●●|[▒]◄ مصطلح الحداثة ►[▒]|●●
يطلق مصطلح الحداثة modernisme على نتاجات المجتمعات المتقدمة في التقانة والسياسة والاقتصاد والاجتماع. وما يميّز هذه المجتمعات التي تتسم بالحداثة، مقارنةً بالمجتمعات التقليدية، هو قدرتها على الابتكار والتغيير. ويُعدّ التغيير هذا قيمة حداثية نقيضها المحافظة، وهي القيمة الأساسية في المجتمعات التقليدية. والحداثة، كما أفرزتها المجتمعات الغربية، ليست مفهوماً إجرائياً اجتماعياً أو سياسياً تاريخياً، وإنما هي نمط حضاري دينه وديدنه تسيّد العقلانية في الفكر والاقتصاد والسياسة. وتسيّد العقلانية هو الذي أدى إلى التقدم العلمي والتقاني وكان ركيزة الحركات الفكرية جميعها منذ عصر التنوير[ر].
والحداثة مشروع غربي قام على أسس تتقدمها الفردية individualisme. فقد نشأت الحداثة مع نشوء الدولة الرأسمالية الحديثة، ومع صعود البرجوازية طبقة اجتماعية حاولت تحطيم القواعد والحدود التي كانت تصادر حركة الإنسان في المجتمع الإقطاعي وتحدّ حريته وتسلبها. ومن أسس الحداثة الغربية العقلانية، فالرأسمالية قامت على التخطيط، والتنبؤ بالمستقبل، والاعتماد على العمل وتقديسه، وعلى التكنولوجية، لإشباع حاجات الإنسان الأساسية.
وقد عرفت الإنسانية في تاريخها حداثتين: الأولى أدبية فكرية فنية سياسية فلسفية حقوقية، ولدت في أثينا ومنها انتشرت في أرجاء العالم. وشغلت قرناً ونصف القرن من الزمان، القرن السادس ومنتصف القرن الخامس قبل الميلاد. وقد انقطعت هذه الحداثة في العصور الوسطى بسبب الهيمنة الدينية الكاثوليكية، لكنها عادت مؤثرة فاعلة منذ عصر النهضة ومازالت تمارس تأثيرها. وما عودة الألعاب الأولمبية، والأسس الديمقراطية في الحكم، وشعارات حرية الرأي والقول والعقيدة، سوى استمرارية لحداثة اليونان القديمة بأساليب جديدة. فحداثة أثينة فعل فكري كوني شامل يكمن انتشار أثره في أن محور فكر اليونان النظري، وآدابهم، ونظرياتهم السياسية والفلسفية والحقوقية القانونية، هو الإنسان المطلق أينما وجد. حتى إن بعضهم يرى أن الحاسوب وليد حداثة اليونان، وأنه ليس سوى توافر إمكانات تطبيق النظرية العددية عند فيثاغورس[ر] Pythagoras. أما الحداثة الثانية فهي حداثة مادية موطنها الجغرافي عواصم العالم المتقدم علمياً وتقنياً. وهي تبدأ زمنياً من نهاية القرن التاسع عشر، وتنتهي بنهاية الحرب العالمية الثانية، نتاجاتها المادية موجودة في كل مكان، وهي فعل مادي كوني شامل. وقد انتقلت اليوم إلى عالم الطاقة، وهو ما يطلق عليه مصطلح الحداثة العليا ultra modernisme، فالمؤسسات تبيع اليوم منتجات غير مادية، وهي لم تعد تنقل بضاعة بل طاقة أو معلومة. إذن فالحداثة حركة دائمة وليست منظومة مغلقة محددة نهائياً، ولا تنغلق على نفسها في نمط نهائي ومنته، بل هي في حركة تطورية دؤوب لانهائية، أشكالها المتعاقبة رهنُ إجاباتها على ما يواجه المجتمع في سياقه التاريخي زمنياً.
والحداثة أوسع من التجديد، وإن كان التجديد وجهاً من وجوه الحداثة، لكنه لا يدل بالضرورة دوماً على الحداثة. فالحداثة ثورة في الفكر وليست مسألة تتصل بشكل الجنس الأدبي.
وقد بدأت نزعة الحداثة تظهر في الأدب منذ منتصف القرن التاسع عشر في أعمال الأدباء الفرنسيين شاتوبريان[ر] Chateaubriand ت(1768-1848)، وبودلير[ر] Baudelaire ت(1821-1867)، ورامبو[ر] Rimbaud ت(1854-1891) . ويعد بعض النقاد الشاعر بودلير تحديداً بادئ الحداثة الغربية المعاصرة في الأدب ومستحدِث مصطلحها، وفرنسا مهدها الأول، والحركة الرمزية[ر] symbolisme بدايتها الحقيقية. غير أن الربع الأول من القرن العشرين هو الذي عرف ذروة الحداثة.
ضمّت الحداثة مذاهب فنية مختلفة المشارب، بل إن بعضها بدا مناقضاً لبعضها الآخر، لكنها اشتركت جميعها في مناهضتها كل قديم، وفي سعيها لتدمير الواقعية[ر] réalisme والطبيعية[ر] naturalisme والإبداعية[ر] (الرومانسية) romantisme. وكان التجريد أداتها فأبدعت الانطباعية[ر] impressionnisme وما بعد الانطباعية post-impressionnisme والتعبيرية[ر] expressionnisme والتكعيبية[ر] cubisme والمستقبلية[ر] futurisme والرمزية symbolisme والدادائية[ر] dadaïsme والسريالية[ر] surréalisme. على الرغم من ذلك، فما من أرومة تجمع بين هذه الحركات والمذاهب فيما بينها، بل إن بعضها ظهر ردة فعل على بعضها الآخر. إلا أن الرابط بين هذه الحركات كلها هو نظرتها للتاريخ وللحياة الإنسانية على أنها ليست خطيّة متسلسلة متعاقبة، فالتاريخ عندها لا يتطور تطوراً منطقياً.
يُطلق مصطلح الحداثة في الأدب توصيفاً لنتاجات أدبية خصائصها معينة في شكلها ومضمونها. فالحداثة في الأدب العربي مثلاً لا تُطلق على النتاج الأدبي الذي سمي بالأدب العربي الحديث مؤرخاً لما يُطلق عليه عصر النهضة بدءاً من حملة نابليون بونابرت على مصر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. كما أن المصطلح لا ينطبق أيضاً على جميع النتاج الأدبي الذي بدأ يظهر منذ عام 1950 ودرجت تسميته بالأدب المعاصر. إن الحداثة في هذا الأدب تُطلق على أدب ملامحه مقتبسة من الأدب الغربي وتنسحب معاييره بالتالي عليه.
أشاعت الحداثة الغربية الغموض والفوضى ودمرت المعايير القديمة. وهي تظهر رؤية تمثل مأساة الإنسان الغربي الضائع المتشكك الذي فقد إيمانه بكل شيء، فالحداثة الغربية لا تؤمن بالثابت ولا بالثوابت. هي تيار علماني دنيوي يعادي القيم والعادات والتقاليد السائدة ويعتبرها كلّها قيوداً وأغلالاً أضاعت حرية الإنسان واستعبدته ومحت شخصيته.
وقد انهارت الحداثة وانهار معها ما تحمله من مضامين. وكان السبب الكامن وراء ذلك أنّ صنّاعها رفضوا كل قديم، وأعيتهم الحيلة والوسيلة في إيجاد البديل، وانتهى بهم الأمر إلى الاندماج مع شتى مذاهب التجريب التي خرجت من بين ظهرانيهم.
هذا وقد أدى تطبيق قيم الحداثة، على مفهوم الحداثة نفسه، إلى شكل جديد عُرف بمصطلح ما بعد الحداثة Post-modernisme، وهو مفهوم فكري غربي أطلق تعبيراً عن تيار فكري جديد يقوم على نقد قيم الحداثة الغربية ومفاهيمها. وما بعد الحداثة تقول بسقوط مشروع الحداثة بعد أن بلغ منتهاه وأخفق في تحقيق ما بشّر به، بدليل أن القرن العشرين قد شهد أشد النظم الشمولية والسلطوية بطشاً، وفيه ظهرت الأيديولوجيات العنصرية، وأسيء استخدام العقلانية بتحكم مصالح القوى العظمى الأنانية، وظهر الشطط في ممارسة الفردية، وأثَّر ذلك كله في السلام بين الشعوب. كما أسيء استخدام العلم والتقانة ليصبحا مصدر تهديد لبقاء الإنسان على الأرض بدلاً من أن يكونا مصدراً لرفاهه وأمنه. ولم يقتصر تيار ما بعد الحداثة على نقد قيم الحداثة ومفاهيمها، وإنما راح يبشر بقيم جديدة تقوم على انفتاح فكري مضاد لفكر الحداثة الذي اتسم بصياغة أنساق فكرية مغلقة اتخذت شكل مذاهب فكرية وأيديولوجيات سياسية تفتقر إلى المرونة. ومع ذلك يصعب الإلمام بفكر ما بعد الحداثة فليس له نظرية عامة تحكمه فهو أصلاً ضد صياغة النظريات العامة.
وقد راحت مذاهب ما بعد الحداثة تنتشر في المجتمعات الأوربية ابتداء من عام 1970 ضمن مذاهب متنوعة الأشكال إلا أن أرومة مشتركة جمعت بين مذاهبها، ولو أن ظاهرها متباين، وهي أنها تقرّبت كلها تدريجياً من الليبرالية الجديدة أي سيادة السوق في إدارة الاقتصاد، واستحدثت لها مصطلح جديد هو الحداثة الجديدة néo-modernisme الذي حلّ محل مصطلح ما بعد الحداثة post-modernisme.
تعد ما بعد الحداثة أن الحداثة قد فشلت في الوفاء بوعودها، وأن شطط الفردية قد أدى إلى كوارث إنسانية: النازية والفاشية والحربين العالميتين. وسعت ما بعد الحداثة إلى بلورة مشروع حضاري بديل يقوم على تحرير الفرد من قيود الرأسمالية، وتفكيك المؤسسات الكبرى، وتبديد الأنساق المغلقة، والتركيز على المجتمعات المحلية والتعددية، وعلى الحرية الإنسانية.
تقول الحداثة بمطلقية المعرفة، في حين تؤكد ما بعد الحداثة نسبيتها. وتدعو ما بعد الحداثة للعودة إلى العفوية، وإعطاء الحس معناه وأولويته بعد أن هيمن العقل هيمنة طاغية على الإنسان المعاصر. غير أن هناك مفكرين يعدون الحداثة مشروعاً لم ينته بعد ومن ثم فلا مكان لما بعد الحداثة.