التفكير الفزيولوجي أو الكيميائي و التفكير العصبي وآليات التفكير
إن أبسط الكائنات الحية هي" الأوالي " ويبلغ عمرها حوالي 2500مليون سنة, وهي وحيدة الخلية , أي أن وظائف الحياة كلها تنجز في خلية واحدة فقط , فلا يوجد فيها أجهزة مستقلة مثل الجهاز الهضمي أو الدوران أو الحماية أو العصبي..., ففي الأوالي تتم بواسطة البلعمة وظائف التنفس والهضم والتغذية والدفاع أو المناعة أو الحماية من المؤثرات الخارجية الضارة . وأول مظاهر المناعية لديها هي تمييز الذات عن اللا ذات , فبعض الأوالي تعيش في مستعمرات ويجب تمييز الذات عن بعضها, وإنه يصعب قيام الحياة في مستعمرة أو حدوث توالد جنسي(أي بين كائنين حيين) دون في غياب القدرة على تمييز الذات عن اللا ذات . لذلك فمن المرجح أن تتوفر هذه المقدرة لدى الحيوانات الأوالي , و حتى الإسفنجيات التي تعد أبسط التوالي(الحيوانات عديدة الخلايا) باستطاعتها تمييز الذات عن اللا ذات , فخلاياها تهاجم طعوماً من إسفنجيات أخرى, ولكن استجابة الرفض ليست مماثلة لما يوجد لدى الفقريات, وذلك بسبب تطور وتعقد وتنوع المناعة ونشوء الذاكرة المناعية, فالرفض والمقاومة لدى الفقريات يكون أسرع وأشد في المرة الثانية , أي يحدث تذكر وبالتالي تعلم لتكيف أفضل مع الأوضاع التي يمكن أن تحدث, وعنصر التعرف و الذاكرة في الاستجابة المناعية هو حجر الأساس في الجهاز المناعي.إن السمة الأساسية لأي جهاز مناعي هي القدرة على تمييز بين الخلايا والنسج والأعضاء التي هي أجزاء من الجسم وبين المواد الغريبة. أما المهمة الثانية فهي التخلص من هذه المواد الغريبة , والتي تكون غالباً بكتريا أو فيروسات, إضافة لذلك فإن الجهاز المناعي عادة ما يميز , ويتخلص من خلايا ونسج الذات التي تبدلت بفعل الطفرة أو غيرها أو المرض, كالسرطان. ويتفق معظم المناعيين على أن الجهاز المناعي لدى الثدييات بما فيها الإنسان , يملك أشد الآليات تعقيداً "لتعرف "على الغزاة وعلى العناصر الضارة والتخلص منها . المناعةيطلق على الاستجابة الخلوية السريعة أسم المناعة الطبيعية أو الفطرية, ذلك أن الخلايا التي تقوم بها تكون ناشطة سلفاً وقبل دخول الغزاة إلى الجسم , وكافة الحيوانات تمتلك آلية دفاعية من هذا النوع, وهي من أكثر أشكال المناعة قدماً.
والمكون الثاني للمناعة الفطرية هي أكثر من 30 بروتين في الدم تعمل يتتال تسلسل متلاحق على نحو يشبه الشلال لتمييز الغزاة و من ثم القضاء عليهم, وتكفي عادة المناعة الفطرية للقضاء على المكروبات الغازية, لكن إذا لم تتمكن من ذلك , فإن الفقريات يستعمل استجابة أخرى وهي المناعة المكتسبة, وتمثل الكريات البيض جند المناعة المكتسبة, وهي تعمل متعاضدة كما قوات الجيش. وفي أثناء تجوالها في الجسم, عن طريق الدم, تكون عادة في حالة راحة, ولكنها تنشط وتتكاثر عندما تصادف جزئيات تعرف بالمستضات, وهذه تترافق مع الكائنات الحية الغريبة, والخلايا البيض أو اللمفاويات صنفان: الخلايا البائية , والخلايا التائية. تفرز الخلايا البائية الأضداد وهي بروتينات دفاعية تترابط بالمستضدات وتساعد على التخلص منها. تنتج الخلايا البائية جزئيات بروتينية أو ما يسما أضداد, ترتبط بالأجسام الغريبة أو الغازية أو ما يسمى المستضات الموجودة على سطوح البكتريات أو الفيروسات . ويمكٌن هذا الارتباط عناصر أخرى من القضاء على البكتريات والفيروسات بطرق مختلفة.
أما الخلايا التائية فهي بعكس الخلايا البائية لا تنتج أضداداً إنما تميز المستضدات المرتبط بأحد أنماط البروتين الموجود على سطح نوع مختلف من الخلايا , لذا فهي مجهزة بصنف "متخصص" من الجزئيات يسمى المستقبلة. ومن المظاهر النموذجية لفعالية الخلايا التائية يمكن أن نذكر أحداث متنوعة مثل رفض الطعم الجلدي الغريب وقتل الخلايا السرطانية . وتعمل الخلايا التائية على تمييز مستضات معينة, وهي أيضاً تساعد على تنظيم عمل الخلايا البائية. ( والطحال غني مصدراً غنياً بالخلايا البائية الخلايا البائية) ويحتوي جسم الإنسان عادة على أكثر من بليون خلية بائية, كل واحدة منها تفرز ضداً مختلفاً عن معظم ما تفرزه سائر الخلايا. و وظيفة الخلايا التائية كما قلنا متعددة الجوانب, فهي تتعرف مثلاً الخلايا التي تحمل عل سطوحها جزئيات غريبة (ليست من الذات)فتقتلها, كما أنها تساعد الخلايا البائية على إنتاج الأضداد. ومع أن المناعة المكتسبة عالية الفاعلية, فإنها تحتاج (بسبب التعقيد الشديد لهذه الآلية ) إلى أيام كي تبلغ ذروتها, فعلى الميكروب أن يلتقي الخلية التائية أو البائية المناسبة, كما يجب تنشيط البلاعم لمسعدة الخلايا المناعية, وعلى الخلايا البيض المشتركة أن تركب وتفرز بروتينات تضخم الاستجابة , وأخيراً على الخلايا البائية أن تصنع الأضداد وتطلقها في الدم. ويمكن أن تخطئ في التعرف , فتتعرف على بعض أنواع خلايا الجسم على أنها خلايا غازية فتقوم بمهاجمتها وقتلها, وهناك عدد من الأمراض تنتج عن ذلك مثل مرض السكر الشبابي , وهذا نتيجة خطأ و مهاجمة خلايا البنكرياس التي تفرز الأنسولين, والأخطاء في التعرف لها أسباب حدوثها.وللمناعة المكتسبة سمة مميزة وهي "الذاكرة المناعية" أي التعلم , و التي بوسعها اختصار التأخير. وتنشأ الذاكرة المناعية عن آليات أساسها ألدنا, وهي تسمح للمفاويات الجسم أن تميز بين التنوع الهائل للمستضدات على الرغم من أن اللمفاوية الواحدة تميز نمطاً واحد من هذه المضادات. فكل لقاء بمكروب يترك بصدمة جينية على خلايا بائية أو تائية معينة. فإذا ما التقت هذه الخلايا الميكروب نفسه مرة ثانية استعملت المجموعة الجينية نفسها على نحو تحدث فيه الاستجابة بسرعة أكبر وبفاعلية أنجع مما تمت عليه في المرة الأولى. إن هذه الظاهرة تشكل أساس الجرعة الداعمة التي تعطى في عمليات تمنيع الأطفال والجهاز المناعي لن ينسى ذلك.وفي الحقيقة فإن عدداً غير قليل من عناصر وآليات المناعة موجود تقريباً في الكائنات الحية كافة, ومثال ذلك البلعمة, و يتشابه الجهاز المناعي للفقريات مع الافقريات بشكل كبير ويعود هذا التشابه إلى أن الآليات الدفاعية للافقاريات هي أصول ما يماثلها في الفقريات وهذا يثبت أن الجهاز المناعي للإنسان والثدييات قد تطور عبر مئات ملايين السنين من مخلوق أقدم .