عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً " صححه الألباني .
أردت أن أقدم هذه الأبيات من شعر الحكمة لأحد الشعراء البارزين الذين تركوا أثرا كبيرا في شعر الحكمة وشاعرنا لا يخفى على أحد من طلاب العلم وغيرهم من هواة هذا الفن الأدبي المميز إنه زهير ابن أبي سلمى .
واجتهدت في شرح ما أمكن شرحه من الألفاظ ومن الأبيات واستشهدت بشواهد من القرآن والسنة وبعض الأقوال التي تقوي المقال وتزيد في الفهم .
والله نسأل السداد والتوفيق .
أبيات شعرية من قصيدة زهير ابن أبي سلمى :
ومن لم يصانع في أمورٍ كثيرةٍ ------ يُضَرّس بأنيابٍ ويوطأ بمنسم
ومن يجعل المعروف من دون عرضهِ ---- يفره , ومن لا يتقي الشتم يُشتمِ
ومن يكُ ذا فضلٍ فيبخل بفضلِهِ ----- على قومه يُستغنَ عنه ويذمم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ----- وإن يرقَ أسباب السماء بسلّمِ
ومن يجعل المعروف في غير أهلهِ ----- يكن حمده ذمّاً عليه ويندمِ
ومن يغترب يحسب عدوّاً صديقه ----- ومن لا يكرّم نفسه لا يُكرّمِ
ومهما تكن عند امرءِ من خليقةٍ ---- وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ
وكائن ترى من صامتٍ لك معجبٍ ---- زيادتهُ أو نقصه في التكلّمِ
لسان الفتى نصفٌ , ونصفٌ فؤاده ---- فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدمِ
نبدة وجيزة عن الشاعر :هو زهير بن أبي سُلمى ربيعة بن رياح بن قرّة بن الحارث بن إلياس بن نصر بن نزار، المزني، من مضر (... - 13 ق. هـ = ... - 609 م). حكيم الشعراء في الجاهلية، وفي أئمة الأدب من يفضله على شعراء العرب كافة.
كان له من الشعر ما لم يكن لغيره، ولد في بلاد مزينة بنواحي المدينة، وكان يقيم في الحاجر من ديار نجد، واستمر بنوه فيه بعد الإسلام.
قيل كان ينظم القصيدة في شهر ويهذبها في سنة، فكانت قصائده تسمى الحوليات. إنه كما قال التبريزي، أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء، وإنما اختلف في تقديم أحد الثلاثة على صاحبيه، والآخران هما امرؤ القيس والنّابغة الذبياني. وقال الذين فضّلوا زهيراً: زهير أشعر أهل الجاهلية، روى هذا الحديث عكرمة عن أبيه جرير. وإلى مثل هذا الرأي ذهب العبّاس بن الأحنف حين قال، وقد سئل عن أشعر الشعراء. وقد علّل العبّاس ما عناه بقوله: ألقى زهير عن المادحين فضول الكلام كمثل قوله:
فما يَكُ من خيرٍ أتوه فإنّما- توارثه آباء آبائهم قبْل .
وكان عمرو بن الخطاب شديد الإعجاب بزهير، أكد هذا ابن عبّاس إذ قال: خرجت مع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في أول غزاة غزاها فقال لي: أنشدني لشاعر الشعراء، قلت: "ومن هو يا أمير المؤمنين?" قال: ابن أبي سلمى، قلت: وبم صار كذلك? قال: لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف ولا يمتدح أحداً إلا بما فيه". وأيّد هذا الرأي كثرة بينهم عثمان بن عفان، وعبد الملك بن مروان، وآخرون واتفقوا على أنّ زهيراً صاحب "أمدح بيت... وأصدق بيت... وأبين بيت". فالأمدح قوله:
تراهُ إذا ما جئْتَه مُتَهَلِّلا- كأنَّك تُعطيه الذي أنتَ سائلُهْ
والأصدق قوله:ومهما تكنْ عند امرئٍ من خليقةٍ- وإنْ تَخْفى على الناس تُعْلَمِ
المفردات :يصانع : مضارع من صانع : داهن .يضرس : المضارع المجهول من ضرس : حنك أو : عض بشدة .يوطئ : المضارع المجهول من وطئ أي : داس .منسم :حافر الحيوان أو خف البعير.العرض :الشرف .يفره : المضارع من فرّى : قطع وشق .
يذمم : المضارع المجهول من ذم : قدح .هاب : خاف .المنايا : جمع كلمة منية : موت .
ينلنه : المضارع من نال : أصاب .يرق :يصعد ويرتقي .خليقة : سجية وطبع .خالها : خال أي : ظن وحسب .
البيت الأول :
ومن لم يصانع الناس ويداريهم في كثير من الأمور قهروه وغلبوه وأذلوه وربما قتلوه كالذي يضـرّس بالناب ويطـأ بالمنسم .
قال الله تعالى:" َواخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ "الحجر88،
قال الجوهري: ومداراة الناس: المداجاة والملاينة، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه حديث: " رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس"أي استعمال أسلوب الملاينة معهم واحتمالهم واصطحابهم بالمعروف·
قال ابن حجر العسقلاني (ت852) نقلاً عن ابن بطال:المداراة من أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أَقوى أسباب الأُلفة .
الصورة الفنية: صور حال من لم يدار الناس في الدنيا بصورة من يعض بأنياب ويداس بخف البعير.
البيت الثاني :
ـ من بذل معروفه صان عرضه, ومن بخل بمعروفه عرض عـرّض عرضه للذم والشتم.
