الاسباب التي يندفع بها شر الحاسد
الأسباب التي بها يندفع شر الحاسد بإذن الله عز وجل:
يندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب ذكرها ابن القيم رحمه الله (التفسير القيم ص585: ألخصها فيما يلي:
أحدها: التعوذ بالله من شره، والتحصن به واللجوء إليه، وهو المقصود بهذه السورة.
السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه؛ فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إلى غيره، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}سورة آل عمران ايه:121(.
وقال النبي لعبد الله بن عباس : «احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك»؛ فمن حفظ الله حفظه ووجده أمامه أينما توجه، ومن كان الله حافظه وأمامه فممن يخاف؟! وممن يحذر؟!
السبب الثالث: الصبر على عدوه، وألا يقاتله، ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً، فما نُصِرَ على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه، والتوكل على الله، ولا يستطيل تأخيره وبغيه؛ فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندًا وقوة للمبغي عليه المحسود، يقاتل به الباغي نفسه، وهو لا يشعر؛ فبغيه سهام يرميها من نفسه إلى نفسه، ولو رأى المبغي عليه ذلك لسره بغيه عليه؛ ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي، دون آخره ومآله، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}سورة الحج أية6(.
وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}سورة النحل اية126.
السبب الرابع: التوكل على الله؛ فمن يتوكل على الله فهو حسبه، والتوكل على الله من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك، فإن الله حسبه، أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع لعدوه؛ فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له ربه مخرجًا من ذلك وكفاه ونصره.
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له؛ فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية، ومن أقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره؛ فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه، فإذا لم يتعرض له، ولا تماسك هو وإياه، بل انعزل عنه، لم يقدر عليه، فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه حصل الشر، هكذا الأرواح سواء.
السبب السادس: الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه محل خواطر نفسه وأمانيها؛ قال تعالى حكاية عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}سورة ص 82..83
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}سورة النحل 99.100.
وقال عن يوسف الصديق، {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}سورة يوسف اية24.
السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه؛ فإن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}سورة الشورىآية3.
وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}آل عمران اية165.
فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما عمله أضعاف ما يذكره، وفي الدعاء المشهور: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم»؛ فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه، فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب.
ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له، ونال منه، فقال له: قف حتى أدخل البيت، ثم أخرج إليك، فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب، وأناب إلى ربه، ثم خرج إليه، فقال له ما صنعت؟ فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به علي. وليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عوفي العبد من الذنوب عوفي من موجباتها؛ فليس للعبد إذا بغي عليه، وأوذي، وتسلط عليه خصومه شيء أنفع من التوبة النصوح.
وعلامة سعادته: أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها، وبإصلاحها، وبالتوبة منها؛ فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به؛ بل يتولى هو التوبة، وإصلاح عيوبه، والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولابد، فما أسعده من عبد، وما أبركها من نازلة نزلت به، وما أحسن أثرها عليه، ولكن التوفيق والرشد بيد الله، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فما كل أحد يوفق لهذا، لا معرفة به، ولا إرادة له، ولا قدرة عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه؛ فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، ودفع العين، ودفع الحسد، ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديمًا وحديثًا لكفى به؛ فما تكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة؛ فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته عليه من الله جُنة واقية وحصن حصين.
وبالجملة: فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببًا لزوالها، فما حرس العبد نعمة الله عليه بمثل شكرها، ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله، وهو كفران النعمة وهو باب إلى كفر النعم.
فالمحسن المتصدق يستخدم جندًا وعسكرًا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه.
السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله، وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذى وشرًا وبغيًا وحسدًا ازددت له إحسانًا، وله نصيحة، وعليه شفقة، وما أظنك تصدق بأن هذا يكون، فضلاً عن أن تتعاطاه، فاسمع الآن قول الله عز وجل: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}سورة فصلت الايات 34-36.
وقال تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}سورة القصص ايه65.
وكان يسلت الدم عنه ويقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»أخرجه ابخاري في الانبياء 3477 ومسلم في الجهاد والسير 1792.
فجمع في هذه الكلمات الأربع مقامات من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه؛ أحدها: عفوه عنهم، والثاني: استغفاره لهم، والثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون، والرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه؛ فقال: «رب اغفر لقومي».
وكما تحب أن يعفو الله عن تقصيرك وإساءتك فاعف أنت عمن قصر في حقك، وآذاك، وأساء إليك، فكما تدين تدان، وكما تفعل مع عباد الله يفعل الله معك.
وفي هذا نزل في شأن الصديق : {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}سورة النورآية22.
وفي الحديث: «وليأت للناس الذي يحب أن يؤتى إليه»اخرجه مسلم(1844.
فمن تصور هذا وشغل به فكره هان عليه الإحسان لمن أساء إليه مع ما يحصل له من نصر الله ومعيته الخاصة؛ كما قال للذي شكا إليه قرابته، وأنه يحسن إليهم وهم يسيؤون إليه، قال: «لا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك».
هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه، ويصيرون كلهم معه على خصمه؛ فإن كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير وهو مسيء إليه وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء، وذلك أمر فطري، فطر الله عليه عباده، فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرًا لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولا يريدون منه إقطاعًا، ولا خبزًا؛ هذا مع أنه لابد له من عدوه وحاسده من إحدى حالتين: إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد إليه ويذل له.. وإما أن يفتت كبده، ويقطع دابره إن أقام على إساءته إليه، فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه، ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة.
السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله، وعليه مدار هذه الأسباب، وهو تجريد التوحيد، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}اخرجه مسلم 2588. وقال النبي لابن عباس رضي الله عنهما: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك»اخرجه مسلم 2588.
فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله، وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلاً واشتغالاً به عن غيره والله يتولى حفظه والدفع عنه؛ فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، وبحسب إيمان العبد يكون دفع الله عنه؛ فإن كمل إيمانه دفع الله عنه أتم دفع، وإن مزج مزج له، وإن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة، كما قال بعض السلف: «من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة، ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة، ومن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة».
فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين. قال بعض السلف: «من خاف الله خافه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه كل شيء».
قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر هذه الأسباب: «هذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر، وليس له أنفع من التوجه إلى الله، وإقباله عليه وتوكله عليه وثقته به، وألا يخاف معه غيره، بل يكون خوفه منه وحده، ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحده، فلا يعلق قلبه بغيره، ولا يستغيث بسواه، ولا يرجو إلا إياه، ومتى علق قلبه بغيره ورجاه وخافه وُكِلَ إليه، وخذل من جهته؛ فمن خاف شيئًا غير الله سلط عليه، ومن رجا شيئًا سوى الله خذل من جهته، وحرم خيره، هذه سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً».