⋐::۞::⋑ الدعاء سمة العبودية ⋐::۞::⋑
الخلق مفتقرون إلى ربهم في جلب منافعهم ودفع مضارهم، لإصلاح دينهم ودنياهم، وكمالُ المخلوق في تحقيق عبوديته لله عز وجل، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، والله جل وعلا يبتلي عباده بعوارض تدفعهم إلى بابه يستغيثون به، وهذا من النعم في طيّ البلاء، والافتقار إلى الله هو عين الغنى ولب العبادة ومقصودها الأعظم، والتذلل له سبحانه هو العز الذي لا يجارى، والدعاء هو سمة العبودية، والله يحب أن يسأله العباد جميع حاجاتهم. في الحديث القدسي: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم)) [رواه مسلم][1].
والرب لا يعبأ بعباده لولا ضراعتهم إليه، قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً [الفرقان:77]، والدعاء من صفات أنبياء الله وأصفيائه، إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْخَيْرٰتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـٰشِعِينَ [الأنبياء:90]، وإمام الخنفاء يقول: وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا [مريم:48].
الدعاء روضة القلب وجنة الدنيا، عبادة ميسورة مطلقة، غير مقيدة بمكان ولا زمان ولا حال، دعاءٌ في الليل والنهار، وتضرعٌ في البر والبحر، وحين الإقامة والسفر. نفعه يلحق الأحياء في دنياهم، والأمواتَ في لحودهم، ((أو ولد صالح يدعو له)) [2]. الدعاء يكشف بفضل الله البلايا والمصائب، ويمنع وقوع العذاب والهلاك، وهو سلاح المؤمن، لا شيء من الأسباب أنفع ولا أبلغ في حصول المطلوب منه، هو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل، يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: (أنا لا أحمل همَّ الإجابة ولكن أحمل همَّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن معه الإجابة) [3]. لا شيء أكرم على الله منه، ما استجلبت النعم، ولا استدفعت النقم بمثله، به تفرج الهموم، وتزول الغموم، كفاه شرفا قرب الله من عبده حال الدعاء، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأضعفهم رأياً وأدناهم همة من تخلف عن النداء، الدعاء هو عين المنفعة ورجاء المصلحة، ودعاءُ المسلم بين يدي جواد كريم، يعطي ما سُئل، إما معجلاً وإما مؤجلاً، يقول ابن حجر ـ رحمه الله ـ: "كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارةً بعوضه"[4].
بالدعاء تسمو النفس، وتعلو الهمم، ويُقطع الطمع مما في أيدي الخلق، الداعي موفور الكرامة، مهاب الجناب، وكلما اشتدّ الإخلاص وقوي الرجاء، كلما كانت الإجابة أحرى، يقول يحيى بن معاذ ـ رحمه الله ـ: "من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يُردّ"، فأطب مطعمك ومشربك، وتعفف عن الشبهات، وقدم بين يدي دعائك عملاً صالحاً، ونادِ ربك بقلب حاضر بصوت خافت، زكريا عليه السلام: نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً [مريم:3]، هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً [آل عمران:38]، فرزقه الله يحيى نبيا. وتخيَّرْ في دعائك والثناء على ربك أحسن الألفاظ وأنبلها وأجمعها، وتحرَّ من الأوقات الفاضلة، والأحوال الصالحة أرجاها، وإذا دعوت فاستكثر ربك الخير في دعائك يقول النبي : ((إذا دعا أحدكم فليعظم المسألة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) [5]، والساجد من ربه قريب، حريّ أن يعطى سُؤله، وتجنب الدعاء على أهلك ونفسك ومالك ومصدر رزقك، يقول المصطفى : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم)) [رواه مسلم][6].
ولا تستبطئ الإجابة وألحَّ على الله في المسألة، فالنبي مكث يدعو على رعل وذكوان شهراً[7]، وربك حييّ كريم يستحي من عبده إذا رفع يده إليه، أن يردها سفراً، فادع وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ [العلق:3]، وألق نفسك بين يديه، وسلّم الأمر كله إليه، واعزم المسألة، وأعظم الرغبة فما رَدَّ سائله، ولا خاب طالبه، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالرب فنِعْم الرزاق هو، فأظهر ـ أيها الداعي ـ الشكوى إلى الله، والافتقار إليه، فهو جابر المنكسرين وإله المستضعفين، يقول يعقوب عليه السلام: إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى ٱللَّهِ [يوسف:68]، فهو صاحب كل نجوى، وسامع كل شكوى، وكاشف كل بلوى، يده تعالى ملأى لا تغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، ما أمِّل تعالى لنائبة فخيَّبها، وما رُجي لعظيم فقطعها، لا يؤمَّل لكشف الشدائد سواه، بيده مفاتيح الخزائن، بابه مفتوح لمن دعاه، واستعمل في كل بلية تطرقك حسنَ الظن بالله في كشفها، ومن ظن بربه خيراً أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميل تفضلاته، وبالإخلاص تدور دوائر الإجابة، ولازم الطلب فالمعطي كريم، والكاشف قدير، ولا تستعجل الإجابة إذا دعوت، ولا تستبطئها إذا تأخَّرت، ومن يكثر قرع الأبواب يوشك أن يفتح له، وإذا تزخزف الناس بطيب الفراش، فارفع أكفَّ الضراعة إلى المولى في دُجى الأسحار، إذ يناديك في ظلمائها: ((من يدعوني فأستجيب له)) [8]، والدعاء بين الأذان والإقامة لا يردّ، ودعوة الوالد لولده مستجابة، فأكثر ـ أيها الأب ـ من الدعاء لأبنائك بالهداية وملازمة السعادة، والعصمة من الفتن، ودعوة المسلم لأخيه الغائب مسموعة، والملك يؤمِّن على دعوتك، والبارّ بوالديه دعوته لا ترد، وفي الجمعة ساعة مستجابة، ولا تؤذ الصالحين أو تسخر منهم، فلهم عند الله شأن؛ كلماتهم صاعدة، ودعواتهم مستجابة، يقول جل علا في الحديث القدسي عن أوليائه: ((ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه))[9]، ومن حلَّت به نوائب الدهر وجأر إلى الله حماه قال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء [النمل:62].
ألقي يونس عليه السلام في بطن الحوت، وبالدعاء نبذ بالعراء من غير أذى، يقول النبي : ((دعوة ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له ـ وفي لفظ: ـ لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه)) [رواه الترمذي] [10].
بدعوةٍ تتقلب الأحوال، فالعقيم يولد له، والسقيم يُشفى، والفقير يُرزق، والشقي يسعد، بدعوةٍ واحدةٍ أُغرق أُهل الأرض جميعهم إلا من شاء الله: وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26]، وهلك فرعون بدعوة موسى وقال موسى: رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوٰلِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلألِيمَ [يونس:88]، ووهب ما وهب لسليمان بغير حساب بسؤال ربه الوهاب، وشفى الله أيوب من مرضه بتضرعه أَنّى مَسَّنِىَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، وأغيث نبينا محمد يوم بدر بالملائكة، بتَبتُّلِه إلى موالاه، مع قلة العدد وذات اليد، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9].
وإذا تقطعت بك ـ أيها المظلوم ـ الأسباب، وأُغلقت في وجهك الأبواب، فاقرع أبواب السماء، وُبثَّ إلى الجبار اللأواء، فهو مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، وَعَدَ بنصرة الملهوف، وإجابة المظلوم، ظَلَم رجل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقال سعد: (اللهم أعم بصره، وأطل عمره، عرضه للفتن)، قال الراوي: فأنا رأيته بعد قد عمي بصره، وقد سقط حاجبه على عينيه من الكبر، ويقول: كبير مفتون أصابته دعوة سعد[11].
يقول ابن عقيل ـ رحمه الله ـ: "يستجاب الدعاء بسرعة للمخلص والمظلوم".
فيا ويل من وجهت له سهام المظلومين، ورفعت عليه أيدي المستضعفين، فاصبر ـ أيها المصاب ـ على ما قدر، فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع [العسر]، والبلاء المحض هو ما يشغلك عن ربك، وأما ما يقيمك بين يديه ففيه كمالك وعزك، وإذا أقبل اليسر، وحل الفرج، وزالت الغموم، وما أقربَ الأمر، فاحمد الله على ما كشف، ففي الحمد شكر وزيادة نِعَم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰخِرِينَ [غافر:60].
فقضاء الله لعبده المؤمن عطاء، وإن كان في صورة المنع، وهو نعمة، وإن كان في صورة محنة، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية، يقول عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: (أصبحت وما لي سرور إلا في انتظار مواقع القدر، إن تكن السراء فعندي الشكر، وإن تكن الضراء فعندي الصبر) [12].
ومن ألهم الدعاء لم يحرم الإجابة، يقول النبي : ((ما على وجه الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله تعالى إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم))، فقال رجل من القوم: فإذاً نكثر، قال: ((الله أكثر)) [رواه الترمذي] [13].
والذين يدعون الله ويدعون معه غيره أغلقوا باب إجابة قال عز وجل: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَـٰفِلُونَ [الأحقاف:5]، دعاؤهم للأموات هباء، لا يجلب مرغوباً، ولا يمنع مكروهاً، وهو الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر، قال عز وجل: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [يونس:106]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله))[14]، فاجتهد في الدعاء، وأخلص له جل وعلا العبادة، وأفرده بالدعاء، واغتنم ساعات عمرك، فلن يهلك مع الدعاء أحد، فالسعيد من وفق لذلك، والمحروم من حرم لذة العبادة، أو أيس من رحمة الله وكان من القانطين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه مسلم في البر والصلة [2577] من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[2] جزء من حديث: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة...))، أخرجه مسلم في كتاب الوصية [2631] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/706).
[4] فتح الباري (11/95-96).
[5] أخرجه مسلم في الذكر [2679] من حديث أبي هريرة بنحوه.
[6] رواه مسلم في الزهد [3009] من حديث جابر رضي الله عنهما.
[7] أخرجه البخاري في الجمعة [1003] ، ومسلم في المساجد [677] من حديث أنس رضي الله عنه.
[8] جزء من حديث نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، أخرجه البخاري في الجمعة [1145]، ومسلم في صلاة المسافرين [758] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق [6502] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] أخرجه أحمد (3/65-66) [1462]، والترمذي في الدعوات [3505] من حديث سعد بن أبي وقاص، وصححه الحاكم (1/505)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الترغيب [1644].
[11] أخرجه البخاري في الأذان [755] عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.
[12] انظر: جامع العلوم والحكم (ص195).
[13] أخرجه الترمذي في الدعوات [3573]، وعبد الله في زوائده على المسند (37/448-449) [22795]، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه". وهو في صحيح الترغيب [1631].
[14] أخرجه أحمد (4/409-410) [2669]، والترمذي في صفة القيامة [2516] من حديث ابن عباس، وقال: "حديث حسن صحيح"، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة ... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي".