►◙[▒]◙◄ الإجرام الدولي►◙[▒]◙◄
الإجرام الدولي criminalité internationale تعبير حديث نسبياً، وموضوعه لايزال غير محدد بدقة. فقد كان التعامل في القديم جارياً ومألوفاً على أن المنتصرين في الحروب، العادلة والظالمة، يأخذون نساء المنكسرين سبايا ورجالهم وأولادهم أرقاء. وكانت كل قسوة تستعمل في المعارك لكسبها مسوغة بقاعدة «الغاية تبرر الوسيلة». ولم يحدث أن فكر أحد بمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم الفظيعة، خشية أن تمس هذه المحاسبة مبدأ سيادة الدولة التي يعملون باسمها. وكان على المنكسرين انتظار فرصة قادمة للثأر.
غير أن الأفكار أخذت تتطور منذ أواسط القرن التاسع عشر. فقد صدر عن قيادة الجيش الأمريكي بلاغ في عام 1863، نص على معاقبة مرتكبي بعض أفعال عنيفة في الأعداء أو الأسرى، من دون ضرورة تقتضيها العمليات الحربية. وأحس المجتمع الدولي بحاجة ملحة وإنسانية إلى تخفيف ويلات الحرب عن الناس، فتداعت الأمم إلى عقد معاهدة جنيف عام 1864 التي تنص على منع ارتكاب الأعمال الفظيعة في أثناء الحروب، وتلتها معاهدة أخرى عقدت عام 1899 في لاهاي لتأكيد الأهداف نفسها. وبعد ذلك صدر عن رئاسة الأركان العامة للجيش الألماني عام 1902 بلاغ يمنع استعمال بعض أنواع الأسلحة الفتاكة، ويعاقب من يقتل الجرحى أو أسرى الحرب، كما يعاقب أعمال القسوة في المدنيين من سكان البلاد المحتلة، ويعد من يعبث بالملكية الفردية، من مجوهرات أو نقود، كمن يرتكب جريمة سرقة موصوفة. وقد كانت تعد فيما مضى غنائم حرب. وتبنّى قانون العقوبات العسكري الفرنسي عام 1913 نصوصاً مشابهة.
ولكن أحداث الحرب العالمية الأولى أثبتت أن الوقائع غير النصوص، لذلك فكر الحلفاء المنتصرون على ألمانية وحلفائها، بمعاقبة الذين أوقدوا نار الحرب والذين ارتكبوا أعمالاً إجرامية فظيعة. وأول من فكروا بمعاقبته الإمبراطور الألماني غليوم الثاني. ولكن لم يكن في متناول أيديهم نصوص قانونية منشورة تطال أية تهمة يمكن أن توجه إليه وإلى حكومته، ولاسيما أنه رأس الدولة، وكانت محاكمته تعني محاكمة «الدولة الألمانية». ولم يكن مقبولاً آنذاك أن تحاكم دولة على أعمالها، لأن محاكمة كهذه تنتهك سيادة الدولة، وحق السيادة حق مطلق.
ولكن الحلفاء ضربوا صفحاً عن كل هذه الاعتبارات، ووضعوا المادة 227 من معاهدة فرساي لهذا الغرض، «على أساس أن الامبراطور المذكور ارتكب إهانة عظمى ضد الأخلاق الدولية وضد قدسية المعاهدات». ونُصَّ في هذه المعاهدة على إنشاء محكمة خاصة لمحاكمته. غير أن الامبراطور وولي عهده لجأا إلى هولندة، التي رفضت تسليم الامبراطور إلى أعدائه.
وبعد ذلك أنشئت عصبة الأمم [ر] عام 1920، واتخذت لها مقراً في جنيف «من أجل المحافظة على السلام العالمي وتنمية التعاون بين الدول»، وأوجبت المادة 12 من صكها اللجوء إلى التحكيم أو القضاء أو وساطة المجلس التنفيذي للعصبة لحل كل الخلافات. ثم عقدت معاهدة بريان (الفرنسي) وكيلوغ (الأمريكي)، وقبلتها دول العصبة، وبموجب هذه المعاهدة عدت الحروب «خارجة على القانون».
