روابي قباء
كم يأخذني الحنين وذكريات الأيام الخوالي بعيداً عن صخب واقع أعيشه مثقل بمتاعب الحياة ولأوائها لأفر لمحطة استراحة تختزنها ذاكرة تسعفني بها كلما أردت الاسترخاء وترويح الروح لأستعيد مرح الطفولة وبراءتها ولأنعم بمشاهد تتجلى وكأنها وليدة اللحظة أركض في أزقة مدينتي المضاءة بنور النبوة وأعيش وهج الماضي وحلاوة أيامه أقف عند كل مكان أنبش في زواياه عن ذكريات عشتها لأرتكز على جدار الزمن مجتراً ماضياً عشته بطيبة أهله وحلاوة كل ما فيه.
كنت واهماً حين اعتقدت تفردي بمؤانسة ذلك الماضي والاستئناس به فإذا بي وقد أشرعت نوافذي على مشاهداته أناساً وزماناً ومكاناً أجد من القراء من هم أكثر ولعاً وأشد لهفة وتشوقاً للإبحار في أعماقه أكثر وأكثر لأطالب بالمزيد وها أنا ذا أغمض العين على مشاهد قباء وروابيها يوم كانت تحفها البساتين وتمتلئ مزارعها بكل ألوان الفاكهة من عنب ورمان وتين كما امتلأت بالأزهار من فل وورد وفاغية وياسمين.
كانت قباء بمشهدها المتشح حسناً وروعة ملتقى المتنزهين من أهل طيبة وزوارها يقصودنها في الغالب بعد صلاة العصر جماعات وأفراداً من خلال طرق تخترق المزارع التي تدنت قطوفها وتلاعبت نسائم الصيف بأغصانها تعزف مواطيرها أنغاماً تطرب لها الأذان ويبهج النفس ماؤها المتدفق بسواقيها.
أما القماري والنغاري فتغرد متنقلة بين الأشجار بأجمل سيموفونية عرفها ذلك العصر.
فإذا وصل المتنزه قباء وجد مسجدها الشهير مسجد قباء ومن فضائله ما ورد ذكره في بقوله تعالى (... لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108].
وارتبطت قصة بنائه بالسيرة النبوية العطرة فالأنصار استقبلوا نبي الهدى عليه الصلاة والسلام في قباء التي وصلها مهاجراً من مكة المكرمة حين اشتد عليه أذى قريش.
كما ورد في فضل هذا المسجد أحاديث نبوية كثيرة منها ما رواه أسيد بن ظهير رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في مسجد قباء كعمرة).
وكانت تنتشر حول المسجد المقاهي الشعبية التي تظللها أشجار النخيل وقد كانت كراسيها مصنوعة من السعف المشدود بالحبال وأمامها ارتصت الشراب المصنوعة من الفخار والمليئة بماء عين الزرقاء تلك العين التي كان يتدفق ماؤها زلالاً عذباً لذة للشاربين ولن ينسى طعم ذلك الماء من ذاقه إلى يومنا هذا.
وينتشر مرتادو المقاهي في قباء متنعمين بذلك الجو الجميل والنسائم العليلة وكان أكثر مشروب يشتد عليه الطلب الطائفي والنمام ويسميه بعضهم خطأ الشاي الأخضر والنمام أوراقه خضراء ذات رائحة عطرية ويقدم مشروباً ساخناً بعد غليه.
ووسط تلك المقاهي ينتشر باعة البليلة والأيسكريم ويسمى (الدندرمة) والفول والترمس والحلبة النابتة.
كانت قباء وعروة التي سيكون لنا معها وقفة قريبة باذن الله تعالى للتعريف بها من منتزهات المدينة المتميزة بارتياد الشباب لها وإقامة ألعابهم الشعبية فيها.
ورغم أن مناخ المدينة صيفاً يتميز بشدة الحرارة بحكم موقعها الجغرافي إلا أن كثرة مزارعها ونخيلها أدت إلى تلطيف جوها بجانب كثرة الماء فيها فقد اعتاد أهلها رش الأحوشة والأزقة بالماء بعد صلاة العصر فإذا غربت الشمس اعتدل الجو وهبت النسائم العليلة وتبقى في النفس غصة وتترقرق في العين دمعة وهي ترى الزحف العمراني على بساتين المدينة التي تحولت إلى مخططات عمرانية أو أدخلت في مشاريع لشق طرق كان لها أن تنأى عن اختراق تلك المزارع.
سقى الله أياماً جميلة انتثر فيها الفرح وعاش الناس فيها سعداء لأنهم عاشوا البساطة ونقاء النفس والسريرة وعرفوا حق الجوار لحبيب الحق وسيد الخلق عليه الصلاة والسلام.