الحمد الله رب العالمين ، وبه نستعين، وأشهد ألا إله إلاَّ الله ، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً رسول الله وخاتم النبيين، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد :
فقد قال الله سبحانه: ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) [ البقرة : 186] وهذه الآية توجد متوسطة بين آيات الصيام من سورة البقرة، والحكمة في وضعها بين آيات الصيام، أن المؤمن الصائم يتوسع في أفعال الطاعات، ويكثر من الدعاء والتضرع إلى الله، لعلمه أن للصائم دعوة لا ترد، وسبب نزولها أن أناسا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "أربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، وكان الصحابة إذا علوا الربي كبروا وهللوا، وإذا هبطوا الأودية سبحوا - يرفعون بذلك أصواتهم - فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً قريباً، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته.
فقوله سبحانه: ( وإذا سألك عبادي عني ) أي عباد الإجابة والدعوة، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وإلا فكل الناس عبيد لله بطريق القهر والخلق والتكوين، ولكن السائلين المتضرعين هم عباد الله الصالحون المخلصون، الذين يعبدون الله سبحانه ويدعونه متضرعين إليه مخلصين له الدين .
فالدعاء عبادة، بل هو العبادة: كما روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء هو العبادة " ( رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن حبان وقال صحيح الإسناد ) ثم قرأ وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [ غافر: 60] أي صاغرين حقيرين .
وفي رواية: " الدعاء مخ العبادة " ومخ الشيء خالصه، فليس شيء أكرم على الله سبحانه من الدعاء، لأنه سلاح المؤمن، ولن يهلك مع الدعاء أحد، كما ثبت بذلك الحديث، والله سبحانه يحب أن يسأل ويحب الملحين في الدعاء، ومن لم يسأل الله يغضب عليه .
الله يغضب إن تركت سؤاله وبنيّ آدم حين يسأل يغضب
والله تعالى يقول ( قل ما يعبا بكم ربي لولا دعاؤكم ) [ الفرقان :77] سواء قلنا: إن المراد به دعاء العبادة، أو دعاء المسألة: فدعاء مسألة هو دعاء عبادة، ودعاء العبادة هو دعاء مسألة. والدعاء بمثابة الأشجار المثمرة، والخزائن المدخرة، ينفع مما نزل، ومما ينزل، فهو يدفع البلاء قبل نزوله، ويرفعه بعد نزوله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلاَّ البر، وإن الصدقات لتدفع ميتة السوء " (رواه ابن حبان والحاكم) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء يرد القدر والقضاء، فلا يقولن أحد: إن كان هذا الأمر مكتوباً لي أو عليّ، فإنه سيقع لا محالة ـ دعوت ، أو لم أدع ـ فإن من الأشياء ما لا يحصل إلا بالدعاء، والله عز وجل يمحو ما يشاء ويثبت، وفي دعاء القنوت: " وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ".. فلو لم يكن الدعاء سبباً في صرف شر القدر والقضاء، لما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد إليه أمته.
وفي مراسيل الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة ، واستدفعوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع ", وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " احفظ الله يحفظك، أحفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " (من حديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح). إنه متى كان الإنسان له معاملة مع ربه سبحانه بالدعاء في حالة رخائه وسرائه، ثم وقع في شدة من الشدائد، أو في حاجة من الحاجات، فدعا الله عز وجل: قالت الملائكة يا رب صوت معروف من عبد معروف اللهم استجيب دعاءه؛ ولهذا كان من دعاء بعض السلف : " اللهم إنك أمرت بالدعاء، ووعدت بالإجابة، وقد سألتك كما أمرتني، فاستجب لي كما وعدتني " . إن الإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه، وتعتقد بأن دعاءك واقع بمسمع منه تعالى فهو: ( الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين * إنه هو السميع العليم ) [ الشعراء : 218 ـ220] .