نلاحظ أن الجهاز المناعي يعمل من أجل أهداف محددة معينة, وهو يتعرف ويميز ويختار الخيارات, أو السبل الأفضل والأجدى للوصول إلى أهدافه, وله ذاكرة قوية وعالية الدقة جداً , وهو يصحح أو يعدل خياراته(يتحكم ويدير ويقود) حسب الأوضاع والظروف المتغيرة , ليستمر في تحقيق أهداف التي هي تأمين تنمية وحماية الجسم من المواد والعناصر الدخيلة أو العناصر والخلايا الذاتية التي شذت أو ماتت( السرطانات وغيرها). وهو يعمل حسب عناصر وآليات فزيولوجية وكيميائية فعالة متوارث.فهو بمثابة عقل يعمل بكفاءة عالية , وإذا قارناه بالعقل العصبي فسوف نجد أنه لا ينقصه إلا الشعور والوعي والتنوع والتعقد الموجود لدى العقل العصبي
والعقل العصبي مؤلف من عدة عقول تعمل معاً متعاونة فيما بينها منها العقل الشمي والعقل البصري والعقل السمعي ... والمخيخ المسؤول عن قيادة العضلات وتنسيق عملها, والعقل التقييمي (الحوفي) وهو الذي يبني التقييمات ويدير التأثيرات المتبادلة بين الغدد الصم والجهاز العصبي .
وهناك أهم العقول بالنسبة لنا وهو العقل الوحيد الذي نتميز به عن باقي الكائنات الحية لأننا نحن الكائنات الحية الوحيدة الذين نملكه( حسب المعلومات المتوفرة الآن) وهو العقل اللغوي , فهو يتعامل مع كافة العقول الأخرى( العقل البصري والسمعي .... ), لأنه يستطيع التخاطب معها, وذلك ببناء البنيات العصبية الفكريةاللغويالتي تمثٌل أغلب البنيات الفكرية التي تتعامل معها تلك العقول .
ونحن كذوات أو كأنفس موجودون فقط في العقل الواعي وهو جزء صغير أقل من واحد بالمئة من الجهاز العصبي , وهو يستطيع الإطلاع على الكثير من العمليات الجارية داخل الجسم وداخل الدماغ لأنه القائد والمدير الأعلى والنهائي , ويستطيع التدخل في أغلب عمليات كافة العقول, وهوالمتعاون الأساسي مع العقل اللغوي وهو الذي يقود عملياته . وقد نشأ لدينا عقل جديد وهو خاص بنا أيضاً فمفهوم الضمير( أو الأنا العليا عند فرويد) يقصد به عقل نشأ نتيجة الحياة الاجتماعية واللغة والتربية, فهو بنية متماسكة تنمو وتتطور, فهو العقل الذي أنشأته الحياة الاجتماعية.
كما قلنا إننا نعتبر أن الوعي والإدراك هما أساس مفهوم العقل وهذا ما حجب عنا أساس مفهوم العقل ، فالإدراك والوعي والفهم هم المراحل المتقدمة جداً من العقل , وأساس العقل في رأيي هو القدرة على التعامل مع الخيارات والتحكم بها لتحقيق هدف ، وهذا ما جعل كما قلنا الكثير من البنيات هي بنيات مفكرة , فبنية الحياة ، وكذلك بنية كل كائن حي (حيوان كان أو نبات ) والبنيات الاجتماعية والكومبيوتر وغيرها ... هي بنيات تتعامل مع الخيارات وتحقق هدفاً موضوعاً .