مكة المكرمة.. وساعة مكة
موقع جليل وفق إرادة إلهية.. ورمز قائم على أسس علمية
---------------------------------------
تصحيح علمي لخلل اعتباطي - الساعة.. والتوقيت.. والنهوض
راودت القلم أثناء كتابة هذا الموضوع أسئلة وأجوبة عديدة، فجعلتها مقدمة له، لأنقلها كما هي إلى قارئ هذه السطور، حرصا على أن تكون مشاركته بخلفية الأفكار الواردة، وليس بظاهرها فقط.
السؤال الأول: هل يمكن الحديث عن سلعة تجارية دون الوقوع في شبهة الدعاية لها؟..
والجواب في صيغة سؤال مقابل: من قال إن الدعاية محرّمة إذا كانت السلعة حلالا وكانت مفيدة وكانت الدعاية نفسها موضوعية تتجنّب المبالغات؟..
السؤال الثاني: ولكن الحديث هنا عن سلعة يرتبط اسمها "ساعة مكة"، بالقبلة المشرّفة؟..
الجواب: هذا صحيح.. على أنّ السلعة تخدم القبلة وليس العكس، ومن يستغلّ مكة المكرمة أو سواها من الأمكنة التي كرّمها الله عزّ وجل، وكان غرضه منفعة مادية محضة، فلن يوفقه الله تعالى، وليس علينا تجاهه سوى الحكم بالظاهر، وساعة مكة تخدم الإسلام والمسلمين والبشرية، وتخدم مكة المكرمة ومكانتها الجليلة، ويرجى أن تكون نوايا مخترعها ومسوّقيها هي طلب الثواب الرباني، أي الربح في الدنيا والفوز في الآخرة.
السؤال الثالث: أليس فيما سبق خلط بين جانب تعبدي أخروي وجانب تجاري دنيوي؟..
الجواب: لا ينبغي لنا أن نفصل بين العبادة والتجارة أصلا، ولن يتحقق لدينا معنى ما نردّده من القرآن الكريم { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} -الأنعام 162- ما لم نضبط كل جانب دنيوي، ومنه التجارة، بضوابط الشريعة، مثلما نضبط أو ينبغي أن نضبط كل جانب تعبدي بضوابط الشريعة، وإن من العبادة بمفهومها الشامل جميع ما يتصل بالأمور الدنيوية.
لقد غاب هذا المعنى طويلا في واقعنا، فأخرجنا دنيانا من ضوابط الشريعة وهي شاملة لها، فتاهت بنا السبل في ميادين التجارة والصناعة وسواهما من ميادين الحياة الدنيا، التي نحمل فيها أمانة النهوض بأمتنا وبالبشرية معها، ثم إذا بنا نشكو من هذا الانفصام النكد ولا نجد مخرجا منه.
إنّ هذه السطور تتحدّث عن مكة المكرمة وساعة مكة معا، مقترنة بالأمل الكبير أن يكون ذلك نموذجا يُحتذى في كل ميدان تجاري وصناعي وإبداعي، لتكون تجارتنا إسلامية المضمون والعنوان والغرض والوسيلة، وتكون زراعتنا وصناعتنا وسائر ميادين حياتنا الأخرى على ذلك أيضا، وليكون لنا عطاء إسلامي في الفنون والآداب، والفكر والعلم، والتقنية والإنتاج، فجميع ذلك من دعائم النهوض القويم، ولن يكون لنا دون ذلك تحقيق نهوض إسلامي يخدم الإنسان ويخدم البشرية، ولن تتميّز دونه نهضتنا المرجوة بانتمائنا الإسلامي، العقدي والحضاري.
وغني عن القول هنا إنّ الأمر لا يرتبط بصناعة "ساعة"، بل بمبدأ شامل لمختلف الميادين.
تصحيح علمي لخلل اعتباطي
إنما ما الدافع هنا إلى الحديث عن مكة المكرمة وساعة مكة؟..
ربما لاحظ أصدقاء مداد القلم الدافع المباشر إلى ذلك من خلال متابعة ما سبق نشره قبل أيام عن المشاركة في المؤتمر العلمي الأول حول موقع مكة المكرمة مركزا يتوسط اليابسة في كرتنا الأرضية، وقد انعقد في الدوحة عاصمة قطر، وسوف يُنشر في مداد القلم قريبا إن شاء الله نصوص بعض ما ألقي فيه من محاضرات علمية، وسبق نشر نص الموضوع الذي أعدّه كاتب هذه السطور للمؤتمر نفسه.
