☤[☸]☤ تبصير الأولياء بفضل الدعاء ☤[☸]☤
عباد الله، لقد شرَع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لعباده الدعاءَ والتضرع والابتهال إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل الأوقات، وفي جميع الحالات، ليلاً ونهارًا، شدة ورخاء؛ إظهارًا لافتقارهم وحاجتهم إليه، وتَبَرُّؤًا من الحول والقوة إلا به تَعَالَى، واستشعارًا لذلتهم ومَسْكَنَتِهِم أمامَ الله جَلَّ وَعَلاَ، وسِمَةً مِن أجَلِّ سماتِ عُبُودِيَّتِه وتوحيده، وإقرارًا بفضله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكَرَمِه وجُودِه.
قال الله جَلَّ وَعَلاَ: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 55، 56] أي: ادعوا ربَّكم دعاءَ مسألة، ودعاء عبادة، مُلِحِّين في دعاء المسألة، دَؤُوبِين في دعاء العبادة، مخفين هذا الدعاء؛ خشيةً من الرِّياء، طامعين في قَبُوله، خائفين وَجِلين مِن رَدِّه.
وقال تَعَالَى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر: 14]، وقال: وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف: 29، غافر: 65]. وفي سنن الترمذي وغيره عن أنس بن مالك أن النبي قال: ((لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا، حَتَّى يَسْأَلَ شَسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ))، وفي الترمذي أيضًا عن أبي هريرة أن النبي قال: ((مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهِ يَغْضَبْ عَلَيْهِ))، وفيه أيضًا عن أبي مسعود البدري رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ أن النبي قال: ((سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ)).
وما هذا التأكيدُ المتتابِع من الشرع في شأن دعاء الله جَلَّ وَعَلاَ إلا لِما يقوم بالدعاء من أنواع العبادة الكثيرة التي يُحِبُّها الله جَلَّ وَعَلاَ ويرضاها من عباده؛ ولذا قال النبي : ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) أي: جلها ومعظمها؛ لِما يشتمل عليه من ذل العبد بين يدي ربه جَلَّ وَعَلاَ، ومن محبة العبد لربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذان الأمران هما قطبا العبادة؛ لا تقوم العبادة إلا عليهما، كما قال العلامة ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
وَعِبَادَةُ الرَّحْمَـــــــنِ غَـــايَةُ حُبِّهِ مَع ذُلِّ عَابِدِهِ هُمَا قُطْبَـــــــــانِ
وَعَلَيْهِمَا فَلَكُ الْعِبَادَةِ دَائِرٌ مَا دَارَ حَتَّى قَامَتِ الْقُطْبَانِ
ولقد وعد الله جَلَّ وَعَلاَ ووعدُه حقٌّ حَسْم مَن دعاه وسأله والتجأ إليه أن لا يَرُدَّ سُؤْلَه، وأن لا يُخَيِّبَ مُرادَه؛ فقال الله جَلَّ وَعَلاَ: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186]، وقال تَعَالَى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، وثبت في المسند وغيره عن سلمان الفارسي أن النبي قال: ((إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحِي إِذَا مَدَّ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ)). فَاهْتَبِلُوا -عباد الله- هذهِ الفُرْصَةَ الثمينة، وهذه الْمَكْرُمَةَ العَظِيمة، وأنزلوا حاجاتِكم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ يقضيها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لكم.
عباد الله، يَعْرِضُ الشَّيطانُ لكثير مِنَ الناسِ في شبهتين مَمْقُوتَتَيْنِ مَردودتين، بهما يُزَهِّدُهُم عن دعاء اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هاتان الشبهتان هما: أن الله جَلَّ وَعَلاَ قدر مقادير الخلائق قبل أن تُخلق السماواتُ والأرض بخمسين ألف سنة؛ فَفِيمَ يُغني الدعاء عندئذ؟! هذه شبهة. والشبهة الأخرى: أننا نرى كثيرًا من الناس يدعون الله جَلَّ وَعَلاَ فلا يُستجاب لَهم.
بهاتين الشبهتين صُرِف كثير من الناس عن كثرة دعاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإنزال الحوائج به. وعن كشفهما نقول: إن النبي قد أزال هاتين الشبهتين وكشفهما بما لا يَدَعُ مجالاً في قلب مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر في وجوب إنزال حاجته بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل وقت وعلى أي حال.
فعن الشبهة الأولى يقول النبي : ((لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلاَءَ لَيَنْزِلُ، فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ؛ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) أخرجه الحاكم وهو حديث حسن. وثبت عنه أنه قال: ((لاَ يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلاَ الدُّعَاءُ، وَلاَ يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلاَ الْبِرُّ)). يقول العلامة ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "للبلاء مع الدعاء ثلاث مقامات: إما أن يكون الدعاء أقوى من البلاء؛ فعندئذ يدفع الدعاءُ البلاء. وإما أن يكون الدعاءُ أضعفَ من البلاء؛ فيقوى البلاءُ على الدعاءِ؛ فَيُصابُ به العبد. والمقام الثالث: أن يتقاوم الدعاءُ والبلاءُ؛ فيمنع كلٌّ منهما صاحبَه".
وبهذا تنكشف هذه الشبهة، وتزول إن شاء الله؛ فلا يتعلقن بها أحد بعد سماع هذه النصوص الواضحة الجَلِيَّة.
أما عن الشبهة الثانية وهي قول بعضهم: إننا نرى أناسًا يدعون الله ثم يدعونه فلا يستجاب لهم؛ فلا حاجة بنا إلى الدعاء عندئذ. فالجواب عنها من وجهين:
الوجه الأول: أن سبب عدم إجابة هؤلاء الناس قد يكون عائدًا إلى وجود مانع من مَوانِعِ إجابة الدُّعَاء فيهم، وموانعُ إجابة الدعاء كثيرة جدًّا نَصَّ النبي عليها في أحاديث متعددة.
منها: قول النبي : ((رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءَ يَقُولُ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟!)). ويقول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: ((يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، أَوْ يَسْتَعْجِلْ يَقُولُ: دَعَوْتُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي)). وثبت عن النبي أنه قال: ((ثَلاَثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلاَ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ: رَجُلٌ تَحْتُهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ آتَى سَفِيهًا مَالَهُ وَاللَّهُ يَقُولُ: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ [النساء: 5])). فهذه سبعة أمور تمتنع استجابة الدعاء لصاحبها أو في حالاتها، ذكرناها على سبيل التمثيل لا الحصر.
والوجه الثاني من كشف الشبهة المتقدمة هو: أن النبي ذكر أنه ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ دَعْوَةً إِلاَ أَعْطَاهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاَثِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ جَلَّ وَعَلاَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ وَالْبَلاَءِ مِثْلَهَا))؛ فهذه ثلاثة أمور تدور دعوتك -يا عبد الله- بينها.
إذا اتَّضَحَ هذا فإن بعض الناس الذين يدعون الله فلا يستجيب لهم؛ إما أن يقوم بهم مانع من موانع إجابة الدعاء، وإما أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ادَّخر دعوتَهم لهم في الآخرة، أو صرف عنهم من السوء مثلَها.
فاجتهدوا -عباد الله- في دعاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنزلوا حاجاتِكم به دومًا وأبدًا، وألِحُّوا في دعائه؛ فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحدَه الْمُفَرِّجُ لِمَا نزل بكم من كُرُبات، والمعطي لكم ما سألتموه من خيرات. يقول بعض السلف: "دعوتُ الله جَلَّ وَعَلاَ بحاجة واحدة عشرين عامًا ولا زلت". ويقول سفيان بن عيينة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "عليكم بدعاء الله، ولا يمنعكم من دعاء الله ما تعلمون من أنفسكم؛ فإن الله جَلَّ وَعَلاَ استجاب لإبليس وهو عدو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
عباد الله، هناك أوقاتٌ وهيئات وحالات يستجيب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها الدعاء؛ فاعرفوها، وتَعَرَّضُوا لمولاكم فيها؛ تنالون ما أردتم من خيري الدنيا والآخرة.
فمن ذلك: جوف الليل الأخير؛ فهو مَظِنَّة إجابة الدعاء؛ يقول النبي : ((إِنَّ رَبَّكُمْ يَنْزِلُ فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الأخِيرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟)).
ومن هذه المواضع: الدعاء بين الأذان والإقامة؛ فإن النبي ثبت عنه أنه قال: ((لاَ يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإقَامَةِ)).
ومن تلك المواقع: آخر ساعة من يوم الجمعة قبل غروب الشمس؛ فإن النبي أخبر: ((إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ إِلاَ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا أَرَادَ))، وهو في أصح أقوال أهل العلم آخر ساعة من يوم الجمعة قبل غروب الشمس.
ومن تلك المواطن: حال نزول المطر، وحال التقاء الصَّفَّيْنِ في القِتال.
ومن تلك المواطن أيضًا: المضطر؛ فإن دعوته مجابة حتى لو كان كافرًا؛ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62].
ومن تلك أيضًا: دعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم عند فطره.
وهكذا أمور كثيرة يتأكد فيها الدعاء، وترجى فيها الاستجابة رجاء قويًّا.
فعليكم -يا عباد الله- أن تعرفوا هذه الأوقات، وأن تدعوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها؛ عَلَّ الله جَلَّ وَعَلاَ أن يؤتيكم سؤلكم.