسقّف المسجد بالساج المزخرف ، وزين رؤوس الأساطين بالذهب ، وآزر المسجد بالرخام من الداخل ، وكان ذلك في سنة واحد وتسعين من الهجرة .
سادساً : توسعة الخليفة أبي جعفر المنصور :
زاد أبو جعفر المنصور مساحة المسجد الحرام من الشمال والغرب ، وشيد منارة في الركن الشمالي الغربي ، وفرش حجْر إسماعيل بالرخام ، كما أحاط بئر زمزم لمنع السقوط فيه .
وتمت تلك التوسعة في عام سبعة وثلاثين ومائة من الهجرة النبوية .
سابعاً : توسعة الخليفة المهدي العباسي :
ومن أبرز التوسعات وأعظمها للمسجد الحرام التوسعة المهدية ، فقد وسَّع الخليفة المهدي العباسي المسجد الحرام على مرحلتين :
الأولى : كانت في عام واحد وستين ومائة من الهجرة ، حيث اصطحب معه أموالاً كثيرة واشترى الدور المحيطة بالمسجد الحرام ، وهدمها وزاد في مساحة المسجد من جميع جهاته ، وأمر بنقل الأعمدة الرخامية إلى المسجد ، وشيّده على أحسن تشييد ، وسقَّف المسجد بأفخر أنواع الخشب.
وفي عام أربعة وستين ومائة حجَّ حجته الثانية ، وبعد أن اكتملت التوسعة الأولى التي قام بها للمسجد الحرام ، لاحظ المهدي أن المسجد لم يتسع من الناحية الجنوبية كاتساعه من الجهات الأخر ، مما جعل المسجد يظهر بصورة غير مرضية ، لكون الكعبة ليست في وسطه ، فاستدعى المهندسين وشاورهم بخصوص وضع الكعبة في وسط المسجد ، فرأوا أن ذلك من الصعوبة بمكان ، لأن هناك عقبات طبيعية تعترض توسعة المسجد من هذه الناحية ، حيث تعترض التوسعة مجرى مسيل وادي إبراهيم عليه السلام ، ولأن الأمر يستدعي تحويل مجرى هذا السيل فوضّح المهندسون للخليفة صعوبة تحويل مجرى السيل وكثرة النفقات المترتبة على ذلك ، فصمّم الخليفة على توسعة المسجد وتحقيق رغبته في هذا الشأن ، فبدأ المهندسون في تنفيذ وتحقيق رغبة الخليفة ، وحوّلوا مجرى السيل رغم كثرة النفقات وعظم الجهد ، ولكن الخليفة عاجلته المنيّة ، ولم يكتمل العمل في المسجد إلا في خلافة ابنه موسى الهادي .
وبلغت مساحة المسجد بعد الزيادة المهدية 120.000 ذراعاً ، وبلغ عدد الأعمدة الرخامية التي ضمتها عمارة المهدي 484 عموداً موزعة على جميع جهات المسجد الأربع ، ومن بين هذه الأعمدة ثلاثمائة وعشرون عمواداً مُذهَّب الرأس ، وارتفاع كل عمود عشرة أذرع وسمك محيطه ثلاثة أذرع .
وبلغ عدد أبواب المسجد الحرام 23 باباً موزعة بجميع جهات المسجد .
وقدّرت النفقات التي صرفها الخليفة المهدي على توسعة المسجد الحرام بأربعة ملايين ونصف من الدنانير .
ثامناً : توسعة الخليفة المعتضد العباسي :
أدخل الخليفة المعتضد ما بقي من دارة الندوة في المسجد الحرام ، وأصبحت من أروقة المسجد الحرام وأقيمت فيها الأعمدة ، وسقّفت بالخشب الساج ، وجعل سقفها مسامتاً لسقف المسجد الحرام .
كما جعل لها اثني عشر باباً من الداخل على المسجد ، وثلاثة أبواب من الخارج ، وكان العمل في تلك التوسعة في عام أربعة وثمانين ومائتين من الهجرة النبوية .
تاسعاً : توسعة جعفر المقتدر بالله :
كانت هذه التوسعة في باب إبراهيم الخياط في عام ست وثلاثين ، وقد شملت دارين للسيدة زبيدة ، أدخلت مساحتهما في المسجد الحرام ، وجعل لها باباً كبيراً هو باب إبراهيم .
وبعد التوسعة العباسية في عهد المقتدر بالله لم تحدث على المسجد الحرام توسعة تُذْكر ، بل كان إصلاحات وتجديدات على الأساطين والعقود والسقوف .
وفي عام ثلاثة وثمانمائة هجرية ، قام بيسق الظاهري نيابة عن السلطان أبي السعدات بن الظاهر برقوق بإجراء ترميم شامل على المسجد الحرام ، بعد الحريق الذي شبّ في القسم الغربي ، وامتد إلى القسم الشمالي ، فاستبدل الأعمدة الرخامية التي أتلفها الحريق ، وكان عددها 130 عموداً ، بأعمدة من الحجر ، وقد جلب بيسق الظاهري الخشب اللازم للسقوف من بلاد الروم ، وبعد أن تمت عمارة المسجد نُقشَت السقوف وزينت ، وزودت بسلاسل معدنية علقت فيها المصابيح خشية تكرار الحريق .
وفي عهد الدولة العثمانية قام السلطان سليمان بتجديد سطح الكعبة المشرفة ، وفرش المطاف ، وأهدى للمسجد الحرام منبراً رخامياً مطعّماً بالمرمر ، وكان هذا في عام اثنين وسبعين وتسعمائة هجرية .
عاشراً : توسعة السلطان سليم العثماني :
تعتبر توسعة السلطان سليم العثماني من أكبر التوسعات التي أجريت على المسجد الحرام ، حيث تضاهي توسعة الخليفة المهدي العباسي .
فقد أعاد السلطان سليم بناء المسجد الحرام بعناية وإتقان ، فحلت القباب محل السقف الخشبي ، وأقام العديد من الأعمدة الرخامية ، فبلغ عددها 589 عموداً ، منها 311 عموداً من عمارة الخليفة المهدي العباسي موزعة على جميع جهات المسجد الحرام .
كما بلغ عدد العقود 881 عقداً موزعة في جوانب المسجد ، كما ضم المسجد 152 قُبَّة موزعة على جهات المسجد الأربع .
وبلغت أبواب المسجد الحرام في التوسعة العثمانية ستة وعشرين باباً : في الجانب الجنوبي سبعة أبواب ، وفي الجانب الغربي ستة أبواب ، وفي الجهة الشمالية ثمانية أبواب ، وفي الشرق خمسة أبواب .
وبلغت مساحة المسجد الحرام في التوسعة العثمانية 28.003م2 .
ولا تزال العمارة العثمانية باقية حتى الآن داخل العمارة السعودية الأولى ، وبعد العمارة العثمانية في سنة أربع وثمانين وتسعمائة أجري على المسجد الحرام عدة ترميماتّ وإصلاحات في عهد كل من :
( أ ) السطان محمد خان في عام ألف وخمسة هجرية .
( ب ) السلطان عبد العزيز العثماني في عام سبعة وثمانين ومائتين وألف هجرية .
( جـ ) السلطان عبد الحميد في سنة أربع عشر وثلاثمائة وألف هجرية .
( د ) السلطان محمود رشاد في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وألف هجرية .
وبهذا ينتهي الدور العثماني في توسعة المسجد الحرام وترميمه ، وندخل في العهد السعودي .
إن من أعظم التوسعات التي مرت علينا التوسعة السعودية للمسجد الحرام ، فقد كان المسجد الحرام بجانب التوسعات المتتالية التي سبقت التوسعة السعودية يضيق بالعاكفين والركع السجود ، وكان من الصعوبة بمكان الوصول إلى المسجد الحرام ، نظراً لوجود المباني المنتشرة حوله ، وضيق الطرق المؤدية إليه ، مما سبب بعض العوائق والمشاق في الدخول إليه والخروج منه .
وكما أن المسعى كانت تفصل بينه وبين المسجد الحرام المباني ، فيختلط قاصد العبادة بقاصد الدنيا داخل المسعى مما يشوش على الساعي ، فضلاً عن الانفجار السكاني الهائل والتطور السريع الذي شهده العصر الحاضر ، فقد تضاعف عدد الحجّاج والزوّار القادمين للحرمين الشريفين ، مما جعل الحاجة ملحَّة إلىتوسعة الحرم المكي توسعة تتلاءم والسيل العارم من الوافدين إلى البلاد المقدسة ، فواكب ذلك اهتمام آل سعود بالمساجد وتوسعتها وفي مقدمة ذلك المسجد الحرام ، والمسجد النبوي .