على أنّ الدافع الأبعد مدى يرتبط بجوانب علمية محضة. ففكرة صناعة ساعة بميزات معينة تسمح بأن تحمل اسم "ساعة مكة" لم تكن لتولد إلا من خلال ما ردده علماء سابقون عن موقع مكة المكرمة. وإلى وقت قريب لم يبلغ هذا الحديث مستوى النضوج العلمي بالمعنى المتعارف عليه، أي من خلال تقديم الأدلة الحسية المقنعة، وإثبات عدم صحة ما يتناقض معها، مع ملاحظة أن المسلم ينطلق من أنّ الوحي مصدر أول للمعرفة اليقينية، ولا يوجد ما يمكن الوصول إليه بالدليل الحسي الثابت المقنع، ويتناقض مع ما كان قطعي الورود وقطعي الدلالة من النصوص القرآنية والنبوية.
ونعلم أنّ ممّا أمر به الوحي طلب العلم بطريقته المنهجية، وأن علماء الحضارة الإسلامية الأوائل سلكوا طريق التجربة العلمية الحسية وبنوا عليها ما حققوه من تقدم في مختلف الميادين، قبل أن يُطرح النهج التجريبي في خدمة العلم في إطار الفلسفات الأوروبية بمئات السنين، مع فارق حاسم، أنّ العالم المسلم لم يتخلّ عن التزام طريق الوحي مصدرا للعلم والمعرفة، وأن بعض الفلاسفة الغربيين -وليس جميعهم- تخلوا عن ذلك، فصنعوا لأمتهم وللمسار الحضاري البشري انفصاما لا حاجة إليه ولا ضرورة، ولا جدوى منه، بين "الدين والعلم"، وذاك ما ترمز إليه كلمة "الإمبريقية" التي يحلو لمن نقل الفلسفات الغربية استخدامها وتجنّب استخدام "التجربة الحسية".
لعل من الإشارات القرآنية الجليلة إلى الجمع بين تلقي الوحي والنظرة العلمية، أنّ القصص القرآني أطلعنا على كثير من أخبار الأقدمين، إنّما أمر أيضا بالسير في الأرض، والنظر فيما تركوا من آثار، فذاك أيضا باب من أبواب طلب العلم والمعرفة، وكان ذلك التوجيه الرباني قبل ولادة ما يسمّى حديثا "علم الآثار" بقرون عديدة.
إلى وقت قريب كان الحديث عن وسطية موقع مكة المكرمة في اليابسة يجد ما يتراوح ما بين الإهمال، والتشكيك، والاستهزاء، وكثيرا ما كان يُعزى إلى حماسة بعض المسلمين لدينهم، دون النظر في مضمون ما يقولون. وليست هذه الحماسة عيبا، ولكنّ القضية المطروحة ليست "مجرد حماسة"، والجزم فيها ليس مجرّد الاهتمام بأمر "رمزي".
الدافع إلى الحديث إذن مرتبط بالأرضية العلمية للموضوع، فالإثبات العلمي أنّ مكة تتوسط اليابسة إلى جانب الإثبات العلمي لميزات عمرانية لأول بيت وضع للناس، يعني فيما يعنيه:
1- دعم اليقين العقدي لدى المسلم تلبية للأمر الرباني بسلوك طريق الفكر والعلم والسبل الحسية البشرية على طريق {بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}-البقرة: 260-
2- تصحيح جغرافي محض يدرك المتخصصون قيمته، لمعلومة نشأت اعتباطيا وجعلت من خطّ الطول عبر لندن منطلقا لتقسيم الكرة الأرضية إلى مقاطع طولية، نشأت بموجبه الخرائط الجغرافية على خلل لا أساس له.
3- تصحيح عملية التوقيت الزمني التي نشأت اعتباطيا أيضا، وجعلت من ساعة "جرينيتش" مقياسا، وهو ما يعود إلى حقبة السيطرة الامبراطورية البريطانية، فلم يكن على أساس علمي قويم.
