لقد شهدت الأمة الإسلامية منذ أيام مؤتمرا حاشدا يتكرر كل عام, يتجمع فيه المسلمون من شتى بقاع العالم على صعيد واحد, بزي واحد, وبنداء واحد, متوجهين إلى رب واحد, في مشهد عظيم يجمع بين هيبة الجلال ورحمة الجمال ابتغاء الفضل من صاحب صفات الكمال.
ذلك اليوم المشهود يوم عرفة, الذي خطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا في حجة الوداع خطبة لم يعرف التاريخ مثلها, ولم ينطق أحد بأفصح منها, والتي تعد جامعة لأصول المبادئ والقيم الإسلامية والإنسانية, مما جعلها بمنزلة الإعلان الأول لحقوق الإنسان.
في هذه الخطبة العظيمة جمع النبي صلى الله عليه وسلم للأمة أمور دينهم ودنياهم, وحدد أسس العلاقة بين الإنسان وربه التي قوامها قطع كل ما يربط المسلم بالجاهلية, وكذلك وضع دستورا ينظم العلاقة بين المسلم وأخيه المسلم, وبينه وبين غير المسلم, بادئا خطابه إلى كل الناس وليس للمسلمين وحدهم فقال: أسمعوا مني أبين لكم, فأني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا, في موقفي هذا, وقد كانت حقا وصية مودع لم يمكث بعدها إلا ثلاثة أشهر وبعدها اختار جوار ربه.
يقول الإمام الغزالي: إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم, فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة, وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة.. وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليها ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق (المستصفى 1/834), وبتلك المقاصد النبيلة بدأ النبي صلى الله عليه وسلم خطبته فقال: إن دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة, يومكم هذا, في شهركم هذا, في بلدكم هذا.
وفي علاقة الإنسان بربه قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ربا الجاهلية موضوع, وإن أول ربا أبدا به ربا عمي العباس بن عبد المطلب, وإن دماء الجاهلية موضوعة, وإن أول دم عامر بن ربيعة بن الحارث, إن مآثر الجاهلية موضوعة, فأراد أن ينزع كل ما ترسخ في صدور الناس من عوالق الجاهلية من ربا وثأر ومآثر قبلية, ليخلصهم من أدرانها وأوحالها, فيكونوا عبادا مخلصين لله حنفاء, واتخذ من نفسه قدوة حسنة حين بدأ بوضع الربا والثأر المتعلقين بأهله وعشيرته, أي قدوة خير من القائد الذي يبدأ بتطبيق ما يدعو إليه على نفسه!
وفي تأصيل علاقة المسلمين ببعضهم حذرنا, صلى الله عليه وسلم من خطر التكفير وقتال المسلمين بعضهم بعضا, وكأنه ينظر بعين المستقبل ويستشعر ما سيحدث لأمته من بعده من تفرق وتشرذم, فحذر من ذلك قائلا: فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض, فإني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده, كتاب الله.
كذلك رسخ الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ الأخوة بين المسلمين. بقوله: المؤمنون إخوة, ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، وفي ذلك دعوة إلى إقامة مجتمع قوي متماسك: فالمسلم أخو المسلم, لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته, ومن فرج عن مسلمٍ كربةً فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة, ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (صحيح البخاري 2/862).
وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللبنة الأولى للمجتمع وهي الأسرة, وعمادها المرأة, فأكد حقها في الحياة الكريمة في إطار مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في أصل الخلق والتكاليف الشرعية والكرامة الإنسانية, حرصا على بناء الأسرة الصالحة, وذلك بقوله: إن لنسائكم عليكم حقا, ولكم عليهن حق.. فاتقوا الله في النساء, واستوصوا بهن خيرا, فالاهتمام بالمرأة والحفاظ على حقوقها وصونها مدعاة لتنشئة جيل مسلم قوي يعرف حقوقه وواجباته, ويحمي نفسه ووطنه وعقيدته.
وعن علاقة المسلم بغيره أرسى صلى الله عليه وسلم قيمة المساواة بين البشر جميعا دون النظر إلى عرقٍ أو نسبٍ أو مال, حيث قال: أيها الناس إن أباكم واحد، وإن ربكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب, لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى, وكما يقول أمير الشعراء:
الله فوق الخلق فيها وحده والناس تحت لوائها أكفاء
ومن المعاني التي تستقى من هذه الخطبة في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان, نداؤه بـ أيها الناس ففيه دلالة على أن أصل دين الله واحد من لدن آدم إلى قيام الساعة, ولذا لم يوجه خطابه إلى المسلمين بل إلى الناس عامة, كما ورد في قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فالآية في سياق بيان وجوب الحج للمسلمين, ولكنها خاطبتهم بـ الناس لتبين أن الحج مشروع منذ بناء الكعبة، وهو وعد الله تعالى لسيدنا إبراهيم عليه السلام.
تلك بعض مبادئ وقيم خطبة حجة الوداع التي ألقاها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم, وأودع فيها وصيته لأمته, بل للناس جميعا, بما فيها من بيان لأصول سعادة الإنسان في الدارين, من خلال أحكام شرعية, محفوفة بقيم سامية, في نطاق من سنن الله الحاكمة العادلة, ليتحقق مراد الله ومقصوده في الحفاظ على أكرم خلقه وخير بنيانه وهو الإنسان, أي إنسان!