لبس الرجال المخيط بعد الإحرام
ومن الوسائل التي يتخذها كثير من الناس لاختراق أنظمة تنظيم أعداد الحجاج تعمدهم لبس ملابسهم العادية -المخيطة- حال مرورهم نقطة المراقبة (التفتيش)، وكما هو متقرر عند أهل العلم أن الحاج عليه أن يتجنب عدة أشياء عند عقده نية الدخول في النسك، ويسمونها (محظورات الإحرام).
والمحظور هو: المُحَرم، وهو المعاقب على فعله، ويُقال: حظرت الشيء إذا حرَّمته، وهو راجع إلى المنع([23]). ومحظورات الإحرام كثيرة؛ من جملتها: تعمد لبس المخيط بالنسبة للرجل لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس([24]) ..." الحديث([25]).
ونقل ابن المنذر الإجماع على عدم جواز لباس المخيط عند جميع أهل العلم، حيث قال: "ولا خلاف بين العلماء أن المخيط كله من الثياب لا يجوز لباسه للمحرم"([26]).
ولا بد من تحرير كلام أهل العلم، ومرادهم من قولهم: (لبس المخيط)، ولعل مرادهم كما قال الشيخ ابن عثيمين: "مرادهم لبس القميص والسراويل وما أشبهه، فلهذا يجب أن نفهم كلام العلماء على ما أرادوه، ثم هذه العبارة: (لبس المخيط) ليست مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قيل: إن أول من قال بها أحد فقهاء التابعين إبراهيم النخعي([27]) رحمه الله وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقل للأمة لا تلبسوا المخيط"([28]).
قال الكاساني –رحمه الله-: "ولو لم يجد رداءً وله قميص، فلا بأس بأن يشق قميصه ويرتدي به؛ لأنه لما شقه صار بمنزلة الرداء. وكذا إذا لم يجد إزارًا وله سراويل، فلا بأس أن يَفْتِق سراويله ويأتزر به؛ لأنه لما فتقه صار بمنزلة الإزار"([29]).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والسنة أن يحرم في إزارٍ ورداءٍ سواء كانا مخيطين أو غير مخيطين، باتفاق الأئمة، ولو أحرم في غيرهما جاز إذا كان مما يجوز لبسه ... وكذلك يجوز أن يلبس كل ما كان من جنس الإزار والرداء ... ولا يلبس ما كان في معنى السراويل: كالتبان([30]) ونحوه"([31]). وقال –رحمه الله-: "أن فَتْق السراويل، يجعله بمنزلة الإزار، حتى يجوز لبسه، مع وجود الإزار بالإجماع"([32]).
وقال النووي في المجموع([33]): "وإنما يحرم عليه لبس المخيط، وما هو في معناه، مما هو على قدر عضو من البدن، فيحرم كل مخيط بالبدن، أو بعضو منه، سواء كان مخيطًا بخياطة، أو غيرها".
ولابن قدامة في المغني([34]): "ولو لبس إزارًا موصلاً، أو اتشح بثوب مخيط جاز".
ومن هذه النقول يتضح أن العلة ليست في كون الملابس مخيطة، وإنما العلة في كونها مصنوعة على قدر البدن، فجاز لبس الملابس ما لم تكن مفصلة على البدن، ولا يترتب عليها الفدية([35]). وغالب الناس اليوم يلبسون –فيما يلبسون- القمص، والسراويل، عند مرورهم نقطة المراقبة (التفتيش)، وهما واردتان في الحديث السابق.
وقد تكلم الفقهاء في لبس السراويل تحت مسألة من لم يجد الإزار يجوز له أن يلبس السّراويل إلى أن يجد ما يتّزر به، وللمحرم أن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار، لحديث: "من لم يجد الإزار فليلبس السراويل"([36])، واختلوا في إيجاب الفدية عليه إذا لبسه السراويل مع عدم وجود الإزار على قولين:
القول الأول:
وهو ما ذهب إليه الحنفية([37])، والمالكية([38]) أن من لبس السراويل سواء لانعدام وجود الإزار، أو لوجوده؛ فإن عليه فدية فعل محظور من محظورات الإحرام، وهي المنصوص عليها في قوله تعالى: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) ([39])، وقد قال ابن عثيمين عقب ذكره لهذه الآية: "وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الصيام مقداره ثلاثة أيام، وأن الصدقة مقدارُها ثلاثة آصع من الطعام لستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك شاة، والمراد شاة تبلغ السن المعتبر في الهدي، وتكونُ، سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء، ويُسمّي العلماء هذه الفدية فدية الأذى([40]).