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: " سبحان من وسع سمعه الأصوات، لقد أتت المجادلة ـ أي خولة بنت ثعلبة ـ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها ـ أي أوس بن الصامت ـ وتقول: إنه أفنى شبابي، وأكل مالي، وكان لي منه عيال، فلما كبر سنه ظاهر مني، أشكو إلى الله حالي . والله إني لفي كسر البيت، أسمع بعض كلامها، ويخفى علي بعضه، فما برحت من مكانها حتى سمع الله شكواها، وأنزل ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) ( أخرجه البخاري والنسائي وابن ماجه ). ونظير هذا ما حكى الله سبحانه عن نبيه يونس عليه السلام، وذلك أنه لما غاضبه قومه، ولم يقبلوا هدى الله الذي جاء به، خرج من البلد مغاضباً، فركب في سفينة، ثم إن السفينة أشرفت على الغرق، فقذفوا في البحر جميع ما تحمله، فلم ترتفع، فاتفقوا على أن يعملوا قرعة، فمن وقعت عليه من الركاب، ألقي في البحر، فوقع سهم الإلقاء على نبي الله يونس بن متى عليه السلام، فرموا به في البحر، لكون الأنبياء أشد الناس بلاء . قال الله تعالى: ( فساهم فكان من المدحضين ) [ الصافات: 141] أي الملقين ( فالتقمه الحوت وهو مليم ) [ الصافات : 142] أي أن الله سبحانه قد لامه على شدة الغضب الذي خرج بسببه من البلد، وكان من واجبه أن يصبر على أذى قومه، فعند ذلك دعا ربه عز وجل وهو في ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت. فكان من دعائه : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت الظالمين ) قال سبحانه: ( فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننج المؤمنين ) [ الأنبياء :87-88] ثم ذكر سبحانه سبب هذه الاستجابة وهذا الإنجاء، وأنه كثرة دعائه لربه في حالة رخائه فقال تعالى: ( فلولا أنه كان من المسبحين ) ـ أي في حالة الرخاء ـ ( للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ) [ الصافات :143-144] وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دعوة أخي ذي النون ، ما دعا بها مكروب إلا استجاب الله له ، " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " (رواه الترمذي) ، فمن أحب أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء . وإذا دعا العبد بدعاء ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، حصل له إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل الله له دعوته، أو يدخرها له في الآخرة، أو يدفع عنه من السوء مثلها، قالوا: إذن نكثر يا رسول الله؟ قال فضل الله أكثر. ومن فتح له باب الدعاء وذاق حلاوته، فقد فتح له باب الخير والرحمة والإجابة، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء، فإني إذا أعطيت الدعاء، وفقت للإجابة" إنه لما كان الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، والإنسان مخلوق للعبادة، لأن الله تعالى يقول: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [ الذريات :56] فإنه لا ينبغي للإنسان أن يسأم من الدعاء، ولا يعجز عنه ففي الحديث: " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: قد دعوت فلم يستجب لي فإن أفضل العبادة انتظار الفرج، فألظوا بـ " ياذا الجلال والإكرام " أي الزموا وداوموا "ـ ( متفق عليه ) .
الشرك في الدعاء ثم إنه لما كان الدعاء عبادة، بل هو العبادة، فإن صرفه لغير الله شرك أكبر، ومن الذنوب التي لا تغفر قال تعالى: ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) [ المائدة : 5] وقال عز وجل: ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) [المائدة :72] .. فكل من دعا مخلوقاً ميتاً من دون الله تعالى ، وتضرع إليه في قضاء حاجاته، وتفريج كرباته، سواء أكان نبياً أو وليًّا، أو أيا من المقبورين، فقد أشرك بالله تعالى؛ يقول الله عز وجل: ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ) ( يونس : 106] وأخبر سبحانه بأنه لا أضل، ولا أظلم ممن يدعو مخلوقاً مقبوراً مرهوناً بعمله، لا يستطيع زيادة في حسناته، ولا نقصاً من سيئاته، فقال سبحانه: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستحيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) [ الأحقاف : 5- 6] فأخلص دعاءك لربك فإنه سبحانه النافع الضار ( قل أفرأتيم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ) [ الزمر : 38 ] . إن الدعاء هو خالص حق الله، لا يرضى عز وجل أن يشرك معه في حقه أحد من خلقه ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [ الجن : 18] إن المشركين في هذه السنين هم أعظم شركاً من الأولين؛ ولهذا تراهم يترددون رجالاً ونساءً إلى قبور من يسمونهم أولياء، ويزعمون أنهم يتصرفون في الكون، فهم يطلبون شفاعتهم بتفريج كربتهم، واستجابة دعوتهم:
المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
ونقول : المستغيث بقبر عند كربته كالمستغيث من الرمضاء بالنار
إنه متى ذكّرهم مذكر، أو وعظهم واعظ بالآيات التي تحرم الشرك، وتحذر المشركين من العقاب الأليم، قالوا هذه: الآيات إنما نزلت في المشركين الأولين، وكيف تجعلوننا مثل المشركين ونحن مسلمون موحدون، نشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ ولم يشعروا بأن من شرط لا إله إلا الله كونها تحجز قائلها عن الشرك بالله تعالى وإلا فيعتبر قائلها كاذباً في شهادته، وكافراً بربه.. مع العلم بأنهم أغلظ شركاً وأشد كفراً من المشركين الأولين ولكنهم يريدون أن يجعلوا أنفسهم في منجاة من الشرك والعقاب عليه بمجرد الدعوى الكاذبة، فهم يجمعون بين الإساءة في العمل، والأمن من العقاب: ( أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرين ) [ الأعراف : 99] ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [ يونس : 18] أي يجعلونهم وسطاء ليقربوهم إلى الله زلفى وهم لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعاً، يقول الله تعالى: ( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعون دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ) [ فاطر : 13 ـ 14] ـ وهو الله العليم الحكيم سبحانه .
فأخلصوا دعاءكم لربكم، واستقيموا على الجادة، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين