*¤!||!¤* الحرب النفسية في العهد النبوي *¤!||!¤*
كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انطلاقة لفن حربي إسلامي بقيادته صلى الله عليه وسلم، فقد توالت المعارك والغزوات ضد أعداء الإسلام الذين صاروا يشكلون أكثر من جبهة، إذ ظهرت جبهات قريش واليهود والقبائل العربية المتناثرة في أنحاء شبه الجزيرة العربية،وجبهة الروم.
ومنذ معركة بدر حتى فتح مكة، قاد الرسول صلى الله عليه وسلم الجيش الإسلامي على هذه الجبهات كلها محققا للإسلام والمسلمين النصر تلو النصر، بحكمة ومقدرة قيادية مازالت- حتى اليوم- تقدم الدروس العسكرية القيمة.
من هذه الدروس الحرب النفسية التي كانت من أهم الحروب التي خطط لها ونفذها عليه الصلاة والسلام، بل كانت محور عمله العسكري ضد أعدائه، واستطاع من خلال توظيفه للحرب النفسية توظيفا ممتازا أن يحقق النصر في كثير من المواجهات العسكرية التي كانت فيها قوات العدو تبلغ أضعاف قوات المسلمين، كما في غزوة بدر، حيث كان جيش المسلمين يتألف من 314 مقاتلا فقط، بينما بلغت قوات قريش 1000مقاتل، ولكن المسلمين كانوا تحت قيادة حكيمة واعية، وأحد جوانب وعيها توظيف الحرب النفسية توظيفا مثاليا.
إن الحرب النفسية- كما تعرفها العسكرية الحديثة- هي الأعمال التي يقوم بها الخصم ضد الآخر للتأثير فيه، بهد فشل إرادته وتفكيره وقواه المادية والمعنوية، وتعتبر في المناهج العسكرية الحديثة اختصاصا له علمه وفنونه، وتوظف له الإمكانات المادية والتقنية والبشرية، بيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سبق هذه المناهج كلها، ورسخ منهجه الذي لخصه بعبارة"نصرت بالرعب" ويمكن استنتاج بعض الأساليب النفسية التي طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحرب كما يلي:
إيهام الخصم:
وذلك من خلال وضعه أمام تصورات غير واقعية، وخاصة فيما يتعلق بالعتاد والقوات،وإبقائه في حيرة حول الحجم الحقيقي، وقد نجح هذا الأسلوب نجاحا كبيرا، فكان كثير من الأعداء يفرون قبل أن يلتقي جيشهم مع جيش المسلمين، كما في غزوة بني سليم، ومنهم من كان يطلب الصلح، وأما من كان يقاتل فكان يقاتل مملوءا بالخوف والرعب، كما حدث لقبائل هوازن وثقيف في غزوة حنين، وبشكل عام.. كان إيهام الخصم يحطمه قبل المعركة التصادمية، والأمثلة كثيرة، فقد خرب بنو النضير منازلهم بأيديهم من الرعب الذي أصابهم، وهرب بنو لحيان عندما تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم نحوهم بجيشه، وعندما وجه الرسول صلى الله عليه وسلم عليا بن أبي طالب رضي الله عنه على رأس سرية إلى بني سعد ولوا الأدبار قبل وصول السرية، وقال رئيسهم وهو يهرب: "سارت إلينا جموع محمد ولا طاقة لنا به"، وقد ذكر الواقدي أن سرية علي بن أبي طالب لبني سعد كانت مما يقدر بنو سعد على مواجهته، لكن وهمهم هزمهم، فتصوروها"سرايا" بدليل قول رئيسهم ووصفه للسرية بأنها"جموع".
وفي غزوة الحديبية ندب الرسول صلى الله عليه وسلم الجيش، وأمر أن توقد النيران الكثيرة؛ ليعلم العدو أن جيش المسلمين قوي، ومن الأمثلة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتجهيز سرية إلى قبائل غطفان، لكنه لم يأمر بتسييرها رغم تجهيزها، بل أرسل من اختلط بقبائل غطفان ليوهمهم بالقوات الكبيرة التي وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أمر بتوجه السرية بقيادة بشير بن سعد الأنصاري، وما إن سمع بنو غطفان بذلك حتى فروا، يتقدمهم قائدهم عيينة بن حصن، وقد استوقفه في فراره الحارث بن عوف المري، وكان حليفا له، فأجاب عيينة وهو يهرب: "الطلب.. خلفي أصحاب محمد" قال الحارث: "تنحيت عن سنن خيل محمد حتى أراهم ولا يروني؛ فأقمت من حين زالت الشمس إلى الليل ما أرى أحدا، وما طلبوا إلا الرعب الذي دخله" والأمثلة كثيرة.
الاستخبارات العسكرية:
من الأمثلة السابقة وغيرها نستنتج أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى أهمية كبرى للاستخبارات العسكرية، وتكليفها بمهمة شن الحرب النفسية على العدو، فكان يرسل الاستخبارات والعيون إلى العدو فتنشر بينه ما يفت في عضده، ويحطم معنوياته، كإرساله معبد الخزاعي إلى قريش قبل غزوة حمراء الأسد، فتكلم بكثرة عن جيش المسلمين، ووفرة عتاده العسكري، وإصراره على الثأر والانتقام، فأثر ذلك في نفوسهم وانسحبوا، وفي غزوة الخندق أرسل نعيم بن مسعود؛ فصار ينشر بين الأحزاب ما جعلهم يتفرقون، ثم صار يتحدث بما جعل معنويات الجيش المعادي تنهار، وفي المقابل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بإبطال مخابرات العدو، وذلك بتوعية الجماهير، والقبض على الجواسيس، كما في غزوة بني سليم،عندما قبض على الراعي يسار، وفي غزوة خيبر قبض على جاسوس وحقق معه بنفسه.
التلويح بالقوة:
وهو مظهر آخر من مظاهر الحرب النفسية، ويعتبر نوعا من القتال غير المباشر هدفه إحباط معنويات العدو، ومنعه من كثير من أعماله العسكرية، وقد استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب في الحرب النفسية حيثما قدر أنه بحاجة إليه، وهو ما فعله مثلا في غزوات حمراء الأسد، والخندق، والفتح، إذ أمر بإيقاد النيران الكثيرة موحيا للأعداء بكثرة عدد جيش المسلمين، وفي فتح مكة كانت كل المؤشرات تدل على أن قريشا قد تهيأت لمواجهة جيش المسلمين، والقيام بأعمال مقاومة بعد دخوله مكة، مما يعني إراقة دماء من الطرفين، فقام عليه الصلاة والسلام باستعراض كثرة قواته، ووفرة سلاحه أمام قائد جيشهم، وتوشح بالسيوف مع أصحابه، وطاف بالبيت وهو على راحلته، وأمر الجيش أن يصنع مثله ليظهر قوة الجيش، وأمره بالدخول إلى مكة من جهاتها الأربعة بعد أن وزع المهام القتالية على التشكيلات؛ مما أدخل في نفوس أهل مكة أنهم غير قادرين على الوقوف أمام هذا الجيش الكبير، أو مقاومته بأي شكل.
توقيت المطاردة:
في كثير من المعارك التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم وانتصر فيها كان يترك العدو يهرب كيفما بدت له سبل الهرب، مع إن جيش المسلمين كان قادرا على مطاردة العدو وأسر أو قتل أفراده الهاربين، بينما في معارك أخرى سمح بالمطاردة، وبدراسة تسلسل المعارك والغزوات التي قادها نجد أنه في معظم المعارك الأولى منع المطاردة، مع إن المقاتلين المسلمين كانوا يستطيعون تحقيق نتائج مضمونة من جهة أسر الهاربين أو القضاء عليهم.
ومرة أخرى تتبدى روعة القيادة العسكرية للرسول صلى الله عليه وسلم وتوظيفه المتكامل للحرب النفسية، فبعد إلحاق الهزيمة بجيش العدو كان يترك فلوله تلوذ بالفرار على كل الجهات، وهذه الفلول كانت أداة إعلامية قوية لصالح جيش المسلمين؛ فقد كان أفراد هذه الفلول يصلون منهوكي القوى للقبائل، فتخبر حالتهم عن قوة جيش الرسول صلى الله عليه وسلم ويتحدثون هم عمالاقوه على يد جيش المسلمين، وبذلك ينشرون الرعب بين القبائل.
ونذكر- كمثال أيضا- غزوة السويق، إذ لم يسمح الرسول صلى الله عليه وسلم بمطاردة جيش أبي سفيان، تاركا إياه يصل إلى قريش في مكة، وبعد أن انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على بني محارب وبني ثعلبة لم يقم بمطاردة فلولهم؛ بل ترك هذه الفلول تصل إلى قبائل غطفان ، حيث شكل منظرأفراد هذه الفلول أداة نفسية حطمت معنويات غطفان.
وبعد.. فقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم للإدارةالعسكرية مفهومها، وجعل منها علما مبتكرا، وفي هذا العلم استخدم الحرب النفسية، واعتبرها من أهم أساليب الحرب وتحقيق النصر، مما أتاح له النصر في معاركه الحاسمة بتوفيق الله عز وجل، فكان كما يقول مايكل هارت في كتابه"المائة الأوائل" : "الرجل الوحيد في التاريخ كله، الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الديني والدنيوي".