مكّة.. مدرسة التربية والسلوك
قد يقول بعضنا، أو ليست هذه المعاني هي ذاتُها بعضَ ما نؤكّده عادةً لا سيما عند أداء فريضة الحج أو أداء العمرة، فنذكّر الحاجّ أو المعتمر مثلا، أن يعتبر وهو يمرّ بهذا المكان أو ذاك، ممّا ورد ذكره في السيرة المطهرة عن تلك الأمكنة؟..
المطلوب.. أو ما نفتقده الآن، أوسع من هذا الجانب المهم، فما نرويه عن العهد المكّي في السيرة المطهّرة عن بلال وأبي بكر، وعمر وحمزة، وياسر وآله، وابن مسعود وتلاوته القرآن الكريم في نادي قريش، وشُعْب الحصار، وعام الحزن، وغير ذلك، نحتاج إليه في مختلف مراحل حياتنا وميادينها، وفي كل مكان، فينبغي ظهوره محورا أساسيا في مدرسة تربيوية وسلوكية في واقع حياتنا، في تعاملنا مع بعضنا بعضا وفي تعاملنا مع سوانا، كما في المرحلة الراهنة من تصعيد هجمة الهيمنة الأجنبية على أرضنا وشعوبنا وقضايانا ومصائرنا.
إنّ ارتباطنا بمكة المكرمة قبلةً لنا في ميادين التربية والسلوك، ومدرسة نموذجية، لا نجده إلا لماما، في صياغة مناهج التربية، في المساجد لا المدارس فقط، وفي ممارسات الجماعات والروابط لا على مستوى الدولة فحسب، وفي القطاعات التخصصية لشؤون التربية علاوة على سياسات إعلامية باتت تنطوي إجمالا على برمجة تربيتنا أفرادا وجماعات بفعالية كبيرة في الاتجاه الخاطئ.
مدرسة مكة نموذج تربيوي سلوكي متكامل فريد، لهذا لا يمكن الاستغناء عنه بأي بديل، ولا ينبغي أن يستمر افتقاده في مناهج التربية والسلوك.
لن نجد من ذلك إلا القليل ممّا يحتاج إليه جيل المستقبل، تربيويا وسلوكيا، والبدائلُ القائمة التي يعزف جيل المستقبل عنها أو لا يتأثّر بها، تفتقر عموما إلى عنصر بالغ الأهمية في مدرسة مكة التربيوية، وهو عنصر التوازن والتكامل.
هي مدرسة لا يطغى فيها جانب على حساب آخر، ولا تمكّن من إهمال جانب أو توظيف جانب ما لتحقيق مصلحة وقتية، لجهة أجنبية أو محلية.
هي مدرسة تربيوية سلوكية فوق جميع اعتبارات التمييز بين إنسان وإنسان، بدءا بالحاكم والمحكوم، وحتى الصديق والعدو.. لا ينفصل فيها تكوين الإنسان على ما تعنيه كلمة أحدٌ أحد، على لسان بلال تحت التعذيب، عمّا تعنيه كلمة اذهبوا فأنتم الطلقاء من جانب المرسَل رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم، فيتحقق في كلمة بلال الصبر مع التحدي، وفي كلمة العفو النبوية الإحسان عند المقدرة، والفرد المسلم في حاجة إلى هذا وذاك، كيلا يظلم ولا يركن لظلم.
كما يتحقق التكامل التربيوي السلوكي بين سنوات الحصار الثلاث فلم تفلّ من صبر الصابرين على الظلم، ولم يقبلوا مذلّة، ولم ينفصل عنهم القادرون على الانفصال للنجاة بأنفسهم وفق إغراءت قريش، وبين سنوات السلم في حقبة الحديبية إلى فتح مكة، فلا يُخرق عهدٌ رغم القدرة على خرقه، ولا يتحوّل الفتح لاحقا إلى انتقام.
وهو التكامل نفسه بين قرار الهجرة إلى الحبشة، وقرار خروج القلّة من المؤمنين الأوائل إلى طرق مكة المكرمة فيما يشبه المظاهرة بمصطلحاتنا المعاصرة، تحديا لقريش في صفّين يقودهما عمر وحمزة رضي الله عنهما.
مكة المكرّمة هي الحاضنة التكوينية الأولى للإنسان الذي شيّد الحضارة الإسلامية للبشرية من بعد، وحاضنة الإنسان ما بين هبوط الوحي حتى انقطاعه بعد حجة الوداع، فهل أخذت موقعها هذا في ميادين التربية والسلوك المعاصرة لدينا؟