الحمد لله الذي شرع فيسر: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن التيسير في الحج وغيره من أحكام الدين يكون حسب الأدلة الصحيحة مع التقيد بأداء الأحكام كما شرع الله سبحانه وتعالى ومن ذلك عبادة الحج والعمرة، قال الله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، وإتمامها يكون بأداء مناسكهما على الوجه الذي أداهما به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "خذوا عني مناسككم" أي: أدوها على الصفة التي أديتها بها لأعلى الرخص التي قال بها بعض العلماء من غير دليل من كتاب أو سنة وتلقفها بعض الكتاب والمنتحلين للفتوى، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)؛ ففي هذا الآية الكريمة أنه يجب علينا أن نأخذ من أقوال العلماء ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لا ما يوافق أهواءنا ورغباتنا من أقوال العلماء التي لا مستند لها من الأدلة الصحيحة، ولا أن تستعمل الأدلة الشرعية على غير مدلولها، وفي غير مواضعها، كمن يستدل بقوله -صلى الله عليه وسلم- لمن سأله عن تقديم أعمال يوم العيد بعضها على بعض: "افعل ولا حرج"، على كل تقديم وتأخير وترك لبعض واجبات الحج وأفعاله؛ فاستعمل هذا الدليل في غير محله ونسي، قول الله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، ولا يحصل إتمام الحج والعمر الذي أمر الله به في هذه الآية الكريمة إلا بأداء كل منسك من مناسكهما في زمانه ومكانه كما حدده الله ورسوله، لا كما يقوله فلان أو يفتي به فلان من غير دليل، وإنما تحت مظلة: "أفعل ولا حرج"، وفي غير زمان والمكان والأفعال التي وردت فيها هذه الكلمة النبوية، هل قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمن انصرف من عرفة قبل الغروب: "افعل ولا حرج"، هل قالها لمن يرمي قبل الزوال في أيام التشريق؟ هل قالها لمن وقف بنمرة ووادي عرنة ولم يقف بعرفة؟ هل قالها لمن ينصرف من مزدلفة قبل منتصف الليل؟ هل قالها لمن لم يبيت في مزدلفة في ليلتها أو في منى ليالي أيام التشريق وهو بقدر على المبيت في مزدلفة وفي منى؟ هل قالها لمن طاف بالبيت من غير طهارة؟ إنه لا بد أن يوضع الأمور في مواضعها والأدلة في أماكنها ولا بد أن يبي الإطلاق والأجمال كما قال العلامة ابن القيم:
وعــليك بالتفصيل فـالإ جمـال والإطلاق دون بيان
قد خبطا هذا الوجود وشو شا الأذهان والافهام كل وأوان.
ولا ننسى أن الحج جهاد والجهاد لا بد فيه من مشقة وليس هو رحلة ترفيهية، وقد وسع الله الزمان والمكان لأداء المناسك، أما المكان؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عرفة: "وقفت ههنا وعرفة كلها موقف وارفعو عن بطن عرنة"، وقال في مزدلفة: "وقفت ههنا وجمع كلها موقف"، وطاف -صلى الله عليه وسلم- بالبيت ماشيا وراكبا يستلم الحجر بمحجن، ووقت طواف الإفاضة والسعي يبدأ من منتصف الليل ليلة العيد ولا حد لنهايتها، ووقت رمي جمرة العقبة يوم العيد يبدأ من منتصف ليلة العاشر إلى آخر المساء من ليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر لمن تعجل وغروب الشمس من اليوم الثالث عشر لمن تأخر وفج منى كله مكان للمبيت وهو فج واسع لولا تصرفات الناس وإتباع أطماعهم فإنه لا يضيق بالحجاج لو استغل استغلالا صحيحا واقتصر كل على ما يكفيه وترك الباقي لإخوانه وإلا فإنه سيتحمل إثم من أخرجه من منى باستيلائه على أكثر من حاجته:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق.
إن الذي يجب إعلانه للناس هو قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "خذوا عني مناسككم"، أما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "افعل ولا حرج"؛ فإنما يقال لمن وقع منه تقديم وتأخير في المناسك التي تفعل في يوم العيد حيث قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا اليوم لمن حصل منه تقديم أو تأخير في المناسك الأربعة: الرمي والنحر والحلق أو التقصير والطواف والسعي، ولم يقله ابتداء؛ فكل شيء يوضع في مواضعه، وأما إعلان: "افعل ولا حرج"؛ لكل الناس وقبل حصول الخلل؛ فهذا يحدث تساهلا وبلبلة في أعمال الحج.
نسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، والإخلاص لوجهه الكريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.