║║║ السنة النبوية وشئون الحكم والسياسة ║║║
إن السنة النبوية معين لا ينضب أبدًا لكافة التعليمات والإرشادات والتوجيهات والنصائح التي تشمل كافة مجالات الحياة؛ ففيها توجيهات تربوية وأخرى دعوية واقتصادية واجتماعية وإدارية وعلمية، وكذلك سياسية، فكل ما يواجهنا في حياتنا من قضايا وأحداث نجد له صدى في سنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، وكل ما علينا هو أن نحسن قراءة السنة النبوية وفهم ما فيها من إشارات وإرشادات وتوجيهات، فهي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، ولا يمكن أن يستغني عنها مسلم بأي حال من الأحوال، فهذه دعوة جادة لإعادة قراءة السنة النبوية وفهمها فهمًا دقيقًا صحيحًا لندرك عن يقين شمولية ديننا العظيم لكافة مجالات الحياة.
والسنة النبوية المطهرة لا تقل اهتمامًا بشئون الحكم والسياسة عن القرآن الكريم، بل – على العكس – نجدها أكثر تفصيلاً وبيانًا، فهي حافلة بالنصوص التي تتناول هذا الشأن العظيم من شئون الأمة الإسلامية، بالإضافة إلى كونها مؤكِّدة أحيانًا، ومبيِّنة ومفصِّلة أحيانًا أخرى لما ورد في آيات القرآن الكريم من شئون الحكم والسياسة، فلا يعقل أن يترك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم شأنًا مهمًّا كهذا من شئون أمته دون أن يبين لهم المنهج الذي يجب عليهم أن يلتزموه في هذا الشأن، ومدى مسئولية الحاكم تجاه رعيته، وحق الرعية عليه، وحقه على الرعية، ووجوب طاعته في غير معصية.... الخ.
فمن نصوص السنة النبوية قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته)) (رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما)، فهذا الحديث يوضح أن على الراعي أو الحاكم مسئولية السهر على إدارة شئون الرعية بما يكفل تحقيق مصالحهم، وإذا كانت تلك مسئولية محددة على الحاكم تجاه الرعية، فإن على الرعية مسئولية مؤكدة تجاه الحاكم وهى الطاعة ما لم تكن في معصية كما ذكرنا، وإلى ذلك يشير قول رسولنا الكريم: ((من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)) (رواه مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما). ففي هذا الحديث يبين الرسول للأمة موقفها ممن ينازع ولى الأمر أو الحاكم سلطانه وولايته على المسلمين حتى لا يؤدى هذا الاختلاف والتنازع إلى الفوضى أو الفتنة.
وكما اهتمت آيات القرآن الكريم بحض الحاكم على إقامة العدل بين الرعية، واتخاذ العدل والقسط منهجًا وأسلوبًا لا محيد عنه في الحكم، فإن السنة النبوية أكدت هذا المبدأ ورغبت فيه وحثت عليه، فجعلت للحاكم العادل منزلة عالية ومكانة مرموقة وجزاءً عظيمًا عند الله تعالى، فجعلته على رأس السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله سبحانه وتعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ إمام عادل....)). (رواه الشيخان).
وكذلك فإن السنة النبوية أعطت مسألة احترام الرعية وعدم الاستخفاف بهم وضرورة البعد عن خداعهم أهمية كبيرة من ذلك ما رواه الصَّحابيُّ الجليل مَعْقِل بن يسار رَضِيَ اللهُ عنه، حيث قال: "سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((ما مِنْ عبدٍ يسترعيه اللهُ رعيَّةً فيموت يوم يموتُ وهو غاشٌّ لرعيَّتِه إلَّا حرَّمَ اللهُ عليه الجَنَّة)). (أخرجه مسلمٌ وأحمدُ والبيهقيُّ والدَّارميُّ).
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم أيضًا: ((نِعْمَ الشَّيءِ الإمارةُ لمن أخذها بحقِّها وحِلِّها، وبِئْسَ الشَّيءِ الإمارةُ لِمَنْ أَخَذَهَا بغير حقِّها حتى تكون عليه حسرةٌ يومَ القيامةِ)). (أخرجه الطَّبرانيُّ وابن حبَّان ورجاله رجال الصَّحيح).
وعن عبد الله بن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عنهما - أنَّ رسول اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مِن ولَّي شيئًا من أمر المسلمين لم ينظُر اللهُ في حاجته حتى ينظرَ في حوائِجَهُم)). (رواه الطَّبرانيُّ).
بل إنَّ أحاديثه صلَّى عليه وسلَّم تجاوزَتْ هذا التَّوجيه الأخلاقيِّ النَّبويِّ الكريم، بضرورة مراعاة الله تعالى في أمور الحكم، إلى تفاصيل عمليَّة إدارة الرَّاعي لشئون حُكمه، بما فيها ضرورة التَّدقيق في اختيار مُوظَّفي الدَّولة، وذلك في حديثٍ صحيح قال فيه، وهو الذي لا ينطِقُ عن الهوى: ((مَنْ وَلِيَ من أمرِ المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا مُحاباةً فعليه لعنةُ اللهِ، لا يَقْبَلُ اللهُ منه صَرْفًا ولا عدلاً حتى يُدْخِلُه اللهُ جهنَّم)). (أخرجه أحمد في مُسنَدِه والحاكم في المستدرك عن الخليفة أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي اللهُ عنه).