لقد أجرى الملك عبد العزيز ترميمات عدة على المسجد المكي ، وذلك حينما أمر بترميم وإصلاح كل ما يقتضي الأمر إصلاحه في المسجد الحرام ، وتلى ذلك أمره بإصلاح كلي للمسجد الحرام من الداخل والخارج .
وفي عام أربعة وخمسين وثلاثمائة وألف عهد الملك عبد العزيز إلى ابنه الأمير فيصل بإصلاح شامل للمسجد الحرام ، فأشرف فيصل بنفسه على إصلاح المسجد الحرام ، وجدد كل ما يحتاج إلى التجديد ، وكان حين ذلك نائب جلالة الملك بالحجاز .
الحادي عشر : توسعة الملك سعود بن عبد العزيز :
المرحلة الأولى : أصدر الملك سعود في عام خمسة وسبعين وثلاثمائة وألف هجرية أمْرَه السامي بإجراء توسعة شاملة للمسجد الحرام .
ففي الخامس من محرم عام خمسة وسبعين وثلاثمائة وألف صدر الأمر بنقل جميع الأدوات والمعدات التي استخدمت في مشروع توسعة المسجد النبوي إلى مكة المكرمة ، للشروع في توسعة المسجد الحرام ، وفي اليوم الرابع من شهر ربيع الثاني من نفس السنة بدأت أعمال التوسعة في منطقة أجياد والمسعى من الجهتين الجنوبية والشرقية ، وهُدمت الدور والمباني القائمة وتم تعويض أهلها .
ثم بُديءَ بشق طريق جديد يمتد بجانب الصفا والمروة إلىحي القرارة والشامية ، فتمكن بذلك الحجاج من السعي دون إزعاج المارة .
وفي شعبان من نفس العام وضع أساس هذه التوسعة ، وتم بناء المسعى في هذه التوسعة من طابقين
وأصدر الملك خالد أمره الكريم بعمل تهوية وتكييف للمسعى حرصاً منه على راحة ضيوف الرحمن .
كما تم تحويل مجري السيل إلى أسفل المسجد ، والاتحاه به إلى منطقة المسفلة ، ويبلغ طول مجري السيل سبعة كيلو مترات ، وعرضه خمسة أمتار ، وارتفاعه ستة أمتار ، مما جانب البيت العتيق والمسجد الحرام خطر السيول .
المرحلة الثانية : بدأ تنفيذ هذه المرحلة في عام تسعة وسبعين وثلاثمائة وألف ، حيث أزيلت فيها المباني من منطقة زقاق البخاري إلى منطقة باب إبراهيم ، تمهيداً لعمارة المنطقة الجنوبية ، ثم بني الرواق الجنوبي بطابقين ، بالإضافة إلى بدروم تحت هذا الرواق .
وغُطيت جدرانة بالمرمر والعقود بالحجر الصناعي المنقوش ، وأقيم بهذه الجهة باب الملك عبد العزيز ، الذي يتكون من ثلاثة أبواب كبيرة ، من أجود أنواع الخشب المزين بالنحاس .
وأقيم الطابق الثالث فوق الرواق الجنوبي ، كما أقيم في هذا الجانب ثلاث منارات : واحدة بجوار الصفا ، وكانت بدايتها بالمرحلة الأولى ، واثنتان بجوار باب الملك عبد العزيز ، وتم تسقيف ما بقي من مجرى السيل الذي بُديء به بالمرحلة الأولى ، وتم هدم بعض الأبنية القديمة التي كاننت تحُول بين المصلين بالطابق الأول من الرواق الجنوبي ورؤية الكعبة المعظمة .
المرحلة الثالثة : بدأت هذه المرحلة في عام واحد وثمانين وثلاثمائة وألف هجرية الموافق واحد وستين وتسعمائة وألف ، وفي هذه المرحلة أزيلت المبناي ، وحُفرت الأُسُسُ ، وارتفع بناء الرواق الغربي ، ويتكون من البدروم وطابقين ، علوهما مماثل لعلو الرواق الجنوبي ، وسقف الرواق الغربي غُطيت جدرانه بالرخام ، وعقوده وسقفه بالحجر الصناعي المنقوش ، وتم بناء الرواق الشمالي ، ويمتد من باب العمرة إلى باب السلام ، وتم بناء منارتين بجوار باب العمرة ، وتم بناء الطابق السفلي الذي أقيم تحت أبنية الحرم ما عدا المسعى .
كما تم بناء الجانب الشمالي من المسجد الحرام من باب العمرة إلى باب السلام وإقامة منارتين قرب باب السلام ، وأُقيم باب السلام على غرار باب الملك عبد العزيز ، وتم بناء باب العمرة على نفس النسق .
وبذلك تمت المرحلة الثالثة من التوسعة السعودية ، وأصبحت مساحة المسجد الحرام 193.000 م2 بعد أن كانت مساحته الأولى لا تتجاوز 28.003م2 في العمارة العثمانية التي أصبحت داخل العمارة السعودية ، فأصبحت مساحة المسجد الحرام والمسعى أضعاف ما كانت عليه في العمارة العثمانية .
وبذلك أصبح المسجد يسع 400.000 مصلٍّ .
كما قُدر ارتفاع الجدران بالتالي :
1- البدروم والأقبية ثلاثة أمتار ونصف المتر .
2- ارتفاع الطابق الأول عشرة أمتار ونصف المتر .
3- ارتفاع الطابق الثاني تسعة أمتار .
وتحيط بالمسجد الحرام خمسة مياديين :
1- ميدان شرق المسعى " ميدان القشاشية " .
2- ميدان الملك عبد العزيز .
3- ميدان باب العمرة .
4- ميدان باب السلام .
5- ميدان باب الوداع .
ويرتفع سقف المسجد الحرام على أعمدة مربعة ومستديرة ، يصل ارتفاعها في الطابق الأول خمسة أمتار ، كُسيت هذه الأعمدة في العمارة السعودية بالرخام ، وتنتهي بتيجان على شكل زخارف حصيَّة ، ترتكز عليها منابت العقود ، وتأخذ شكلاً مقوساً صُنعت من الحجارة ، وقسّم السقف إلى مستطيلات من الحجر الصناعي المنقوش ، وطُليت بألوان مختلفة تُبرز أناقة العمارة السعودية وبساطتها ، كما جعل الطابق الثاني من العمارة السعودية علىنمط الطابق الأول ، ولكن أعمدته وعقوده أقل طولاً وارتفاعاً .
كما ضمّت العمارة السعودية الأولى أربعة وستين باباً موزعة على مختلف جهات المسجد ، وأكبرها :
( أ ) باب الملك عبد العزيز :
وهو في الجهة الجنوبية للمسجد باتجاه أجياد ، ويتكون من ثلاثة أبواب خشبية منقوشة بصورة ممتازة ، وفي مدخل الباب من الناحية الخارجية عقد مقام على أربعة أعمدة ، وتُزينه زخارف جصيّة .
( ب ) باب العمرة :
في الجهة الغربية للمسجد الحرام ، يصل إليه نفق يؤدي إلى الشارع الجديد ، وشارع باب السلام.
( جـ ) باب السلام :
يوجد في الجهة الشمالية من المسجد الحرام ، وأمامه ميدان باب السلام ، وشارع باب السلام ، وبُني باب السلام على غرار باب الملك عبد العزيز ، وبجواره منارتان ، ارتفاع كل منارة اثنان وتسعون متراً .
كما احتوت العمارة السعودية الأولى على سبع منارات ، ارتفاع كل منارة اثنان وتسعون متراً ، تُبرز هذه المنارات أبعاد المسجد الحرام ، وترتفع شامخة بقدِّها الممشوق ، وبطرازها الفريد ، وقد رُعي في بنائها الدقة والبساطة .
والمنارات السبع ذوات طراز مُوحَّد بحيث لا يمكن التمييز بينها ، جُعلت كل منارة على قاعدة مربّعة ، ملتصقة بجدران المسجد ، ويتحول جسم المنارة عندما تبرز من أرض المسجد إلى شكل مثمن الأضلاع ، كُسيت المنارات من أسفل بالرخام تمشياً مع الغطاء الخارجي لجدران المسجد ، وبكل منارة شُرفتان ، جعلتا على نسق واحد ، الشرفة الأولى فوق جدران المسجد على ارتفاع قليل ، وتأخذ الشكل المثمن لأضلاع المنارة ، وتُحلِّيها ثمانية أعمدة صغيرة تحمل مظلة الشُّرفة ، وقد كُسيت من أعلى بالزخارف ، وحُليت باللون الأخضر .
أما الشرفة الثانية فقد جعلت قرب نهاية المنارة من أعلى ، وبُنيت على نسق الأولى ، وفوق الشرفة الثانية شكل جصيّ ، يتكون من قطعتين الأولى أخذت الشكل الدائري ، وحُليت بالزخارف الجصيّة في أركانها ، والثانية على شكل قبَّة مُخلاة بزخارف على هيئة خطوط طولية من أعلى إلى أسفل ، وفوقها ينتصب شكل معدني مكون من ثلاث تفاحات نحاسية فوقها الهلال .
والمنارات السبع موزعة على أبواب :
باب الصفا ، باب الملك عبد العزيز ، باب العمرة ، باب السلام .
الثاني عشر : توسعة خادم الحرمين الشريفين :
تضمن مشروع توسعة خادم الحرمين الشريفين للحرم المكي إضافة جزء كبير ضخم على مبنى التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام من الناحية الغربية ، ما بين باب العمرة وباب الملك عبد العزيز ، وتتكون هذه التوسعة من ثلاثة أدوار : البدروم ( أسفل المسجد ) ، والدور الأرضي ، والدور الأول ، وبلغت مساحة هذه الأدوار 57.000م2 تتسع لحوالي 190.000 مصل .
كما يشمل المشروع تجهيز الساحات الخارجية ومنها الساحات المتبقية من جهة السوق الصغير ، والساحة الواقعة شرق المسعى بمساحة إجمالية تبلغ 59.000 م2 ، وتتسع لعدد 130.000 مصل .
وبذلك تصبح مساحة المسجد المكي الشاملة لمبنى المسجد بعد التوسعة الحالية والأسطح وكامل الساحات 328.000 م2 ، وهي تتسع لحوالي 730.000 مصل وذلك في الحالات العادية وفي الحالات الإضطرارية قد يصل عدد المصلين إلى 1000.000 مصلّ .
كما ضم مبنى توسعة خادم الحرمين الشريفين مدخلاً رئيسياً جديداً ، و18 مدخلاً عادياً ، هذا بالإضافة إلى مداخل المسجد الحرام الحالية ، والبالغ عددها 3 مداخل رئيسية ، و27 مدخلاً عادياً ، وأنشئ مدخلان جديدان للدور السفلي ( البدروم ) .
وأضيفت مأذنتان جديدتان بارتفاع كل منهما 89 متراً ، رُوعي فيها التصميم المعماري للمآذن السابقة البالغ عددها سبعة مآذن .
أضيف مبنيان للسلالم المتحركة ، أحدهما شمال التوسعة والآخر في الجنوب ، مساحة كل منهما 375 م2 ، ويضم مجموعتين من السلالم المتحركة طاقة كل مجموعة 15 ألف شخص ، إلى جانب مجموعتين من السلالم المتحركة داخل حدود مبنى المدخل الرئيسي ، وذلك زيادة على السلالم الثابتة ( الدرج ) ، وعددها ثمانية ، وصممت هذه المتحركة بحيث تستطيع خدمة الحجاج والمصلين في الأوقات الاضطرارية إلى جانب وحدات الدرج ، وبذلك أصبح إجمالي عدد مباني السلالم المتحركة سبعة ، وهي منتشرة حول محيط الحرم.
كما بلغ عدد الأعمدة لكل طابق من مبنى توسعة خادم الحرمين الشريفين 492 عموداً مكسوةً بالرخام الممتاز ، ويبلغ ارتفاع الأعمدة بالطابق الأرضي 4.3 متراً ، وبالطابق الأول 4.7 متراً ، وقواعد هذه الأعمدة مسدَّسة الشكل .
واجهات التوسعة الخارجية بلغ ارتفاعها 20.96 متراً ، وهي مكسوة من الداخل والخارج بأفخم أنواع الرخام ، ومحلاَّة بزخارف ونقوش إسلامية .
وكُسيت الجدران بالحجر الصناعي ، والرخام ، وتمت كسوة العقود ، والكرانيش ببلاط من الحجر الصناعي أيضاً ، والأعمدة الدائرة مزّينة بالموزاييك ، والأعمدة المربعة كُسيت بالرخام .
وتوجد ثمة ثلاث قباب للتوسعة تقع جميعها تقريباً بموازاة المدخل الرئيسي ، ارتفاع كل منها 13 متراً ، وتحتوي على فتحات بكامل محيطها وشكلها الخارجي ، وهي مماثلة للقباب الموجودة حالياً على سطح الحرم الحالي .
كما تم تبليط الأرضيات برخام أبيض يمتصّ حرارة الشمس ، ومصفوف بشكل دائري ، إضافة إلى رخام الساحات الخارجية .
وأما الأبواب فتتكون من معدن أبيض محلَّى بالنحاس ، رُوعي في التصميم أن تكون زخرفة الأبواب مماثلة لنظيراتها في التوسعة السعودية الأولى .
وقدّرت الخرسانة المستخدمة في هذه التوسعة بحوالي 111.750م3 و 12.700 طن من حديد التسليح .
استحدث نظام جديد لتلطيف الهواء يعتمد على مبدأ دفع الهواء البارد خلال أرض مرتفعة ، وتوزيعه على مستوى مرتفع حول الأعمدة المربعة .
وقد أُقيمت من أجل ذلك محطة تقوية في منطقة كُدَيّ ، تحتوي على عدد من آلات التبريد ومضخات المياه المثلجة ، ومركز تشغيل وتحكم أتوماتيكياً ، وتبلغ طاقتها التبريدية 45 ألف طناً تبريد .
كما تم بناء نفق للخدمات يربط بين المحطة المركزية والحرم الشريف ، يمتد على طول الطريق المكشوف من المحطة حتى مدخل نفق كداء ، ثم يتابع سيره عبر نفق كداء حتى مبنى الحرم ، حيث يتفرع إلى فرعين يلتفان حول مبنى الحرم ، لتكوين حلقة دائرية متكاملة ، ويبلغ طول النفق الممتد بين المحطة المركزية والحرم حوالي ثلاثة كيلو مترات ونصف ، أما الحلقة الدائرية فيبلغ طولها حوالي كيلو مترين .
ويحتوي النفق على مواسير معزولة ، ناقلة للمياه ، وهو مجهز بجميع وسائل الإضاءة والتهوية ، وأجهزة التحكم الأتوماتيكي .
هذا .. وقد تم إعادة توزيع وتصميم الخدمات ضمن المناطق الفاصلة بين المسجد الحالي ومبنى التوسعة بما يسمح بأداء أفضل ، بما في ذلك تصريف مياه الأمطار وتوفير مصادر لشرب ماء زمزم ، وشبكات لإطفاء الحريق ، ومخارج لتصريف مياه التنظيف .
ويأتي مشروع تحويل أنفاق السيارات والمشاة وتهيئة الساحات المحيطة بالمسعى للصلاة متمماً لهذه المشروعات ، حيث تم تعديل الطريق الدائري الأول ما بين شارع أجياد ومطقة شُعْب عليّ والقشاشية ، بتغيير مساره شرقاً ، مع المحافظة على المقطع العرضي النموذجي للطريق الذي يتكون من مسارين ، مع زيادة مسار إضافي لتأمين الحركة المرورية عند التقاطعات .
وتم أيضاً بناء أربعة جسور على الطريق الدائري بالإضافة إلىعدة منحدرات لتأمين حركة الالتفاف الأساسية .
وكذلك هُيأتْ المساحات المحيطة بالمسعى للصلاة ، فشملت توسعة منطقة شرق المسعى ، وذلك بإلغاء دورات المياه الموجودة تحت الأرض ، وإزالة الكبارة الحديدية ومهدت المنطقة بمساحات كلية تبلغ 41.000 م2 من ضمنها مساحة تبلغ 31.500 م2 ساحات ، وهي مبلطة بالرخام الأبيض ، ومحاطة بأسوار برونزية ، ومجهزة للصلاة .
كما أنشئ مبنى دورات المياه الجديد شمال ساحات المسعى من دورين ، بمساحة إجمالية تبلغ 14.000م2 بالإضافة إلى السطح ، ويحتوي هذا المبنى على 1440 دورة مياه ، و 1091 حنفية للوضوء و 162 نافورة لمياه الشرب ، كما رُوعي تأمين دورات مياه خاصة بالنساء بمداخل منفصلة تمنع أي اختلاط .