من منافع الحج وآدابه
الحمد لله الذي جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمنا يتجهون إلى شطره أينما كانوا في صلواتهم ويستقبلونه في عباداتهم، وتهوى إليه أفئدتهم، ويلتقون حوله من جميع أقطار الأرض لتتحد كلمتهم، وتعتز أمتهم وتقوم دولتهم والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد، بعثه الله من أرض الحرم إلى كافة الأمم، وأمره بتطهير هذا البيت من كل نجس ورجس - فدخله عام الفتح وفوقه ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بالقضيب ويقول: ﴿ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [سورة الإسراء آية 81] فجعلت هذه الأصنام تتهاوى لوجوهها خاسئة ذليلة، ثم أمر بها صلى الله عليه وسلم فأخرجت من المسجد وأحرقت وطهر منها بيت الله. قال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [سورة البقرة آية 197] فالحج لغة: القصد إلى الشيء. وشرعا: قصد المسجد الحرام لأداء الحج أو العمرة لله، وكان الحج من ملة إبراهيم الخليل عليه السلام حيث أمره الله ببناء البيت والأذان في الناس بالحج إليه، فالحج عبادة عظيمة وفيه منافع كثيرة، منها غفران الذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم: ) من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ( ومنها شهود المنافع العظيمة التي قال الله عنها: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [سورة الحج آية 28] منافع دينية ومنافع دنيوية لا تدخل تحت حصر - ولهذا أجملها الله سبحانه ولم يحددها - ومنها ذكر الله في الأيام المعلومات والأيام المعدودات بالتكبير والتلبية والوقوف بعرفة والمزدلفة وذبح القرابين ورمي الجمار والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والمبيت بمنى والأكل والشرب من ضيافة الله في أيام التشريق، ومن منافع الحج العظيمة تعارف المسلمين حين التقائهم في تلك البقاع الطاهرة والمشاعر المقدسة في المسجد الحرام وفي صعيد عرفات وساحات مزدلفة وفج منى المبارك، يلتقون في زمن واحد، وفي مكان واحد، لأداء عبادة واحدة، لرب واحد: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [سورة الأنبياء آية 92].
استمر الحج بعد إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، ولكن مع تطاول الزمن دخله بعض التغيير في عهد الجاهلية، فكانوا يضمنون تلبيتهم الشرك بالله عز وجل حيث يقولون: "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك"، فجعلوا لله شريكا من عبيده يأنفون ذلك لأنفسهم. فرد الله عليهم بقوله: ﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [سورة الروم آية 28] وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويرون أن ذلك طاعة أمر الله بها - فرد الله عليهم بقوله: ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة الأعراف آية 28].
وأمر سبحانه باللباس وستر العورة في الصلاة والطواف وغيرهما فقال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [سورة الأعراف آية 31] وكان سكان الحرم لا يقفون مع الناس في عرفة، وإنما يقفون في المزدلفة لأنهم بزعمهم من أهل الحرم ولا يجوز لهم الخروج منه فرد الله عليهم ذلك، وأمر بالوقوف بعرفة لجميع الحجاج فقال سبحانه: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ [سورة البقرة آية 199] فأعاد الله سبحانه الحج كما كان على ملة إبراهيم على يد محمد خاتم النبيين وعلى التوحيد الخالص وباللباس الساتر، والوقوف بالمشاعر، وأعلن صلى الله عليه وسلم للناس قبل أن يحج بقوله: ) لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ( عملا بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾ [سورة التوبة آية 28] وبقوله تعالى: ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [سورة الحج آية 26] وهكذا يجب أن يكون البيت والحرم دائما وأبدا طاهرا مطهرا من الشرك والبدع؛ ليكون مباءة للتوحيد ومصدرا للعقيدة الصحيحة السليمة إلى سائر بقاع الأرض، فحج صلى الله عليه وسلم في العام العاشر للهجرة بعدما طهر الله بيته من أوزار الشرك وعادات الجاهلية، وبذلك تمت أركان الإسلام وأنزل الله عليه: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [الآية 3 / المائدة].
أيها الإخوة: لقد أوجب الله الحج على الناس كافة وحكم بالكفر على من امتنع منه مع قدرته عليه فقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [سورة آل عمران آية 97] لقد جعله الله أحد أركان الإسلام وخامس مبانيه العظام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ) الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ( وقال صلى الله عليه وسلم: ) بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا (.
وبين صلى الله عليه وسلم أن هذه الفريضة بالنسبة للأفراد تتمثل بأداء الحج مرة واحدة في العمر وما زاد عنها فهو تطوع. وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالحج فقال بعض أصحابه: أكل عام يا رسول الله فقال: ) لا، الحج واحدة فمن زاد فهو تطوع ( فالحج من العبادات العظيمة التي تؤدى جماعة في مواقيت مخصوصة هي أشهر الحج المعلومات، فالصلوات الخمس يتكرر الاجتماع لأدائها في اليوم والليلة خمس مرات في المساجد، والجمعة يتكرر الاجتماع لأدائها كل أسبوع في الجوامع الكبار، والحج يتكرر الاجتماع لأدائه كل عام في المسجد الحرام والمشاعر، وهكذا كل اجتماع أكبر من الآخر - وكلما كان الاجتماع أكثر وأشق كان تكرره أقل دفعا للمشقة والحرج.
والحج وإن كان يؤدى في أيام معدودات كما قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [سورة البقرة آية 203] إلا أن الله سبحانه وسع وقت الإحرام به حيث يقول سبحان: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [سورة البقرة آية 197] والمراد بهذه الأشهر - شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. فإذا أحرم بالحج في هذه الأشهر صح إحرامه من غير خلاف. وإذا أحرم به في غيرها فمحل خلاف - ليس من غرضنا الآن الدخول في تفاصيله - إلا أننا نقول إن المسلم إذا أحرم بالحج فله حالة تختلف عما قبل الإحرام، وإن كانت كل أحوال المسلم ينبغي أن تكون على الاستقامة والتقى والسداد، إلا أنه بإحرامه ينتقل إلى حال أفضل، فإن المحرم يمنع من مزاولة أشياء كانت مباحة له في غير حالة الإحرام من أمور الرفاهية والتوسع، فيتعين على المحرم تجنب المحرمات العامة والمحرمات الخاصة بالإحرام، ولهذا قال سبحانه: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [سورة البقرة آية 197].
ومعنى (فرض) أحرم، عبر عن الإحرام بالفرض لينبه على أن المحرم يجب عليه أداء النسك الذي أحرم به، ولا يجوز له رفضه، وإن كان هذا النسك قبل الإحرام به ليس بواجب عليه. . ثم نهى سبحانه عن تعاطي الأمور التي تتنافى مع الإحرام من الأقوال والأفعال فقال سبحانه: ﴿ فَلا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [سورة البقرة آية 197]. وجاء هذا النهي بصيغة النفي ليكون آكد وأبلغ في الابتعاد عن هذه الأمور.
والرفث معناه: الجماع ودواعيه من النظر والمباشرة والتحدث به، بل قد نهي حال الإحرام عن الخطبة وعقد النكاح، قال الإمام ابن كثير: أي من أحرم بالحج أو العمرة فليجتنب الرفث وهو الجماع. كما قال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [سورة البقرة آية 187]. وكذا يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك. وكذلك التكلم به بحضرة النساء. انتهى.
والفسوق: جميع المعاصي فلا يجوز للمسلم فعلها في جميع الأحوال. ولكن نهي عنها المحرم خصوصا لأنها تؤثر على الإحرام، وإثمها فيه أشد، ولأن المفترض في المحرم أن يشتغل بالطاعات لا بضدها، ولأن الإحرام مظنة التوبة من المعاصي، فإذا فعلها المحرم دل على إصراره عليها وهذا ما يتنافى مع الغرض المطلوب من الإحرام، وقد فسر الفسوق بأنه فعل شيء من محظورات الإحرام. وفسر بأنه إتيان المعاصي في الحرم. وفسر بأنه السباب، وفسر بأنه الذبح للأصنام، ولا تنافي بين هذه التفاسير، فإن لفظ الفسوق يشملها كلها فهي من أفراد الفسوق، قال الإمام الشوكاني: ولا يخفى على عارف أن إطلاق اسم الفسوق على فرد من أفراد المعاصي لا يوجب اختصاصه به. انتهى. أقول: ومن أعظم الفسوق محاولة جعل موسم الحج وساحات المشاعر المقدسة مجالا للمهاترات والمظاهرات والهتافات والشعارات القومية وإحياء العنصريات الجاهلية والدعاية للأشخاص أو المذاهب أو رفع الصور للزعماء والرؤساء.
