«❖» المسؤولية الدولية «❖»
تمثل دراسة المسؤولية أهمية خاصة في كل نظام قانوني لما توفّره من ضمانات تكفل احترام الالتزامات التي يفرضها النظام القانوني على أشخاصه وما ترتبه من جزاءات على مخالفة هذه الالتزامات وعدم الوفاء بها، ووفقاً لهذا المفهوم؛ فإن لنظام المسؤولية على الصعيد الدولي أهمية كبيرة حيث يقع على عاتقه مهمة إعادة الحق إلى نصابه وإنصاف المعتدى عليهم.
تعريف المسؤولية الدولية international responsibility
هي نظام قانوني ينشأ في حالة قيام دولة أو شخص من أشخاص القانون الدولي بعمل أو امتناع عن عمل مخالف للالتزامات المقررة وفقاً لأحكام القانون الدولي[ر]، ومن ثم تتحمل الدولة أو الشخص القانوني الآخر في هذه الحالة تبعة تصرفه المخالف لالتزاماته الدولية الواجبة الاحترام.
شروط المسؤولية الدولية
يتطلب القانون الدولي توفر شروط معينة لترتب المسؤولية الدولية؛ وهي وقوع إخلال بالتزام دولي، وإسناد هذا الإخلال إلى شخص دولي، وكذلك حدوث ضرر غير مشروع يلحق بشخص دولي آخر أو برعاياه.
أـ وقوع إخلال بالتزام دولي: حيث تترتب المسؤولية الدولية على عاتق الشخص الدولي نتيجة إخلاله بالتزام دولي ُملقى على عاتقه بموجب أحكام القانون الدولي، ويشمل الإخلال بالالتزام الدولي القيام بعمل يحظر القانون الدولي إتيانه (ومثال ذلك شنّ الدولة حرباً عدوانية ضد دولة أخرى)، أو إهمال أو تقصير في القيام بالتزام تفرض قواعد القانون الدولي على الدولة القيام به (ومثال ذلك التقصير في حماية الأجانب الموجودين على إقليم الدولة أو الافتئات على حقوقهم التي تحميها قواعد هذا القانون).
ومن ثمّ فإن الإخلال بالتزام دولي يعني ارتكاب الدولة مخالفة لأحكام القانون الدولي أّياً كان مصدر هذه الأحكام وسواء أكان مصدرها الاتفاقات الدولية، والعرف الدولي أم المبادئ العامة للقانون المعترف بها من قبل الأمم المتمدنة.
ب ـ إسناد الإخلال إلى الشخص الدولي: الإسناد في المسؤولية الدولية يعني ردّ المخالفة التي يرتكبها الشخص الطبيعي إلى الشخص الدولي ذاته، ويعدّ القانون الدولي الفعل منسوباً للدولة إذا كان صادراً عن سلطاتها المختلفة التشريعية أو التنفيذية أو القضائية وسواء أكان تصرفاً إيجابياً أم سلبياً.
مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التشريعية: حيث تتمتع الدولة ذات السيادة بحرية وضع الدستور من جهة وسنّ القوانين الضرورية لتنظيم أمورها ضمن حدود إقليمها من جهة أخرى. ولكن يتعين عليها أن تمارس تلك الحرية بما لا يتعارض مع التزاماتها الدولية، وعلى ذلك فإنه لا يحقّ للدولة أن تستند إلى دستورها للتملص من التزاماتها الدولية، كما لا يحق لها أيضاً أن تستند إلى قوانينها للتملص من التزاماتها الدولية. ووفقاً لهذا المفهوم فإن الدولة ُتعد مسؤولة عن سنّ قانون يخالف الالتزامات الدولية، وأيضاً في حالة إهمال الدولة سنّ تشريع تستوجبه التزاماتها الدولية، وُتعد هذه القواعد تأكيداً لحقيقة أن قواعد القانون الدولي تسمو على قواعد القانون الداخلي. أما التأميم الذي قد تقوم به الدولة، ويصيب مصالح دولة أخرى؛ فلا غبار عليه ما دام هذا التأميم يتم مقابل تعويض عادل وفعال وسريع. وهذا ما استقر عليه الاجتهاد الدولي، وأيده الفقه.
مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية: حيث ُتعدّ الدولة مسؤولة عن القيام بالعمل أو الامتناع عن القيام بالعمل الصادر عن موظفيها أو إداراتها العامة أو مؤسساتها العامة، إذا نجم عنه ضرر أصاب الأشخاص الأجانب المقيمين على إقليمها أو أموالهم. وبغضّ النظر عن مركز الموظف العام، فقد يصدر عنه فعل من دون إذن من حكومته، ولابدّ من التمييز هنا بين حالتين:
الحالة الأولى: أن يصدر الفعل عنه بصفته الوظيفية وفي معرض ممارسته لها. وتتحمل الدولة في هذه الحالة المسؤولية الدولية الناجمة عن فعل هذا الموظف.
الحالة الثانية: أن يصدر الفعل عن الموظف بصفته الشخصية وخارج نطاق وظيفته، ويعامل الفعل في هذه الحالة معاملة الأفعال الصادرة عن الأشخاص العاديين. وهي الحالة التي لا تساءل الدولة فيها عن أعمال هؤلاء إلا إذا قصرت في اتخاذ الحيطة الضرورية due diligence لعدم وقوع الفعل الضارّ، أو أهملت معاقبة مرتكبيه بعد حدوثه.
مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية: تترتب المسؤولية الدولية على الدولة بمناسبة الأفعال الصادرة عن سلطتها القضائية؛ إذا تعارضت مع التزاماتها الدولية؛ ونشأ عنها ضرر أصاب الأجنبي المقيم على إقليمها. ولا تستطيع الدولة الدفع بمبدأ فصل السلطات وبما يترتب عليه من استقلال السلطة القضائية، فمثل هذه الأمور تتعلق بالتنظيم الداخلي للدولة ولا تؤثر في التزاماتها الدولية كشخص اعتباري. وأوضح صور مسؤولية الدولة عن تصرفات سلطتها القضائية ما يعرف بإنكار العدالة denial of justice أي عدم تمكن الأجنبي المضرور من الوصول إلى حقه إما بسبب انعدام إجراءات التقاضي أو تباطئها وأما عدم العدالة البيّن في معاملة هذا الأجنبي أو إنكار حقوقه المشروعة في الدعوى شكلاً أو مضموناً.
جـ حدوث ضرر غير مشروع يلحق بشخص دولي آخر أو برعاياه: والضرر هو الركن المهم الذي تقوم المسؤولية الدولية من أجل تعويض ما يترتب عليه أو إزالة آثاره الضارة بحيث تنعدم جدوى نظام المسؤولية الدولية من دونه، والضرر في القانون الدولي نوعان:
ـ الضرر المادي: وهو كل مساس بحق من حقوق الشخص الدولي المادية أو بحقوق رعاياه يترتب عليه أثر ملموس وظاهر للعيان (كتدمير الممتلكات وقتل الرعايا).
ـ الضرر الأدبي: وهو كل مساس بشرف الشخص الدولي أو باعتباره أو بأحد رعاياه وكذلك كل ألم يصيب الإنسان في جسمه أو عاطفته.
آثار المسؤولية الدولية
إن ثبوت المسؤولية الدولية يفرض على عاتق الطرف المخالف التزاماً بالتعويض، ويُقصد بالتعويض عامة القيام بجبر الأضرار الناشئة من ارتكاب فعل أو أفعال مخالفة للقانون الدولي أو إصلاحها، فهو مصطلح قانوني هدفه إزالة الأضرار التي أصابت أحد أشخاص القانون الدولي بسبب الفعل الدولي غير المشروع الذي ارتكبه شخص آخر.
ويتخذ التعويض صوراً عديدة يمكن حصرها في التعويض العيني، والتعويض النقدي، والترضية التي تقدمها الدولة المخالفة للطرف المتضرر.
ـ التعويض العيني: أي إعادة الشيء إلى أصله أو إلى الحالة التي كانت عليه قبل وقوع الضرر. فهو يعني إصلاح الضرر برد الدولة المسؤولة الحقوق إلى أصحابها بموجب التزاماتها الدولية وفقاً لقواعد القانون الدولي بحيث يجب أن يمحو ـ بقدر الإمكان ـ الآثار كافة المترتبة على العمل غير المشروع الضار كما لو لم يرتكب.
ـ التعويض المالي: وهو التزام الدولة المسؤولة بدفع مبلغ مالي إلى الطرف المضرور لتعويضه عما أصابه من ضرر يكون كافياً لجبر هذا الضرر. وهذا التعويض هو الصورة الأكثر شيوعاً في العمل الدولي عند وضع المسؤولية الدولية موضع التنفيذ؛ لأن النقود هي المقياس المشترك لقيمة الأشياء المادية؛ فضلاً عن وجود حالات كثيرة يتعذر فيها التعويض العيني.
ـ الترضية: وُيراد بها أي إجراء ـ غير التعويض العيني والمالي ـ يمكن للدولة المسؤولة أن تقدمه للدول المتضررة بمقتضى العرف الدولي أو الاتفاق بين أطراف النزاع لإصلاح الضرر. وتتعدد صور الترضية وإجراءاتها، ومنها على سبيل المثال تقديم التحية للعلم الوطني الذي تعرض للإهانة، أو تشييع جنازة عسكرية للشخص المتوفى بسبب العمل غير المشروع. أو تقديم الاعتذار والاعتراف بعدم مشروعية الفعل المرتكب وتقديم الأشخاص المسؤولين عن ارتكاب ذلك الفعل للمساءلة القانونية إضافة إلى إمكانية تقديم مبلغ من المال.
ينبغي الإشارة أخيراً إلى أن التعويض لا يجوز أن يكون أقل من الضرر أو أكثر منه؛ وإنما ينبغي أن يكون مطابقاً للضرر، وبحيث يعيد المتضرر إلى الوضع الذي كان عليه قبل حدوث العمل المسبب للمسؤولية الدولية. ويلاحظ مما تقدم أن مسؤولية الدولة هي مسؤولية مدنية أساساً لا جزائية. أما المسؤولية الجزائية الدولية فتترتب على الأفراد العاملين في خدمة الدولة الذين يرتكبون جريمة دولية كالعدوان والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة الإبادة الجماعية. ومن جهة أخرى لا تترتب المسؤولية الدولية ما لم يستنفد الأجنبي المضرور طرق المراجعة الداخلية الإدارية منها والقانونية، وما لم يكن من جنسية الدولة التي تتبنى طلبه تجاه الدولة المساءلة، وما لم تكن يد المضرور من وقوع الضرر إلى الحكم في الدعوى نظيفة، ألا يكون بفعله هو قد أسهم في ترتب الضرر اللاحق به.
المسؤولية عن أعمال الدولة المشروعة
المقصود بذلك أن الدولة ُتعد مسؤولةً عن النتائج الضارة الناجمة عن أفعال لا يحظرها القانون الدولي، وذلك متى نجم عن عملها أي ضرر لمصلحة يعترف بها، ويحميها هذا القانون، وبصرف النظر ليس فقط عن أي خطأ صادر عن سلطات الدولة أو ممثليها، بل حتى بصرف النظر عن أي مخالفة للقانون الدولي أيضاً، ومن ثم لا يُعتد هنا إلا بالضرر ورابطة السببية بين هذا الضرر والفعل الصادر عن سلطات الدولة دونما حاجة إلى البحث عن مدى مطابقة هذا الفعل للقانون الدولي، فالدولة ُتعد مسؤولة هنا حتى لو كان نشاطها مجرد استخدام لحق كفلته لها إحدى قواعد القانون الدولي الاتفاقية أو العرفية، والدافع الرئيسي لإقرار هذا النوع من المسؤولية هو التطور التقني الذي بدأ في الظهور منذ القرن التاسع عشر، والتقدم العلمي الهائل في شتى المجالات، مثل التجارب الذرية والطاقة النووية واكتشاف الفضاء، ففي حال حدوث أضرار عن مثل هذا النوع من النشاطات فسيكون من الصعب على الطرف المضرور إثبات وقوع الخطأ من قبل الشخص الدولي المدعى عليه بالمسؤولية، ولذلك جاء تبني هذه الصورة من المسؤولية على أساس أن المستفيد من النشاط الخطر يجب أن يتحمل مسؤولية الأضرار الناجمة عن هذا النشاط وإن كان مشروعاً (مسؤولية تحمل المخاطر risks)، والمجال الأساسي لإعمال هذه المسؤولية هو حالات استخدام الفضاء الخارجي وإطلاق الصواريخ واستخدام الطاقة الذرية للأغراض السلمية، وقد أكدّ هذه المسؤولية العديد من الاتفاقيات الدولية، منها الاتفاقيات الأربع المنظمة للمسؤولية المدنية عن الأضرار النووية (اتفاقيات: باريس 1960، بروكسل 1963، بروكسل 1963، فيينا 1963). وأيضاً الاتفاقيات المنظمة لاستخدام الفضاء الخارجي (اتفاقية روما 1952، واتفاقيات 1967ـ 1972).
حاضرها ومستقبلها
ينبغي الإشارة أخيراً إلى أن نظام المسؤولية الدولية تطور ويتطور باستمرار مراعاة للتقدم التقني والعلمي وما يمكن أن ينجم عن هذا من مخاطر وأضرار لم تكن محسوبة من قبل هذا من جهة، ومن جهة أخرى بسبب اهتمام المجتمع الدولي بقضايا لم يكن ينشغل بها سابقاً كقضايا البيئة والمسؤولية الناجمة عن الإضرار بها، واللافت للنظر في هذا السياق أن نظام المسؤولية الدولية هو نظام مرن متطور لا يتسم بالثبات ولا يتصف بالجمود مما يوحي بأن هذا النظام سيواصل التطور والاتساع؛ ليشمل كل النشاطات التي من شأنها الإضرار بالمجتمع البشري صوناً لهذا المجتمع وحفظاً لأمنه واستقراره. هذا وقد أقرت لجنة القانون الدولي التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة مشروعي اتفاقيتين إحداهما للمسؤولية الدولية عن أعمالها غير المشروعة والثانية لمسؤوليها عن أفعالها المشروعة.