~¤¦¦۞¦¦ أصول الكَلِم ¦¦۞¦¦¤~
علم أصول الكَلم etymology، ويُسمى كذلك «التأصيل»[ر] أو «التأثيل» ويعرف عالمياً بأصل تسميته اليونانية «إتيمولوجية» etymology وهو فرع من اللسانيات التاريخية historical linguistics يبين أصول الكلم تاريخياً من نشأتها مبيناً ما طرأ عليها من تغيرات صرفية أو صوتية أو دلالية، لا في اللغة الواحدة فحسب، بل في الفصيلة أو الأسرة اللغوية التي تنتمي إليها.
والإتيمولوجية، بمفهومها الحديث، لا تقتصر على الأصول التاريخية للمفردات المعجمية lexemes، أو على معنى بيان الحقيقة كما كانت في زمن أفلاطون (ت347ق.م)، ذلك أنها لم تبق معنية بالحقائق الميتافيزيقية، بل إنها استقلت عن الفلسفة لتنصرف إلى اللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية، ولتتقصى وتحلل ما يعتور مفرداتها وعناصرها من تبدّل وتحوّل ضمن المنظومة اللغوية language وعلى مختلف مستوياتها: الصوتية والدلالية والتركيبية (النحوية والصرفية). والإتيمولوجية إذ تفعل ذلك لا تقنع بتسجيل مثل هذا التبدل والتحول وتأريخه بل تطمح أيضاً إلى اكتناه ما يتصل باللغة من عوامل وينتظمها من قوانين. ومع ذلك فإن هذه الشمولية التي تتصف بها اللسانيات التاريخية والمقارنة في الزمن الحاضر حديثة العهد ويعود الفضل فيها إلى ما يمكن أن يوصف بأنه ثورة حقيقية في العلوم اللسانية، ولاسيما في نطاق المدرسة التوليدية التحويلية [ر. اللغة (علم ـ)] التي يقودها تشومسكي[ر] Noam Chomsky وزملاؤه منذ العقد السادس من القرن العشرين، والتي تجاوزت آثارها إلقاء االأضواء الجديدة على طبيعة اللغة إلى فهم طبيعة الإنسان الذي يتمتع بملكتها والنفوذ إلى طبيعة العقل الإنساني.
فيما مضى كانت الافتراضات الميتافيزيقية والنفسية كثيراً ما تترك بصماتها على النظريات المتصلة باللغة. أما الآن فقد غدا التأثير متبادلاً بين الدراسات الإتيمولوجية والدراسات النفسية في مجالات كثيرة وخاصة في مجال البحوث والدراسات المتصلة بعلم نفس الإنسان.
عرض تاريخي
أصول الكلم في الإطار الفلسفي: نشأ الاهتمام بأصول الكلم في إطار الجدل الفلسفي الذي احتدم قروناً طوالاً بين «الطبيعين» naturalists و«الاصطلاحيين» conventionalists في القرن الثالث قبل الميلاد في اليونان. ولعل أقدم الشواهد عليه الحوار الذي وضعه أفلاطون بعنوان «كراتيلوس» Cratylus الممثل لغلاة الطبيعيين والداعية إلى فلسفتهم التي تقول بأن جميع ما في الوجود يخضع لمبادئ أزلية. فقد ذهب إلى أن كلمات اللغة تتوافق توافقاً طبيعياً مع مدلولاتها وذلك للصلة الطبيعية والضرورية بين شكل الكلمة ومعناها. وهذه الصلة، وإن كانت لا تتضّح جلية لعامة الناس في جميع الأحوال، فإنها تتضح جلية للفلاسفة لأن لديهم القدرة، كما يقول كراتيلوس، على استجلاء «الحقيقة» المختفية وراء السطح. ثم شرحها وتفسيرها للناس. ويذهب الاصطلاحيون، على نقيض الطبيعيين، إلى أن اللغة هي ما تواضع أو اصطلح عليه المجتمع البشري، وإلى أنها ليست نتيجة لأية أحكام أزلية، بل هي في حالة تغير وتطور مستمرين. وهذا الجدل الذي ثار بين الطبيعيين والاصطلاحيين في اليونان يقابله لدى العرب فكرتا «الإلهام» و« الاصطلاح» أو «التوقيف» و«التواضع»، أي إن فريقاً من اللغويين العرب ذهب إلى أن اللغة إلهام أو توقيف من الله تعالى، واعتمد في ذلك على الآية الكريمة: )وعلّم آدَمَ الأسماءَ كُلَّها ثمَّ عَرَضَهُم على المَلائِكةِ( (البقرة31) وذهب فريق آخر إلى أن اللغة ما اصطلح عليه القوم، أو تواضعوا على قبوله، فهي عندهم من وضع الإنسان. وقد دار جدل معزز بالحجج والاجتهادات ليدلل كل من الفريقين على صحة نظريته. وثمة من حاول أن يوفق بين الاتجاهين، أو ينتصر لكليهما كابن جنّي (ت392هـ/ 1002م).
وقدّر للجدل بين الطبيعيين والاصطلاحيين في اليونان أن يستمر قروناً، وتتأثر به مختلف الأفكار المتصلة بنشأة اللغة وبالعلاقة بين الألفاظ ودلالاتها. وكذا كان الأمر عند سائر اللغويين في العالم، قديماً وحديثاً. وهذا الجدل يكتسب أهمية خاصة لما تمخض عنه من اجتهادات إتيمولوجية للتدليل على كيفية نشأة اللغة التي لم تفض إلى نتيجة تلقى القبول أو الإجماع، ولكن كان لها الفضل في شحذ همم الباحثين اللغويين لتقصي أصول الألفاظ اعتماداً على تلك التصورات والافتراضات التي انصرفت إلى البحث في نشأة اللغة ذاتها، ثم اتسع البحث والتفكير إلى دراسة العلاقات بين الألفاظ وتصنيف هذه العلاقات بحسب أنواعها، وهذا الجدل اللغوي بين الطبيعيين والاصطلاحيين هو المسؤول كذلك، بخيره وشره، عن هيمنة الفلسفة على علم النحو، قروناً طوالاً.
توافق اللفظ والمعنى: انتبه الطبيعيون في اليونان ولاسيما الرواقيون stoils منهم، إلى أن ثمة كلمات يبدو فيها توافق «طبيعي» بين لفظ الكلمة ومعناها، فهنالك مجموعة من الكلمات، وإن كانت قليلة العدد نسبياً، تحاكي في جرسها، بقدرٍ ملحوظ، ما تدل عليه من أصوات (مثال ذلك في اللغة العربية: وشوشة وأزيز ومواء وحفيف و فحيح وخرير وغير ذلك). كما لاحظوا أيضاً أن هنالك فئة أخرى من الكلمات لا تشير إلى الصوت بالذات، وإنما إلى مصدره (مثال ذلك، لفظة «غاق» التي تدل على الغراب الذي يصدر عنه هذا الصوت). هذه الظاهرة هي ما يطلق عليها في اللغة مصطلح «الأونوماتوبية» onomatopoeia (أي تسمية الأشياء أو الأفعال بمحاكاة أصواتها)، وهي كلمة يونانية استعملت في العهد الاتباعي (الكلاسيكي) للدلالة على تكوين الأسماء. وهذا المصطلح المعروف عند اللغويين عالمياً يقابله في العربية، وإن تكن المقاربة جزئية فقط، ما أطلق عليه ابن جنّي عبارة «إمساس الألفاظ أشباه المعاني» أو «تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني». وفقه اللغة العربية بقديمه وحديثه غني ببحوثه حول العلاقات «الطبيعية» بين الألفاظ ودلالاتها، وهي مايعبر عنه أحياناً بعبارة «القيم التعبيرية للحروف». وقد تبين للرواقيين أن الظاهرة الأونوماتوبية لا تشمل سوى قلة ضئيلة جداً من الكلمات، فلا يمكن إذن أن توصف كلمات اللغة عامّة بأنها من «أصول طبيعية». ولكن الرواقيين ما عتموا، في سعيهم إلى التدليل على الصفة الطبيعية للغتهم اليونانية برمتها، حتى اهتدوا إلى مسوغات أخرى لفلسفتهم الطبيعية، منها أن هنالك مجموعة أخرى من الكلمات تتألف من أصوات يصح أن يقال إنها تحاكي أو ترمز إلى خواصّ أو صفات فيزيائية معينة كصفة السيولة أو القساوة أو الرِّخاوة وغيرها. مثال ذلك في اللغة العربية ما يذكره ابن جني في كتاب الخصائص ونصه: «من ذلك قولهم خَضَم وقَضم، فالخضم لأكل الرطب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصلب اليابس نحو «قضمت الدابة شعيرها». وهذا النوع من العلاقة بين جرس الكلمة ومعناها العام هو ما يطلق عليه في المصطلح الأدبي الحديث «رمزية الصوت» sound symbolism شريطة أن يعنيها الكاتب.
وما يتصف بالأونوماتوبية وبالرمزية الصوتية من مجمل كلمات اللغة ما يزال ضئيل العدد، لذا يُضطر علماء أصول الكلم من الطبيعيين والرواقيين إلى متابعة البحث، ليتوصلوا في نهاية الأمر إلى صوغ مجموعة من المبادئ فحواها أن الكلمات التي ليس لها أصول طبيعية مباشرة تكون مستعارة من كلمات أخرى أو لها علاقة ما بكلمات أخرى ذات أصول طبيعية مباشرة. وهذه المجموعة من المبادىء تنقسم إلى فئتين رئيسيتين، الفئة الأولى تقول بإمكان توسيع نطاق المعنى الأصلي للكلمة باستعمالها في غير موضعها الأصلي بدلالة الصّلة المتصورة بين الاستعمالين، (مثال ذلك في العربية استعمال كلمة «عَيْن» في عبارة «عين الإبرة» و«عُنق» في «عنق الزجاجة»)، أي استعمال الكلمة بما يسمى «المجاز المركب» عند اللغويين المحدثين.
وأما الفئة الثانية، من هذه المبادىء الإتيمولوجية فتقول بإمكان اشتقاق كلمة من كلمة أخرى بإضافة أصوات معينة إليها أو حذف أصوات معينة منها أو استبدال أصوات بأصوات أو تقديم أصوات وتأخير أصوات فيها، شريطة وجود صلة «طبيعية» بين معنى الكلمة الأولى والكلمة الثانية. ولم يكن للطبيعيين أن يصمدوا وينقذوا من الانهيار نظريتهم التي تقول «إن مجمل كلمات اللغة مشتق من فئة من الألفاظ الأولية ويمكن إعادتها إلى أصولها الطبيعية المباشرة» لولا استثمارهم النشيط لهذه المبادئ التي أخذوا يطبقونها على مجمل كلمات اللغة اليونانية بحرية لا تعرف الضوابط والقيود.
جاء أرسطو[ر] بعد أفلاطون (322ق.م) واتخذ موقفاً أكثر تحديداً من موقف أفلاطون، فنص على: «أنّ اللغة هي ما اصطلح الناس عليه، إذ ليس من أسماء تنشأ نشأة طبيعية» و«أن الكلام ليس سوى الشكل الذي تتمثل فيه خبرات العقل». وقد أدى اختلاف الآراء بين مذهب أرسطو ومذهب الرواقيين إلى تطور مهم في تاريخ العلوم اللسانية، إذ إن تلك الآراء المتباينة هي التي أذكت ذلك الجدل الذي شهدته العصور القديمة بين من يذهب كأرسطو إلى أن اللغة في مجملها نظام مترابط تتحكم فيه القوانين (قياسية) على حين رآها فريق آخر كالرواقيين، مملوءة بالاستثناءات التي لا تنتظمها قوانين معينة (غير قياسية).
لم يتمكن اليونانيون في بادئ الأمر من إحراز نتيجة ذات بال في مجال أصول الكلم مع ما توصلوا إليه من نتائج باهرة في مجالي النحو والصوتيات ومع شغفهم الشديد ببحث أصل اللغة كما يتبين من الجدل الذي احتدم بين الطبيعيين والاصطلاحيين. والسبب في تعثرهم هو أنه لم تكن قد تبلورت آنذاك أية فكرة عن طبيعة التغيرات التي تتعرض لها اللغات، وقد ظلت البحوث التأصيلية (الإتيمولوجية) لدى اليونانيين منصبة على رد كل كلمة في لغتهم إلى أصل قديم اعتقاداً منهم أن فهم معانيها «الصحيحة» يتوقف على معاني أصولها. ومع جديتهم التامة في بحثهم فإن النتائج التي انتهوا إليها كانت عقيمة. وثمة أمثلة منها لدى أفلاطون نفسه في حوار كراتيلوس، إذ يشتق مثلاً لفظة anthropos (إنسان) من عبارة anathron ha opopen (يتأمل ما شاهد أعلاه)، ويشتق اسم إله البحر Poseidon من عبارة posi desmos (ما يقيد القدمين). هذا النهج لدى الإتيمولوجيين ظل يعيق جهودهم طوال العصور القديمة والوسطى، وذلك على نقيض زملائهم الذين انصرفوا إلى النحو خاصة والصوتيات، فقد كانت جهودهم أسلم سبيلاً وأكثر توفيقاً.
دانتي والتأصيل: إن دراسة الصلات التاريخية بين فئات معينة من اللغات الأوربية قد بدأت على يدي دانتي[ر] (1265-1321) Dante في كتابه De vulgaris eloquentia عن اللهجات العامية، إذ درس في هذا الكتاب كيفية نشوء لهجات مختلفة تتفرع عن لغة واحدة، وكيفية تطورها إلى لغات متباينة بفعل الزمن، وبسبب تشتت الناطقين بها في مختلف الأصقاع. وقد صنف دانتي اللغات الأوربية في ثلاث أسر: الجرمانية واللاتينية واليونانية، وبرهن على أن الإيطالية والإسبانية والفرنسية تنحدر من أصل واحد هو اللاتينية الكلاسيكيّة وذلك بدليل الأعداد الكبيرة من الألفاظ التي تشترك فيها كل من هذه اللغات مع اللغتين الأخريين، وبدليل أن كلاً من هذه الألفاظ المشتركة يمكن إعادته إلى أصل لاتيني واحد. وظل نهج دانتي متبعاً بعده قروناً وهو تصنيف اللغات الأوربية في فئتين: فئة اللغات التي تبدأ كلماتها الدالة على معنى مئة بالصوت/k/ وتلك التي تبدأ كلماتها بالصوت/s/. فقد كان دانتي يأخذ مدلولاً ما فيتقصى كيف يعبر عنه في لغات مختلفة، وكان مما اكتشفه مثلاً أن جميع اللغات الجرمانية[ر] تعبر عن مدلول «نعم» بألفاظ تبدأ بالصوت/j/ مثل yes في الإنكليزية وja في الألمانية، وأن اللغات اللاتينية الثلاث تعبر عن معنى «نعم» بكلمة si في إيطالية وoc في جنوبي فرنسة وoil في شمالي فرنسة.
سكاليجيه والتأصيل: استطاع العالم الفرنسي جوزيف سكاليجيه (1540-1609)Scaliger أن ينسف زعمين كانا يُشوهان البعد التاريخي في العلوم اللسانية: الأول أن اللاتينية تنحدر مباشرة من إحدى اللهجات اليونانية، والثاني أن جميع اللغات في العالم تنحدر من اللغة العبرية (اعتماداً على النظرية الدينية). وقد صنف سكاليجيه اللغات الأوربية في إحدى عشرة أسرة تنحدر الأسرة الواحدة منها من أصل واحد. ويقسم سكاليجيه هذه الأسر إلى أربع كبرى وسبع صغرى، والأسر الكبرى هي: اللاتينية واليونانية والجرمانية والسلافية، وسمى كل أسرة بالاسم المستعمل للدلالة على الإله، وهكذا يتحدث عن لغات ديوس Deus فيما يتصل بالأسرة اللاتينية وعن لغات ثيوس Theos فيما يتعلق بالأسرة اليونانية وعن لغات غوت Godt فيما يتصل بالجرمانية ولغات بوجه Boge في الأسرة السلافية.
ليبنيتز: بعد قرن من سكاليجيه جاء الفيلسوف الألماني ليبنيتز[ر] (1646-1716) Leibnits الذي استهوته اللسانيات التاريخية فذهب إلى أنه لا مسوّغ لاستبعاد الفرضية التي تقول بأصل واحد لجميع لغات العالم، علماً بأنه لم يحاول قط أن يبحث عن مثل هذا الأصل. وقد تطرق إلى اللغة العبرية معبراً عن يقينه الجازم بأنها لا تعدو أن تكون لغة من اللغات التي تتألف منها المجموعة العربية. وكان لَيبنيتز من أوائل الذين لاحظوا أن ثمة علاقات تاريخية بين اللغة الفنلندية واللغة الهنغارية. وقد أكدّ أهمية الدراسات الإتيمولوجية للسانيات التاريخية، ودعا إلى وضع قواعد ومعاجم لجميع لغات العالم ، وكذلك إلى أطالس لغوية وهجائية عالمية، وحث حكام روسية على القيام بمسح عام للغات الشعوب غير الأوربية في امبراطوريتهم ووضع معاجم لها. وهكذا وُجِّه الاهتمام إلى التقسيم السُّلالي للغات، وإلى علم اللغة التاريخي، مما أدّى إلى التأسيس لعلم تاريخ الكلمات، أو علم أصول الكلم.
انطلاقة علم التأصيل اللغوي
يقول روبنز Robins في كتابه «موجز تاريخ اللسانيات» إنه إذا كان لا بد من اختيار سنة بعينها، مهما كان هذا الاختيار اعتباطياً، لتأريخ انطلاقة العلوم اللسانية بمفهومها المعاصر فهي سنة 1786 التي أعلن فيها المستشرق البريطاني السير وليم جونز[ر] Sir William Jones كشفه علاقة تاريخية لا يرقى إليها الشك بين السنسكريتية، لغة الهند التقليدية، واللغات اللاتينية واليونانية والجرمانية، إذ قال «إن الوشائج التي نلاحظها بين السنسكريتية من جهة، واليونانية واللاتينية، من جهة أخرى، من حيث جذور أفعالها وصيغ قواعدها النحوية، هي أوثق من أن تكون قد نتجت بالمصادفة المحضة، بل إنها وثيقة بقدر لا يملك معه أي فقيه لغوي يتأمل اللغات السنسكريتية واليونانية واللاتينية إلا أن يخلص إلى أنها قد أتت من أصل واحد قديم، ليس من المستبعد أن يكون قد عفى عليه الزمن».
أصول الكلم في إطار اللسانيات التاريخية والمقارنة: شهد مطلع القرن التاسع عشر انطلاقة العمل الدؤوب والمنسق في اللسانيات عامة وفي فرعيها التاريخي والمقارن خاصة. وقد جاءت الإنجازات الأولى المهمة على يد أربعة من العلماء هم الدنمركي راسك (1787-1832) Rask والألمانيون الثلاثة: غريم[ر] (1785-1863) Grimm وبوب[ر] (1791-1867) Bopp وفون هومبولت[ر] (1763-1835)Von Humboldt . ويعدّ راسك وغريم رائدي الدراسات التاريخية والمقارنة للغات الهندية ـ الأوربية، وراسك هو الذي وضع أول نحو منهجي للغة الاسكندنافية الأم Old Norse واللغة الإنكليزية الأم Old English، كما أنه أول من وضع شرحاً علمياً منظماً لطبيعة العلاقات الإتيمولوجية بين اللغات بدراسة مقارنة لخصائص مفرداتها الصوتية. أما غريم فقد اشتهر قانونه في قواعد تغير أصوات اللغات الذي عرف باسمه «قانون غريم»، وكان بذلك أول من استعمل مفهوم «القانون» في وصفه لما تعرضت له اللغة الجرمانية الأم في عهود ما قبل التاريخ (أي قبل اختراع الكتابة) مقارنة بغيرها من اللغات. وما يزال قانون غريم بمقارنته لغات المجموعة الجرمانية بغيرها من لغات الأسرة الهندية الأوربية أفضل ما وضع حول العلاقات الصوتية بين لغات هذه الأسرة. وقد احتاج هذا القانون إلى بعض التعديل الذي أدخله عليه بعد مدّة وجيزة العالم الألماني فرنر[ر] Werner في القانون المعروف باسمه «قانون فرنر» وأهمية هذا القانون أنه استطاع تفسير ما لم يستطع غريم تفسيره بسبب إغفاله الدور الأساسي الذي يكون لموضع النبرة في تطور ألفاظ اللغات الجرمانية.
وقد كان للحركة الإبداعية (الرومنسية) التي ترعرعت في القرن التاسع عشر ووقفت في وجه اتباعية العصر السابق وعقلانيته، وخاصة في ألمانية، كان لها أثرها في تطوير الدراسات اللسانية. وقد ذهب أحد القادة البارزين لهذه الحركة يوهان هيردر[ر] (1803) Johann Herder إلى أن هنالك صلة حميمة بين لغة شعب ما وسمته القومية المميّزة. وجاء العالم الموسوعي فون هومبولت ليصوغ مقولة هيردر بمزيد من الدقة والتحديد، قال: «إن لكل لغة بنيتها المميزة، فهي تعكس الطرائق التي يفكر الناطقون بها ويعبرون بها عن أنفسهم، بل تتجاوز ذلك فتترك طابعها على طرائق تفكيرهم وتعبيرهم وتؤثر فيها». وكان من نتائج هذه الآراء تعزيز اهتمام اللغويين الألمان بتعرّف المراحل التاريخية القديمة للغتهم ولغات الشعوب الأخرى. وفون هومبولت هو من القلائل الذين لم يحصروا جل اهتمامهم في الجانب التاريخي من اللغة. بل ربما كان من أبرز ما أسهم به في تطوير نظرية اللغة، تصنيفه الشهير للغات العالم إلى عازلة ولاصقة ومُعربة وفقاً لنوع البنية التي تغلب على كلماتها لا بوصفها وحدات معجمية، بل بكونها وحدات نحوية. وفي كتابه عن «أصول الأشكال النحوية وأثرها في تطور الفكر» يتتبع فون هومبولت مسار اللغات في انتقالها من المرحلة العازلة (أي المرحلة التي يؤلف كل عنصر فيها كلمة مستقلة بذاتها) إلى المرحلة اللاصقة (أي المرحلة التي تتميز بقدرة اللغة على تكوين كلمات مركبة من عناصر أو وحدات بسيطة). ومن ثم إلى المرحلة المعربة (أي المرحلة التي تتميز بقدرة اللغة على تكييف الأشكال التي تتكون منها كلماتها على نحو يجعلها قادرة على التعبير عن مختلف أنواع العلاقات النحوية القائمة بينها في الجملة).
وهذا الأسلوب في تصنيف اللغات اتبعه أيضاً شلايخر (Schleicher (1868. ولكنه يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه فون هومبولت. فقد حاول استكناه أو إعادة بناء اللغة الأم في أسرة اللغات الهندية الأوربية، وعدّ هذه اللغة الأم التي انحدرت منها جميع اللغات الهندية الأوربية كانت موجودة في حقبة من حقب ما قبل التاريخ، وأنها بلغت مرحلة من النضج ظل عصياً على جميع عوامل الانحلال. أما المراحل التاريخية التالية فقد رآها شلايخر مراحل من التقهقر، مستنداً في ذلك إلى أن اللغات التقليدية القديمة كانت تغلب عليها البنية المعربة إذا قورنت باللغات المنحدرة منها. وهذا الإعجاب باللغات المُعربة يشمل جميع لغويي القرن التاسع عشر ابتداء من غريم ومروراً بفون هومبولت، وشلايخر هو الذي استحدث أسلوب وضع علامة النجمة * أمام أي من الصيغ أو الكلمات التي يقع عليها العالم اللّغوي أو يستنتجها استنتاجاً. ولعل أهم أعماله كتابه المسمّى «خلاصة وافية لنحو اللغات الهندية الجرمانية المقارن» كما أن من أهم إسهاماته نظريته المتعلقة بالشجرة السلالية Slammbaum theory لأسرة اللغات الهندية الأوربية.