ومما استدل به أصحاب هذا القول على أن من لبس السراويل عليه الفدية مطلقًا ما يلي:
1. حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات...الحديث([41]).
2. ولأن ما وجبت الفدية بلبسه مع وجود الإزار، وجبت مع عدمه([42])، بمعنى آخر: أن من فعل هذا المحظور وهو لابسًا للإزار تجب عليه الفدية، فإذا وجبت الفدية مع لبس الإزار فكذا مع عدم لبس الإزار.
وقد حدد السرخسي من الحنفية إيحاب الفدية على من لبس القمص أوالسراويل بأن يكون لابسًا لها اليوم كله فقال: "لو لبس قميصًا أو سراويل يومًا إلى الليل فعليه دم، وإن كان دون ذلك فعليه صدقة"([43]). وهذا القول أوجب دمًا الذي هو النسك كما في أية البقرة: ) فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ( ([44])، وهو ذبح شاة كما فسرها جمع من المفسرين([45])، وكما سبق ما نقلته عن الشيخ ابن عثيمين، وأوجب على من لبسه أقل من اليوم([46]) الصدقة، ولا أدري هل هي مطلق الصدقة أم ماذا يعني([47]) بها رحمه الله.
وجاء عند المالكية([48]): "يجتنب المحرم أيضًا في حجه وعمرته مخيط الثياب لا خلاف في تحريمه على الرجال دون النساء، ولا خصوصية للمخيط بل كل ما أوجب رفاهية مخيطًا كان أو غيره وكذلك جلد الحيوان يسلخ فيلبس، أو ما لُبِد على شكل المخيط أو نُسج كذلك ولو طرح مخيطًا على بدنه من غير لبسٍ فلا فدية".
وعليه فإن ثياب الإحرام والأُزُر التي يلبسها بعض الناس اليوم، وتكون مَخِيطَةً من الوسط بجمع طرفيها، أو فيها تِّكَّةٌ([49]) أو جيب لوضع حاجياته، وما أشبه ذلك لا تُعد من قبيل لبس المخيط، وهذا مما يعضد ما سبق ذكره من تحرير القول في مسمى المحيط([50]).
القول الثاني:
وذهب الشافعية([51])، والحنابلة([52]) إلى أن من لبس السراويل مع انعدام الإزار فلا تجب عليه الفدية، لهذا العذر.
قال الإمام الشافعي –رحمه الله-: وإذا اضطر المحرم إلى لبس شيء غير السروايل والخفين لبسه وافتدى والفدية: صيام ثلاثة أيام، أو نسك شاة، أو صدقة على ستة مساكين، مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم "([53]).
وأصحاب هذا القول القائلون أن من لبس السراويل مع انعدام الإزار لا تجب عليه الفدية يعضدون قولهم بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول: "من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل للمحرم"([54]).
قال ابن قدامة في المغني: "وهو صريح في الإباحة، ظاهر في إسقاط الفدية؛ لأنه أمر بلبسه ولم يذكر فدية، ولأنه يختص لبسه بحالة عدم غيره فلم تجب به فدية، كالخفين المقطوعين، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما مخصوص بحديث ابن عباس رضي الله عنهما"([55]).
الخلاصة :
o أوردت هذا الخلاف في هذه المسألة لما ذكرت أن غالب الناس اليوم يلبسون –فيما يلبسون- القمص، والسراويل، وإذا عُرف القول في لبسهما مع عدم وجود الإزار، وأنه عند الحنفية والمالكية عليه الفدية، ويجوز لبسها عند الشافعية، والحنابلة، وليس عليه فدية؛ عُلم –والله أعلم-أن لبسهما لمثل هذا الحالات يستوجب الفدية. وأما حجه من حيث الصحة فهو حج صحيح.
o مرَّ معنا في هذه المسألة أن النهي الوارد عن لبس السراويل بسبب كونه مصنوعاً على قدر البدن، وعليه لو لبس المُحْرم ملابسه العادية (فانيلة مثلاً، أو سروالاً) ليس مخيطاً، وإنما أُبدل الخيط بمادة لاصقة تقوم مقام الخيط، فلا نقول عنه أنه لبس مخيطًا، فهذا مخرج فقهي شرعي إذا فعله الإنسان فلا شيء عليه –إن شاء الله-.