فإن هذا فعل أهل الجاهلية حيث كانوا يجعلون موسم الحج مجالا للمفاخرة بآبائهم وأمجادهم وغاراتهم وثاراتهم، فنهى الله عن ذلك وأمر بذكره قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ [سورة البقرة آية 200] قال الإمام الشوكاني: لأن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة فيذكرون مفاخر آبائهم ومناقب أسلافهم، فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر. انتهى.
وأما الجدال فهو المخاصمة والمماراة والمنازعة وهو يشمل الجدال في موضع الحج كما كانوا في الجاهلية يختلفون في الموضع الذي يقفون فيه. فمنهم من يقف في عرفة ومنهم من يقف في المزدلفة ويشمل الجدال بمعنى المخاصمة التي توغر الصدور وتشغل عن ذكر الله، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: وقوله: ﴿ فَلا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [سورة البقرة آية 197] أي يجب أن تعظموا الإحرام بالحج وخصوصا الواقع في أشهره، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه من الرفث وهو الجماع ومقدماته والقولية، خصوصا عند النساء بحضرتهن.
والفسوق وهو جميع المعاصي ومنها محظورات الإحرام. والجدال وهو المماراة والمنازعة والمخاصمة لكونها تنشر الشر وتوقع العداوة، والمقصود من الحج الذل والانكسار لله والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات فإنه بذلك يكون مبرورا، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل زمان ومكان فإنه يتغلظ المنع منها في الحج. . انتهى.
وأقول: ويستثنى من الجدال ما كان لبيان حق أورد على باطل فإنه واجب في الحج وغيره لقوله تعالى: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [سورة النحل آية 125] ثم لما نهى الله عن هذه الأشياء أمر بالاشتغال بالطاعة فقال: ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ [سورة البقرة آية 197] فحثهم على حسن الكلام مكان الفحش، وعلى البر والتقوى مكان الفسوق والجدال، لأنه لا يتم فعل الأوامر إلا بترك المنهيات، ولما كان الحج يحتاج إلى سفر وتنقلات وذلك يحتاج إلى نفقة ومؤنة أمر سبحانه بالاستعداد لذلك بأخذ الزاد والنفقة التي تمون تلك الاحتياجات حتى لا يحتاج الإنسان إلى ما بيد غيره. فقال سبحانه: ﴿ وَتَزَوَّدُوا ﴾ [سورة البقرة آية 197] وقد كان ناس يحجون بلا زاد ويقولون نحن المتوكلون فيصبحون عالة على غيرهم، فأمرهم الله بأخذ الزاد الذي يغنيهم، ولما أمر سبحانه باتخاذ الزاد الحسي لسفر الدنيا أمر باتخاذ الزاد المعنوي لسفر الآخرة فقال: ﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [سورة البقرة آية 197] فمن ترك هذا الزاد انقطع عن الوصول إلى الجنة، وختم سبحانه الآية بقوله: ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [سورة البقرة آية 197] وهذا نداء عام لأصحاب العقول أن يتقوا الله في الحج وغيره.
ولقد أمر الله بأداء الحج والعمرة خالصين له فقال سبحانه: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [سورة البقرة آية 196] مما يدل على أن كل حج وعمرة لا يتوفر فيهما توحيد الله بالعبادة فليسا بمقبولين عند الله سبحانه وتعالى.
ومن مظاهر هذا التوحيد في الحج: رفع الأصوات بعد الإحرام بالتلبية لله، ونفي الشريك عنه، وإعلان انفراده بالحمد والنعمة والملك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك) يرددها الحجاج بين كل فترة وأخرى حتى يشرعوا في أداء المناسك.
ومن مظاهر هذا التوحيد في الحج: أن أعظم الذكر الذي يقال في يوم عرفة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ). كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ) خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (. فهذا إعلان في هذا المجمع العظيم وفي هذا اليوم المبارك لتوحيد الله بالعبادة من خلال النطق بهذه الكلمة وتكرارها لأجل أن يستشعر الحاج مدلولها ويعمل بمقتضاها؛ فيؤدي أعمال حجه خالصة لله عز وجل من جميع شوائب الشرك.
ومن مظاهر توحيد الله في الحج: أن الله أمر بالطواف ببيته فقال تعالى: ﴿ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [سورة الحج آية 29] مما يدل على أن الطواف خاص بهذا البيت فلا يجوز الطواف ببيت غيره على وجه الأرض، لا بالأضرحة ولا بالأشجار والأحجار. ومن هنا يعلم الحاج أن كل طواف بغير البيت العتيق فهو باطل، وليس عبادة لله عز وجل، وإنما هو عبادة لمن شرعه وأمر به من شياطين الإنس والجن.
ومن مظاهر توحيد الله في الطواف بالبيت العتيق: أن الطائف حين يستلم الركن اليماني والحجر الأسود يعتقد أنه يستلمهما لأنهما من شعائر الله فهو يستلمهما طاعة لله واقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما استلم الحجر وقبله: والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر. ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. ومن هنا يعلم المسلم أنه لا يجوز التمسح بشيء من الأبنية والأحجار إلا بالركن اليماني والحجر الأسود، فلا يتمسح بجدران الأضرحة ولا بغيرها، لأن ذلك مخالف لشرع الله ولأنها ليست من شعائر الله.
ومن مظاهر توحيد الله في الحج: أن الحاج حينما يفرغ من الطواف ويصلي الركعتين فإنه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة الكافرون وفي الثانية يقرأ سورة الإخلاص، لما تشتمل عليه هاتان السورتان من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ففي السورة الأولى البراءة من دين المشركين وإفراد الله بالعبادة. وفي السورة الثانية إفراد الله بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص، وبذلك يعرف العبد ربه ويخلص له العبادة ويتبرأ من عبادة ما سواه من خلال هذا الدرس العملي العظيم.
ومن مظاهر توحيد الله في السعي بين الصفا والمروة: أن العبد يسعى بينهما امتثالا لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [سورة البقرة آية 158].
ومن ذلك يتعلم المسلم أنه لا يحل السعي في أي مكان من الأرض إلا بين الصفا والمروة؛ لأنهما من شعائر الله وأن السعي بينهما إنما هو بأمر الله، فكل سعي في مكان غيرهما فليس عبادة لله، لأنه سعي بغير أمره وبغير شعائر.
ومن مظاهر توحيد الله في الحج: ما شرعه الله في يوم العيد وأيام التشريق. قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [سورة البقرة آية 203] وذكر الله في هذه الأيام يتجلى في الشعائر العظيمة التي تؤدى في أيام منى، من رمي الجمار، وذبح الهدي، وأداء الصلوات الخمس في هذا المشعر المبارك والأيام المباركة، كل هذه الأعمال ذكر لله عز وجل. فرمي الجمار ذكر لله، ولهذا يقول المسلم عند رمي كل حصاة: (الله أكبر )، وذبح الهدي ذكر لله عز وجل كما قال تعالى: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾ [سورة الحج آية 28].
وقال تعالى: ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [سورة الحج آية 36 - 37] ومن هنا يتعلم المسلم أن الذبح عبادة لا يجوز صرفها لغير الله فلا يجوز أن يذبح لقبر ولا لولي أو أي مخلوق، لأن الذبح عبادة وصرف العبادة لغير الله شرك.
ومن مظاهر العبادة في الحج: أن الله أمر بذكره أثناء أداء مناسكه وبعد الفراغ منه ونهى عن ذكر غيره من الرؤساء والعظماء الأحياء والأموات، وعن المفاخرة في الأحساب والأنساب. فقال تعالى: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [سورة البقرة الآيات 198-203] إن الحج ليس رحلة استطلاعية أو متعة ترفيهية أو مجرد مظاهر وشعارات، ولكنه دروس وعبر وتعليم عمل للعقيدة الصحيحة ونبذ للعقائد الجاهلية.
لقد شرع الله الاستغفار في ختام الحج وغيره من العبادات ليجبر ما يقع من نقص وخلل، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ كما شرع الله الاستغفار في ختام قيام الليل قال تعالى: ﴿ كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ فلنستغفر الله في ختام حجنا وفي ختام جميع أعمالنا وأعمارنا، لعل الله أن يغفر لنا خطايانا ويكفر عنا سيئاتنا. . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.