4- لا يصحّ في المرحلة الراهنة التي وصل إليها تطور العلم والتقنية في عالمنا المعاصر، اعتماد مقولات اعتباطية في أي ميدان، ما دام ممكنا الوصول إلى أرضية علمية قويمة لمقولات صحيحة، ومن ذلك وسائل القياس التي بلغت مداها من خلال اعتماد الأقمار الصناعية في تحديد الخرائط الجغرافية الأرضية، وهو ما وصل إلى تحديد كل نقطة من النقاط مع تقليص احتمال الخطأ إلى "سنتميترات" معدودة.
على هذه الأرضية قامت البحوث العلمية التي شهد المؤتمر المذكور عرض نتائجها على الملأ، فقدّمت أدلة علمية منهجية على وسطية موقع مكة المكرمة من اليابسة، وعلى ميزاتها العمرانية التي ترتبط بأمور عديدة، مثل نوعية الأحجار المستخدمة في بناء الكعبة المشرّفة، وانطباق مواقع أركانها الأربعة على الاتجاهات الجغرافية الأربعة للمعمورة، لا سيما الشمال والجنوب، وغير ذلك ممّا يدفع دفعا إلى التساؤل بالمنظور العلمي: كيف أقيم هذا البناء على هذا النحو، في عصر لم تتوافر فيه وسائل القياس الحديثة المعروفة عند المتخصصين؟..
ليس هذا السؤال من أسئلة ما يسمّى الترف الفكري، ولا تثيره حماسة المسلم لدينه فحسب، وإلاّ فعلام يطرح العلماء أسئلة مشابهة بصدد بناء الأهرامات في مصر مثلا؟..
المعلومات التي يصل إليها العلماء، كما كان مع حصيلة جهود الأخ العالم الدكتور حسن الوزيري، وحصيلة جهود الأخ العالم الدكتور أحمد بدوي (سينشر نص المحاضرتين قريبا في مداد القلم إن شاء الله)، هي ممّا يصفه المتخصصون بالأسس العلمية. والوصول إلى "علوم تأسيسية" هو ممّا يستهلك النسبة الأعظم من المخصصات المالية في الدول المتقدّمة لشؤون البحث العلمي والتطوّر، فهذه العلوم هي المنطلق الذي لا غنى عنه للتطبيقات العملية في مختلف الميادين.
بتعبير آخر: لا يستهان إطلاقا بأهمية المعلومة التي تبدو نظرية المضمون، وهي بالغة الأهمية للمعلومة أو الخطوة التالية في عالم التطبيقات التطويرية في مختلف الميادين.
ساعة مكة -وهنا مناط الربط في هذا الموضوع بين مكة المكرمة.. والسلعة التجارية- صورة تطبيقية مباشرة في مجال من المجالات المعيشية، لمعلومات أساسية أمكن في هذه الأثناء إثباتها علميا.
الساعة.. والتوقيت.. والنهوض
لقد بدأ العالم المخترع المهندس ياسين الشوك طريقه قبل بضعة وعشرين عاما، واعتمد فيه على "فرضيات أولية" بشأن موقع مكة المكرمة المتوسط من اليابسة، وأضاف إلى ذلك عددا من المعطيات العلمية الأخرى التي وجدت التقدير والقبول من حيث صحّتها، وإن وجد بعض العقبات على صعيد اعتمادها في مشروع صناعة الساعة نفسها، فقد كان أحد العناصر المميزة للتصميم الذي وضعه، هو اعتماد اتجاه تحرّك عقارب "ساعة مكة" متوافقا مع اتجاه حركة الطواف حول الكعبة في مكة المكرمة، أي على نقيض ما قامت عليه الصناعة الحديثة للساعات.
الأصل أنّ مثل هذا التعديل الإجرائي لا يمثل مشكلة قانونية أو اقتصادية، وليس مجهولا أنّ صناعة الساعات شهدت تطويرا كان ينطوي مثلا على استخدام التقنية الرقمية بديلا عن "عقارب الساعة" ولم يجد ذلك اعتراضا، كالذي وجده طلب الترخيص لصناعة ساعة مكة. ربما كان سبب رفض الهيئات الرسمية للترخيص بصناعة الساعة، وهي صناعة سويسرية (حتى الآن) هو الربط بين حركة العقارب وحركة الطواف بالذات.
الواقع أنّ الأمر أبعد من ذلك، فكل حركة دورانية كونية دون استثناء، كالقمر حول الأرض، والأقمار الأخرى السيارة حول الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية، وكذلك حركة الأرض وتلك الكواكب حول الشمس، وسوى ذلك من الأجرام والمجرات الكونية، تتطابق مع حركة "الطواف" وتنسجم معها، كما تتطابق وتنسجم، مع حركة الدورة الدموية في جسم الإنسان، وحركة مكوّنات الذرات الصغيرة التي لا تُرى بالعين المجردة، مثل الألكترونات، حول نواة الذرّة.
قد لا نعلم الحكمة الربانية من وراء هذه الظاهرة الكونية، وقد لا يكون تصنيع ساعة ينسجم دوران عقاربها معها أمرا "تعبّديا"، إنّما يبقى أن الانسجام في هذه الحالة، خير من الصيغة العكسية المعتادة حتى الآن، ولا ندري متى تنكشف علميا أسرار الفوائد المحتملة من وراء التزام هذا الانسجام، وقد تكون ممّا يندرج في معنى قوله تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} –فصلت: 53-
يكفي المؤمن ذلك، ويدعمه ما يكشفه البحث العلمي، وهذا هو المنطلق إلى كل دعوة قويمة في المجال التطبيقي، ومن ذلك ساعة مكة.
على أنّ هذا الاهتمام يرتبط بجوانب أخرى عديدة، يتجنّب هذا الموضوع التفصيل فيها، ويمكن العودة إليها لاحقا، اقتناعا بأنّ المؤتمر المشار إليه في الدوحة آنفا كان مؤتمرا "له ما بعده" ويتطلّب المتابعة على أصعدة عديدة، ويكتفى في ختام هذا الموضوع بعناوين وإشارات موجزة:
1- ينبغي التواصل مع الجهات العلمية الاختصاصية عالميا للوصول بالمعطيات التي وصل إليها العلماء المسلمون المعاصرون عن مكة المكرمة إلى مستوى اعتمادها علميا على المستوى العالمي.
2- توجب المعطيات العلمية اعتماد توقيت مكة المكرمة منطلقا للتوقيت العالمي، والمطالبة بذلك انطلاقا من هذه المعطيات، فالعلم أساس مسيرة التقدم البشري المشتركة، ولا ينبغي إخضاعه لعوامل أخرى من خارج نطاقه، نتيجة عصبية دينية أو قومية أو لعوامل السيطرة على هذه المسيرة في مرحلة ما من مراحل التاريخ الحضاري البشري المشترك.
3- ينبغي على الدول الإسلامية رسميا وعلى الجهات المختلفة غير الرسمية اعتماد هذا التوقيت، مع ترسيخ هذا الاتجاه عبر مختلف المناهج والوسائل في الميادين التعليمية والتربيوية والثقافية والإعلامية.
4- ندعو بإلحاح إلى إقامة "نصب ساعة مكة" في مكة المكرمة، بديلا عن المشروع المطروح منذ عام 2007م لإقامة ساعة عملاقة (أعلى من أي نصب للساعات في أنحاء الأرض) على غرار "ساعة جرينيتش" على مقربة من البيت الحرام. وتقع المسؤولية الأولى على هذا الصعيد على عاتق حكومة المملكة العربية السعودية.
5- ندعو بإلحاح أيضا إلى إقامة نصب مصغرة مماثلة في مختلف العواصم الإسلامية، مع ما تتضمنه ساعة مكة من تثبيت اتجاه القبلة نحو البيت الحرام.
إنّ إرهاصات النهوض في بلادنا تحتاج إلى رموز محفزة، ولا يكاد يوجد مثل "ساعة مكة" رمزا محفزا على النهوض، ومؤكّدا على وحدة المسيرة به بين مختلف الأقطار الإسلامية، وعلاقتها بالمسيرة الحضارية البشرية المشتركة، لا سيما وأنه ليس رمزا "مصطنعا" بل يقوم على الجمع بين العناصر العقدية والتعبدية والعلمية والسلوكية اليومية في وقت واحد.