وعن عبد الله بن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسول الله صلَّى عليه وسلَّم: ((مَنْ تولَّى من أمر المسلمين شيئًا فاستعمل عليهم رجلاً وهو يعلمُ أنَّ فيهم من أَوْلَى بذلك وأعلم منه بكتاب الله وسُنَّةِ رسولِه فقد خان اللهَ ورسولَه وجميع المؤمنين)). (رواه الطَّبرانيُّ).
أما عن مبدأ المعارضة وهو مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فكما اهتمت آيات القرآن الكريم بترغيب الأمة الإسلامية في استخدام هذا الحق، إشاعةً للعدل ودرءًا للمفاسد، وربط سبحانه وتعالى بين خيرية الأمة وقيامها بهذا الواجب، فإن الأحاديث النبوية الشريفة دعت الأمة إلى استخدام هذا الحق، وتقديم النصيحة للحكَّام والمسئولين، فقال صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه البخاري.
لكن النصيحة الهادئة اللينة قد لا تجدي نفعًا في بعض الأحيان، خاصة إذا كان الحاكم جائرًا، بل قد يفهم من هذا الأسلوب اللين ضعف المطالبين بالحق، وقد يتطور الأمر إلى حد إهانتهم وقمعهم والانتقام منهم، وهنا تصبح كلمة الحق من أعظم أشكال الجهاد، لذا شجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة على استخدام المعارضة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهما كانت العواقب، بل جعل مواجهة الحاكم الظالم بقول الحق من أفضل الجهاد؛ توجيهًا لهذا الحاكم وتصحيحًا لأسلوبه ومنهجه في الحكم بين الرعية، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الجهاد من قال كلمة الحق عند سلطان جائر)) (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه).
وكان ديدن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن يُخْرِج أفراد الأمة من السلبية إلى الإيجابية، فجعل من الواجب على كل فرد أن يغير الأوضاع المقلوبة والسياسات الخاطئة، ومنحه وسائل متعددة ومتدرجة للقيام بهذا الواجب، فقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). (رواه مسلم).
وهناك كثير من الأحاديث التي "تفصل هذا المعنى وتوضحه، وتوجب على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر، وأن يراقبوا حكامهم ويشرفوا على مبلغ احترامهم للحق وإنفاذهم لأحكام الله تعالى، فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يأمر بهذا التدخل، أو الإشراف أو التناصح، أو سمِّه ما شئت، وحين يحض عليه ويبين أنه الدين وأنه الجهاد الأكبر، وأن جزاءه الشهادة العظمى.....هل كان حين يفعل ذلك كله يخالف تعاليم الإسلام فيخلط السياسة بالدين، أم أن هذه هي طبيعة الإسلام الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، وأننا في الوقت الذي نعدل فيه بالإسلام عن هذا المعنى نصوِّر لأنفسنا إسلامًا خاصًّا غير الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه".
وبعد وفاة الرسول مباشرة، وفي سقيفة بني ساعدة قام حوار مهم وعظيم بين المهاجرين والأنصار واحتدم الخلاف واحتدمت المعارضة، وفي النهاية حسم الأمر وتولي أبو بكر الخلافة، ولم ينتقم من المعارضين أو يهمشهم، بل قال لهم: ((أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم))، وقال: ((فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني))، وبذلك حدد الصديق حق المعارضة وحق الأمة في المناصحة والمحاسبة والرقابة.
ويطول بنا المقام لو أردنا أن نستقصي كل الأحاديث النبوية التي اهتمت بشئون الحكم والسياسة، ووضعت للمسلمين القواعد التي يجب عليهم أن يلتزموا بها في هذا الشأن، وفيما ذكرناه كفاية ودليل على أن أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم تهمل هذا الجانب من جوانب حياة المسلمين، بل أولته عناية واهتمامًا زائدًا يتناسب مع أهميته في النظام السياسي الإسلامي.
وبعد هذا التطواف السريع الموجز بين آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يتبين لنا بما لا يدع مجالاً للشك أو فرصة للطعن والانتقاص أن هذين المصدرين الأساسيين للإسلام لم يُغْفِلا شئون الحكم والسياسة باعتبارها ركنًا أساسيًّا من أركان المجتمع الإسلامي، ودعامة مهمة من دعائم إقامة أمة الإسلام، فقدما المبادئ والتوجيهات العامة الهادية للمسلمين في هذا السبيل، وتركا التفاصيل تحدِّد ملامحَها الدقيقة ظروفُ كلِّ عصرٍ ومصرٍ دون أن تنحرف عن روح الإسلام ومبادئه الأساسية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،،،