حركة النحويين الجدد: في الربع الأخير من القرن التاسع عشر اشتهرت جماعة من العلماء في ألمانية أطلق عليها خصومها اسم النحويين الجدد neo grammarians (وإن كان هؤلاء العلماء قد سعدوا كثيراً بهذه التسمية وتعلقوا بها). ونظرية النحويين الجدد يلخصها باسمهم (في عام 1875) فيلهلم شيرر[ر] Wilhelm Scherer بقوله: «إن التغيرات التي تقع لأصوات اللغة بحسب ما يلاحظ في وثائق لغوية مدونة تخضع دوماً لقوانين ثابتة لا تزعزعها إلا قوانين أخرى تحل محلها»، (ومثال ذلك القانون الذي وضعه فرنر لتعديل قانون غريم). وكانت الأعوام التي أعقبت ظهور خلاصة شلايخر قد شهدت الكثير من البحوث الخصبة والدقيقة في مختلف فروع الأسرة الهندية ـ الأوربية ووضعت من خلال تلك البحوث صيغ جديدة للقوانين الصوتية لا تعتريها أية ثغرات أو استثناءات. وهكذا غدا من الممكن تتبع تاريخ أية لغة من اللغات عن طريق ما يلاحظ من تباين في أشكال مفرداتها ومعانيها، كما غدا من الممكن البرهان على وجود علاقة بين لغة ولغة أخرى بملاحظة ما تحتويانه من كلمات متطابقة في أشكالها ومعانيها إلى حدّ لا يمكن معه أن يكون التطابق قد حصل من قبيل المصادفة أو بسبب كون الكلمات المعنيّة قد دخلت إحدى هاتين اللغتين أو كلتيهما من عهد قريب. وقد جاء النحويون الجدد ليجعلوا من اللسانيات التاريخية علماً دقيقاً ينتهج في بحوثه طرائق على غرار تلك المتبعة في العلوم الطبيعية، لما حققته هذه من النجاح. وبهذه الروح يتحدث أوستهوف Osthoff عن قوانين تعمل بالضرورة الحتمية وعلى نحو مستقل تماماً عن إرادة الفرد. ومع ذلك فإن النحويين الجدد لا ينظرون إلى اللغة على أنها كيان عضوي مستقل عن الإنسان أو قادر على الاستمرار من بعده، إذ لا وجود لها إلاّ في الأفراد الذين تتكوّن منهم المجموعة البشرية. وانسجاماً مع ما يعدونه النظرة العلمية الصحيحة، فإن النحويين الجدد يتخذون موقفاً يستهجن أي أفكار أو مفهومات ذات صفة قبْلية apriori تعتمد على التجديد بدل التجربة، كذلك الأفكار والمفهومات التي كانت تصدر في عهود ما قبل التاريخ، ومرحلة التقهقر في العهود التاريخية التي أعقبتها. وليس ثمة فرق بين لغات ما قبل التاريخ ولغات العهود التاريخية في التغيرات اللغوية التي تطرأ عليها، ماخلا نوعاً من الشواهد المتناثرة المجموعة من كلتيهما، بل لقد كان النحويون الجدد يؤثرون أن ينصرفوا انصرافاً تاماً إلى دراسة المعلومات الأساسية التي تتوافر في المدونات وفي اللغات المحكية في الزمن الراهن. وقد ركزّوا اهتمامهم على اللهجات المحلية في أوربة وجعلوا منها مجالاً حيوياً لاستقصاءاتهم العلمية لأنها تلقي كثيراً من الضوء على طبيعة التغيرات التي تطرأ على اللغات، لأن اللهجات المحلية تمثل أحدث مرحلة في عملية تشعب الأسرة التي تتكون منها اللغات الهندية الأوربية. وهكذا فقد شهدت هذه المرحلة نشاطاً متزايداً في مجال المسح المتصل باللهجات المحكية وحركة وضع أطالس لها. ومن أبرز الذين أسهموا في تطوير مبحث اللهجات المحكية العالم الفرنسي جيليرون Gillieron الذي وضع أطلساً لغوياً لفرنسة وقام بدراسات إتيمولوجية للكثير من كلمات اللغة الفرنسية وأهمها الدراسة التي تضمنها كتابه الشهير حول «التسلسل الأسري للكلمات الدّالة على النحل» Généalogie des mots qui désignent l’abeille.
الكلمات الدخيلة وآثارها: كان هنالك الكثير من الحالات التي بدا أنها تخرق قوانين الأصوات اللغوية، ولكن النحويين الجدد استطاعوا تفسير معظمها بإثبات أن الكلمات التي تشذ عن قانون من هذه القوانين في لغة ما إنما هي كلمات دخيلة عليها، وأنها قد وفدت إليها من لغة أو لهجة أخرى قريبة بعد انتهاء المرحلة التي كان فيها القانون الصوتي المشار إليه ساري المفعول. وفيما يلي مثال للتوضيح. هنالك في اللغة اللاتينية كلمة «rufus» (أي أحمر)، فوفقاً للقانون الصوتي يتوقع المرء أن يجد الصوت b حيث يوجد الصوت f في هذه الكلمة أسوة بما هو في جميع كلمات اللغات الهندية الأوربية الأخرى، ووفقا ً للقاعدة التي يفترض أن تنطبق على اللغات اللاتينية. وهنالك في اللغة اللاتينية كلمة أخرى تعني أحمر وهي كلمة «ruber» ونلاحظ أن الصوت b يقع تماماً في الموضع الذي يفترض أن يوجد فيه بحسب القانون المذكور. وقد استطاع النحويون الجدد تعليل هذا التباين الظاهر بإثبات أن كلمة «rufus» دخلت اللغة اللاتينية من لهجة مقاربة لها، وأن وجود الصوت f في تلك اللهجة كان نتيجة تطور طبيعي وفقاً للقواعد الصوتية المتعلقة بالأسرة الهندية الأوربية.
القياس ودوره: اكتشف النحويون أن هنالك عاملاً آخر يفسر بعض الاستثناءات الظاهرية لقوانين الصوت يتمثل في ظاهرة القياس analogy، فقد كان معروفاً منذ أمد طويل أن تطور اللغة كثيراً ما يتأثر بنزعة الإنسان إلى صوغ كلمات جديدة بالقياس على الأنماط الشائعة، وهي نزعة تتجلى لدى الأطفال خاصة، فنسمع طفلاً إنكليزياً مثلاً يقول I seed، بدلاً من I saw (أي رأيت) ويقول I goed بدلاً من I went (أي ذهبت) قياساً على مئات الأفعال الأخرى التي يصاغ ماضيها بإضافة d أو ed إليها، أو تسمعه يقول tooths بدلاً من «teeth» (أي أسنان) و«foots» بدلاً من feet (أي أقدام) قياساً على hooks, books وغيرها التي يصاغ جمعها بإضافة s إليها. ومع تنامي الاهتمام بدراسة تطور اللغات الأوربية من تقليدية ودارجة في القرن التاسع عشر أدرك اللغويون أن النزعة إلى القياس لها أثر كبير في جميع مراحل تطور اللغة، وأن من الخطأ القول إنه ما لهذه النزعة من أثر يكون فقط فيما ينعته بعضهم بمراحل التقهقر والانحلال.
اللسانيات الحديثة
هنالك اتفاق عام على أن مؤسس اللسانيات بمفهومها الحديث هو العالم السويسري فيردينان دي سوسور[ر] (1857-1913) Ferdinand de Saussure الذي يقترن اسمه بالحركة البنيوية[ر] Structuralism التي تقول: «إن كل لغة من اللغات لها بنية أو منظومة خاصة بها تتألف من علاقات ووحدات يتم تعرفها أو يفترض وجودها افتراضاً، عن طريق تحليل أي جملة في اللغة (من أصوات وكلمات ومعان وغيرها) وهي مدينة بماهيتها ووجودها إلى علاقاتها بوحدات أخرى في المنظومة اللغوية ذاتها. فلا يستطاع تعرّف هذه الوحدات أولاً ثم محاولة اكتناه نوع العلاقات التي تجمع بينها، في مرحلة لاحقة من التحليل، بل ينبغي محاولة تعرّف الوحدات اللغوية والعلاقات بينها معاً وفي الوقت ذاته». وهكذا فليست الوحدات اللغوية سوى نقاط تقع ضمن شبكة من العلاقات وتؤلف نقاط النهاية لها، من غير أن يكون لها وجود قبلها أو مستقل عنها. ومن المبادىء التي أسهمت كثيراً في تطوير بنيوية سوسور المبدأ الذي يؤكد ضرورة التمييز بين البعد التزامني (السنكروني) synchronic والبعد التاريخي (الدياكروني) diachronic في الدراسات اللسانية، فالتحليل التزامني يعني تحليل اللغة في برهة معينة من الزمن الماضي أو الحاضر، أما التحليل التاريخي فإنه يُعنى بدراسة ما يطرأ من تغيرات على اللغة بين برهتين محددتين. فإذا طبق هذا المبدأ تطبيقاً صارماً وجب أن يقال إن اللغة التي تستعملها جماعة ما اليوم هي غير اللغة التي كان يستعملها أسلافها، فهما لغتان متباينتان ولا يصح أن يطلق عليهما الاسم ذاته. وينبغي أن يلاحظ كذلك أن التغيرات التي تقع في اللغات على الصعيد التاريخي إنما هي وجه من وجوه ثلاثة من التباين اللغوي: على الصعيد التاريخي والصعيد الجغرافي والصعيد الاجتماعي. والفروق التي تلاحظ بين لهجتين تنتميان إلى زمن واحد وتتفرعان من لغة واحدة كثيراً ما تفوق الفروق بين مرحلتين تاريخيتين من اللغة الواحدة.
يقول سوسور في وصفه للإتيمولوجية: إنها لا تعدو أن تكون تطبيقاً خاصاً لمبادئ تتصل بحقائق متزامنة (سنكرونية) وحقائق تاريخية (دياكرونية)، ووظيفتها أن تتقصى ماضي الكلمات إلى أن تجد ما يلقي عليها بعض الضوء. فعند الحديث عن أصل كلمة من الكلمات يقال إنه يعود إلى كلمة أخرى، وهنالك أشياء عدة يمكن أن تفهم من هذا القول. فإذا أخذت الكلمة الفرنسية sel أي ملح يُقال إن أصلها يعود إلى الكلمة اللاتينية sal التي تغيرت إلى sel بمجرد تغيير لفظها. وإذا أُخذ الفعل الفرنسي labourer أي فلح أو حرث يُقال إنه جاء من فعل فرنسي قديم هو labourer، ومعناه «عَمِل» بالمفهوم العام من الفعل. وإذا أخذ الفعل الفرنسي couver أي حضَن أو رقد يُقال إنه جاء من الفعل اللاتيني cubare أي رقد أو استلقى. وأخيراً إذا أخذت كلمة pommier الفرنسية أي شجرة تفاح يُقال إنها تعود في أصلها إلى كلمة pomme الفرنسية أي تفاحة، وفي هذه الحالة الأخيرة يلاحظ أن العلاقة بين الكلمتين هي علاقة اشتقاق صرفي. وهكذا فإن الحالات الثلاث الأولى هي حالات تطور تاريخي كما هو جلّي، في حين أن الحالة الرابعة تقوم على علاقة تزامنية. ويمضي سوسور في شرحه لطبيعة العملية الإتيمولوجية فيقول: إن كلمة bonus الفرنسية أي علاوة تعود في أصلها إلى الكلمة اللاتينية dvenos، ويقارن بين هذه العلاقة والعلاقة بين bis أي إعادة أو تكرار وأصلها اللاتيني dvis، قائلاً: هذا هو ما يمكن أن نسميه عملية إتيمولوجية إذ نستطيع أن نكتشف على هذا النحو القرابة بين كلمة oiseau أي طير وكلمة avicellus، ومن ثم بين oiseau وavis أي رأي.
والقصد الرئيسي من العملية الإتيمولوجية، كما يقول سوسور، هو شرح الكلمات عن طريق إيضاح العلاقات القائمة بينها وبين كلمات أخرى، والمقصود من شرح الكلمات هو صياغتها من جديد بكلمات مألوفة، إذ ليس هنالك من علاقة محتمة بين لفظ الكلمة ومعناها (وذلك وفقاً لمبدأ اعتباطية الإشارة اللغوية linguistical sign الذي يقول إن العلاقة بين الكلمة بوصفها مجرد إشارة لغوية ومدلولها هي علاقة اعتباطية لا صلة لها بالمنطق). والإتيمولوجية لاتقنع بشرح الكلمات كّلٍ على حدة بل تطمح إلى الكشف عن تاريخ العلاقات التي تنتظمها تماماً كما تطمح إلى الكشف عن تاريخ العناصر التي تتألف منها، كالسوابق prefixes واللواحق suffixes وغيرهما، وكما هو شأن اللسانيات «السنكرونية» واللسانيات «الدياكرونية» فإن الإتيمولوجية تطمح أيضاً إلى وصف الحقائق كما هي من دون تحريف، ولكن عملية الوصف هذه لن تلتزم نهجاً معيناً، كما يؤكد سوسور، لأنه لا مجال إطلاقاً لرسم وجهة مسبقة لها بالذات، فالإتيمولوجية تجد إبان تحقيقها في كلمة من الكلمات أنها في حاجة إلى شتى أنواع المعلومات تستقيها من علوم الصوتيات أو الصرف أو المعاني أو غيرها، وكي تحقق غايتها فإنها لا تجد حرجاً في استثمار جميع الإمكانات التي تتيحها لها العلوم اللسانية، ولا تود إطلاقاً أن تقصر اهتمامها على العمليات التي تجد نفسها مضطرة إلى القيام بها.
ومن مظاهر التأصيل اللغوي استقصاء نشأة الكلمات في مهدها أو في بيئتها المحلية التي تكاد تنفرد بها، كأسماء الحيوانات أو النباتات التي تعيش في بيئة محددة. ومن ذلك شهرة بلد ما بنوع من الصناعات، أو سبقه في استخدام مسميات عرفها قبل غيره، فكل ذلك مما يُفترض أن يوضع في الحسبان تحقيقاً للتأصيل اللغوي السليم.