قال الله تعالى :"خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ "الأعراف199، فبالعفو وبدل المعروف تجنب نفسك وتصونها عن جهل الجاهلين وسفاهة السافهين .
البيت الثالث :
من كان صاحب مال وفضل فيبخل به استغنى عنه الناس وذموه قال الله تعالى :" {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً }الإسراء29 ، فتقعد ملومًا يلومك الناس ويذمونك على بخلك وعدم بدل المعروف لهم .
البيت الرابع :
ومن خـاف وهاب أسباب المنايا نالته ولـم يجد عليه خوفه وهيبته إياها نفعا ولو رام الصعود إلى السماء فرارا ً منها .قال الله تعالى :" {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ" النساء78، أينما تكونوا يلحقكم الموت في أي مكان كنتم فيه عند حلول آجالكم, ولو كنتم في حصون منيعة بعيدة عن ساحة المعارك والقتال.
فمن الأفضل عدم المهابة وضرورة الحزم والعمل لتخطي العقبات والصبر على النكبات التي تعترضك في هذه الحياة .
البيت الخامس :
من أحسن إلى من لم يكن أهــلا ً للإحسان ذمه الذي أحسن إليه ولم يحمده, وندم المحسن الواضع إحسانه في غير موضعه .
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا .
وهنا من الأفضل أن يحسن العبد إلى من هو أهلا للإحسان حتى يجد الدفع ومواصلة العمل بالثناء والاعتراف بالجميل ويجتنب اللئام لأنهم يثبطون العزائم بلؤمهم وعدم اعترافهم بالجميل وسوء الظن بمن أحسن إليهم .
البيت السادس :
من سافر واغترب حسب الأعداء أصدقاء, لأنه لم يجـرّبهم( وبالتالي ضرورة اختيار الخليل وتصفيته لقوله :" المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"رواه أبو داود والترمذيّ، بسندٍ حسن.
وضرورة أخذ الحيطة والحذر من عوام الناس لأن الله جل وعلا قال :" {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }الأنعام116،
ومن لا يكرم نفسه بتجنب الدنايا لم يكرمه الناس.قال الله تعالى :" وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ }الحج18، وكثير من الناس ينغمسون في الدنايا والخطايا فهم مهينون، وأيُّ إنسان يهنه الله فليس له أحد يكرمه.
والمثل يقول : احترم نفسك يحترمك الناس .
البيت السابع :
ومهما كان للإنسان من خلق فظن انه يخفى على الناس علم وبان للناس لأن الأخلاق لا تخفى والتخلق لا يبقى..قال الله تعالى :" فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ ." البقرة264، فكل سر سوف يكشفه الله تعالى فإن خيرا فبشرى للأخيار وإن شرا باء صاحبه بالخزي والعار .
والمولى جل وعلا يطلب بإصلاح السريرة لأنه يأتي يوما تبلى فيه السرائر ويكشف ما في الضمائر .
البيت الثامن :
وكم صامت يعجبك صمته فتستحسنه , وإنما تظهـر زيادته على غيره ونقصانه على غيره عند تكلمه .
قال علي رضي الله عنه" تكلّمواتعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه"
فلا تحكم على كل صامت بأنه حكيم ولبيب حتى تسمع منه مقاله وتجرب فعاله .
البيت التاسع :
هـذا كقول العـرب المرء بأصغريه لسانه وجنانه .
الصورة الفنية:صور اللسان والقلب بصورة جسم الإنسان.
اللسان : حديث معاذ رضي الله عنه مع النبي :" أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ». قُلْتُ بَلَى يَا نَبِىَّ اللَّهِقَالَ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ « كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا ». فَقُلْتُ يَا نَبِىَّاللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ فَقَالَ « ثَكِلَتْكَأُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْعَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَاحَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
والقلب : قوله :" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " رواه البخاري ومسلم .
قصة لقمان الحكيم :
كان لقمان الحكيم عبدا راعيا للغنم في ارض السودان فقال له سيده ذات يوم
يا لقمان : اذبح لنا شاة واحضر لنا افضل ما فيها
فذبح لقمان الشاة واحضر لسيده القلب واللسان
فتعجب السيد . وفي اليوم التالي اراد ان يمتحن لقمان
فقال يا لقمان اذبح لنا شاة واحضر لنا اسوء ما فيها
ففعل لقمان ذلك واحضر لسيده القلب واللسان
فقال سيده عجبا لك امس تحضر لنا القلب واللسان على انها افضل ما في الشاة واليوم تحضر لنا القلب واللسان على انها ايوء ما في الشاة
فقال لقمان : القلب واللسان اذا صلحا صلح الجسم كله واذا فسدا فسد الجسم كله
عمر بن عبد العزيز :
ويقال انه عند تولي عمر بن عبد العزيز الخلافة جاءت الوفود مهنئة فقام صبي صغير خطيبا مهنئا فقال عمر يا فتى اترك الكلام لمن هم اسن منك
فقال الفتى : يا أمير المؤمنين ان في الجالسين من هو احق منك بالخلافة ان كانت بالسن والكن المرء بأصغريه قلبه ولسانه .
المجاجة : ضرورة السير في هذه الحياة بحكمة وكياسة وتريث ولا يركن العبد لمواطن الهوان فيهان وعليه أن يحذر من عواقب الأمور ويخلص نياته ويحسن ظنه ويعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به ويصطنع المعروف ويحسن الكلام .
وكل هذا وذاك مجموع في تقوى الله تعالى رأس كل أمر .
هذا والله نسأل السداد والرشاد والنجاة يوم المعاد
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . .