إن تاريخ كسوة الكعبة جزء لا يتجزأ من تاريخ الكعبة نفسها ، والاهتمام بكسوة الكعبة يعكس مدى اهتمام المسلمين بها وتقديسها وتشريفها ويبين مكانتها الرفيعة في نفوسهم .
الكسوة قبل الإسلام :
قال محمد بن إسحاق : بلغني عن غير واحد من أهل العلم أن أول من كسا الكعبة كسوة كاملة تُبَّعٌ ـ وهو أسعد الحِميري ـ أُرِيَ في النوم أنه يكسوها فكساها الأنطاع ، ثمّ أُرِيَ أن يكسوها فكساها الوصايل ثياب حبرة من عصب اليمن . وبعد تُبَّع كساها كثيرون في الجاهلية ، وكان ذلك يعتبر واجباً دينياً ، وكان مباحاً لمن أراد أن يكسو الكعبة أن يكسوها متى شاء ، ومن أي نوع شاء ، وكانت الكعبة تكسى بأنواع مختلفة من الكسى منها : الخصف ، والمعافر ، والملاء ، والوصائل ، والعصب .
وكانت الكُسى توضع على الكعبة فوق بعض فإذا ثقلت أو بليت أزيلت عنها ، وقسمت أو دفنت .
وكانت قريش في الجاهلية تُرافِد في كسوة الكعبة ، فيضربون ذلك على القبائل بقدر احتمالها منع عهد قصي بن كلاب ، حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وكان يختلف إلى اليمن يتجر بها ، فأثرى في المال ، فقال لقريش : أن أكسو وحدي الكعبة ، وجميع قريش سنة ، فكان يفعل ذلك حتى مات ، يأتي بالحبرة الجيدة من الجَند فيكسوها الكعبة ، فسمته قريش العدل ، لأنه عدل فعله بفعل قريش كلِّها ، فسموه العدل ويقال لولده : بنو العدل .
وأول عربية كست الكعبة الحرير والديباج : نُتَيلة بنت جناب ، أم العباس بن عبد المطلب .
كسوة الكعبة في الإسلام :
لم يكسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكعبة قبل الفتح ، لأن الكفار ما كانوا يسمحون بذلك ، وعندما تَّم فتح مكة لم يغير رسول الله صلى الله عليه وسلم كسوة الكعبة حتى احترقت على يد امرأة تريد تبخيرها ، فكساها الثياب اليمانية ، ثم كساها أبو بكر وعمر وعثمان القُباطي .
وثبت أن معاوية بن أبي سفيان كان يكسو الكعبة مرتين سنوياً ، بالديباج يوم عاشوراء ، وبالقباطي في آخر شهر رمضان ، ثم كساها يزيد بن معاوية وابن الزبير وعبد الملك بن مروان بالديباج ، وكانت الكعبة تكسى في كل سنة كستوتين : كسوة ديباج ، وكسوة قباطي ، فأما الديباج فتكساه يوم التروية فيعلَّق القميص ، وأما الإزار وهو من الديباج أيضاً فيعلق يوم عاشوراء بعد ذهاب الحاج لئلا يخرقوه . ولا تزال كسوة الديباج عليها إلي يوم سبع وعشرين من رمضان فتكسى القباطي للفطر .
وفي عهد المأمون أصبحت الكعبة تكسى ثلاث كِسى : الديباج الأحمر يوم التروية ، والقباطي يوم هلال رجب ، والديباج الأبيض يوم سبعة وعشرين من رمضان ، ولما عرف المأمون أن الديباج الأبيض ينخرق أيام الحج جعل كسوة رابعة بيضاء يوم التروية ، ثم كساها الناصر العباسي ثوباً أخضر ثم ثوباً أسود ومنذ ذلك اليوم احفتظ باللون الأسود .
وأول من كسا الكعبة من الملوك بعد انقضاء دولة بني العباس الملك المظفّر صاحب اليمن سنة ( 659هـ ) واستمر يكسوها عدة سنين مع ملوك مصر . وأول حاكم مصري سعى إلى كسوتها بعد العباسيين الملك الظافر بيبرس البُندُقْاري سنة ( 661هـ ) وفي عام ( 751هـ ) أوقف الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر محمد بن قلاوون ملك مصر وقفاً خاصاً لكسوة الكعبة : الخارجية السوداء ، مرة كل سنة ، وكسوة خضراء للحجرة النبوية الشريفة مرة كل خمس سنوات ، ولكن الخديوي " محمد علي " حل ذلك الوقف في أوائل القرن الثالث عشر الهجري ، وأصبحت الكسوة تصنع على نفقة الحكومة ، اختصت تركيا ومن يتولى السلطة من آل عثمان بكسوة الكعبة الداخلية .
وفي عام ( 810هـ ) أُحدثت الستارة المنقوشة التي توضع على واجهة الكعبة ، وهي المسماة " البرقع " ثم انقطع ما بين سنتي ( 816 و 818 هـ * ثّ/ استؤنفت عام ( 819هـ ) حتى الآن.
الكسوة في العهد السعودي :
اهتمَّ الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـ رحمه الله ـ برعاية الحرمين الشريفين ، وانطلاقاً من هذا الاهتمام أمر الملك سعود ابن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بإنشاء دار خاصة لعمل كسوة الكعبة المعظمة في مكة المكرمة ، وتم توفير كل ما يحتاج إلي العمل .
ورغبة في إتقان العمل وإظهاره بالصورة التي تتلاءم مع قدسية الكعبة المشرفة صدر أمر جلالة المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود ـ رحمه الله عام ( 1382هـ ) بتجديد مصنع الكسوة وفي عام ( 1397هـ ) تمَّ افتتاح المبنى الجديد بـ ( أم الجود ) في مكة المكرمة ، وزود بآلات حديثه لتحضير النسيج ، وأُحدث قسم النسيج الآلي مع الإبقاء على أسلوب الإنتاج اليدوي ، لما له من قيمة فنية عالية ، وما زال المصنع يواكب عجلة التطور ، ويحافظ على التراث اليدوي العريق ، لينتج كسوة الكعبة في أبهى صورها .