ولكن كل من هذه المعاهدات لم تنفع في منع ألمانية من شن حرب جديدة على بولندة عام 1939، فاتسعت حتى أصبحت حرباً عالمية ثانية، وقد ارتكبت فيها جرائم لايستطيع قلم أن يحيط بفظاعاتها... وتُوِّجت هذه الجرائم بإلقاء القنبلتين الذريتين الأمريكيتين على هيروشيما اليابانية في 6/8/1945 وناغازاكي اليابانية أيضاً يوم 9/8/1945.
واستسلمت ألمانية بلا قيد أو شرط يوم 7 أيار 1945، كما استسلمت اليابان أيضاً بلا قيد أو شرط يوم 2 أيلول 1945، وبذلك انتهت الحرب المدمرة.
وعادت فكرة معاقبة الذين شنوها إلى البحث. وعاد الخلاف حول المبدأ القانوني الذي يجيز محاكمة المنكسرين في الحروب. وفي النهاية انتصر الاتجاه الذي طالب بوجوب المحاكمة، على أساس أن المنكسرين ارتكبوا ثلاث مجموعات من الجرائم هي: شنهم حرباً عدوانية خرقاً لأحكام القانون الدولي، وارتكابهم جرائم حرب لا تسوغها الأعراف الحربية، وارتكابهم جرائم بحق الإنسانية.
وكان هذا الاتجاه يستند إلى عدة تصريحات دولية، وجهها الحلفاء إلى القادة الألمان واليابانيين وحلفائهم في أثناء الحرب، بأنهم سيتحملون مسؤولية الجرائم التي يرتكبونها، هم أو مواطنوهم، سواء أكانوا عسكريين أم مدنيين. وأهم هذه التصريحات، تصريح موسكو الصادر في 30/8/1943 الذي وقع عليه الرئيس الأمريكي روزفلت والرئيس الروسي ستالين ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل.
وبمجرد أن سكتت المدافع اتخذ الحلفاء إجراءين أساسيين: الأول اتفاق 28/8/1945 القاضي بإنشاء محكمة نورمبرغ[ر] الخاصة بمحاكمة كبار مجرمي الحرب. والثاني القانون الحليف ذو الرقم 10 المؤرخ في 20/12/1945، القاضي بإنشاء محاكم إقليمية لمحاكمة مجرمي الحرب الآخرين.
ثم أصدر القائد الأعلى لقوات الحلفاء في الشرق الأقصى قراراً أنشأ بموجبه محكمة طوكيو لمحاكمة كبار مجرمي الحرب في بلاد عمليات الشرق الأقصى.
وفيما يلي لمحة عن هذه المحاكم:
محكمة نورمبرغ: تشكلت هذه المحكمة من أربعة قضاة يمثلون الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (سابقاً) وإنكلترة وفرنسة. وللمحكمة نيابة عامة تتمثل فيها الدول الأربع المذكورة، للتحقيق والاتهام، وتتخذ قراراتها بالأكثرية.
وتختار النيابة العامة المتهمين من الذين لا يوجد مكان محدد جغرافياً لجرائمهم. وقد اختارت اثنين وعشرين متهماً ألمانياً، يمثلون مختلف قطاعات الدولة، بينهم الماريشال غورنغ، نائب هتلر وقائد سلاح الطيران، ورودولف هس، والماريشال كايتل قائد الجيش الألماني، والأميرال الأكبر دونيتز.
وصدر الحكم بإعدام اثني عشر متهماً نفذ فيهم حكم الإعدام شنقاً، وبحبس أربعة مدى الحياة.
محكمة طوكيو: وقد أنشئت بقرار من القائد العام للقوات الحليفة عام 1946. وهي تتألف من أحد عشر قاضياً، يمثلون إحدى عشرة دولة حاربت اليابان. وقد دافع المتهمون عن أنفسهم بأنه لا تجوز محاكمتهم عن أفعال لم تكن معاقبة بنص قانوني يوم ارتكابها، وقد رفضت المحكمة هذا الدفاع، على خلاف في الرأي بين أعضائها، وقضت بإعدام عدد من كبار المسؤولين، بتهمة ارتكابهم جرائم بحق السلام، وجرائم حرب غير مسوّغة.
المحاكم الإقليمية: وهي محاكم أنشئت في عدة دول، ولاسيما في ألمانية لمحاكمة مجرمين دوليين، لم يحالوا على محكمة نورمبرغ، استناداً إلى القانون الحليف رقم 10 لعام 1945، أو إلى محكمة طوكيو. وقد أصدرت هذه المحاكم سلسلة من الأحكام على عدد من مرتكبي الإجرام الدولي في أوربة والشرق الأقصى. وتم إعدام كثيرين منهم.
ولما كانت هناك اتفاقية دولية معقودة بتاريخ 26/11/1969، تنص على عدم سقوط الجرائم الدولية بالتقادم، فإنه لاتزال بعض المحاكمات تجري لعدد من مجرمي الحرب، كلما كشف أحد منهم.
وقد أرسخت هذه المحاكمات مفهوم الإجرام الدولي، وأرست محكمة نورمبرغ أركانه بقرارها الذي أصبح المرجع الأهم في هذا الموضوع.
وهكذا يكون التطور قد انتهى إلى إبراز عدة جرائم دولية فيما يلي أربع منها، أخطرها وأفظعها:
الجنايات المرتكبة بحق السلام: وتشتمل على شن الحروب العدوانية وإدارتها والتحضير لها ومتابعتها خرقاً للمعاهدات والتأكيدات أو الاتفاقيات الدولية والمشاركة في مخطط مدروس أو مؤامرة لارتكاب أي من الأفعال السابقة (المادة 6 ف أ من نظام محكمة نورمبرغ، والمادة 2 ف أ من القانون الحليف رقم 10).
وقد وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على تعريف العدوان بتاريخ 14/12/1974.
جنايات الحرب: وتشمل الجرائم التي ترتكب انتهاكاً لقوانين الحرب وأعرافها، ويدخل فيها القتل مع سبق العمد، وإقصاء المدنيين عن أماكنهم وتشغيلهم بأعمال شاقة، وقتل أسرى الحرب أو إساءة معاملتهم، وقتل الرهائن ونهب الأموال العامة والخاصة وتخريب المدن والقرى من دون سبب، وكل تخريب لا تسوغه المقتضيات العسكرية (المادة 6 ف ب من نظام نورمبرغ).
الجرائم بحق الإنسانية: وتشمل جرائم القتل العمد والإفناء والاسترقاق والإقصاء، وكل فعل آخر غير إنساني يرتكب بحق المدنيين، قبل الحرب أو بعدها، وكل اضطهاد لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية سواء ألفت هذه الأفعال والاضطهادات خرقاً للقانون الداخلي في البلد الذي ارتكبت فيه أم لا (المادة 6 ف جـ من نظام نورمبرغ).
جناية الإبادة: وتتحقق هذه الجناية بإفناء مجموعة من الناس، كلياً أو جزئياً، جسدياً أو بيولوجياً.
وتختلف عن الجرائم الموجهة للإنسانية بأن هذه الجرائم تستهدف اضطهاد الأفراد بسبب عرقهم أو دينهم أو رأيهم السياسي، في حين أن جناية الإبادة تهدف إلى إبادة مجموعات وطنية أو عرقية أو سلالية أو دينية، من دون نظر إلى الاعتبارات السياسية. ومن أمثلتها المذابح الجماعية لمجموعة محددة من الناس، وتهديم المدن الآهلة بالسكان على أهلها بوسائل الحرب الحديثة.
ويدخل في مفهوم الإجرام الدولي أيضاً، جرائم الإرهاب الدولي والقرصنة البحرية وخطف الطائرات للحصول على فدية...
ولكي يصبح الإجرام الدولي مفهوماً قانونياً معاقباً عليه بنصوص مقررة ومعلنة، فقد قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 11/12/1946 اعتبار المبادئ الواردة في قرار محكمة نورمبرغ وما في حكمها من قواعد القانون الجزائي الدولي، كما قررت تأليف لجنة لصوغ هذه المبادئ. وقد أنجزت هذه اللجنة مهمتها عام 1950. وبذلك يكون مفهوم الإجرام الدولي قد اتخذ شكل التشريع المعلن.
ومع ذلك فقد وضع مشروعان اثنان لا يزالان قيد الدراسة في الأمم المتحدة، الأول مشروع قانون متكامل للجرائم الدولية والثاني مشروع قانون لإنشاء محكمة دولية لمرتكبي هذه الجرائم.