♥► أيديولوجيا التجربة الجمالية في الشعر الحداثي ◄♥
كاتب الموضوع
رسالة
الشبح
عضو فضي
الجنس : العمر : 36 كوكب الأشباح التسجيل : 06/09/2011عدد المساهمات : 512
موضوع: ♥► أيديولوجيا التجربة الجمالية في الشعر الحداثي ◄♥ الجمعة 11 نوفمبر 2011, 6:39 pm
تأسيس نظري:
على الرغم من أن للأيديولوجيا(*). نسقاً مختلفاً عن الشعر، والفن عامة، إلا أن بينهما من الارتباط ما لا يمكن إغفاله أو تجاوزه. ولاينهض ذلك من أن الشعر موقف جمالي من الواقع فحسب. بل ينهض أيضاً من أنه خطاب DISCOURSE يتوسط بين المرسل والمتلقي اللذين لكل منهما موقعه ومنظوره. بمعنى أن الشعر بوصفه موقفاً وخطاباً جماليين، ينطوي بالضرورة على خطاب أيديولوجي ما. ومن ذلك، فإن الشعر يتحدد أيديولوجياً، مثلما يتحدد لغوياً وذاتياً (1). غير أن تحديده الأيديولوجي لايؤدي به إلى أن يتحول إلى أيديولوجية. وإذا ماحصل ذلك، فإن انتفاء الشعريPOETIC عن النص الذي من المفترض أن يكون شعرياً، يغدو أمراً محتوماً أو شبه محتوم.
ولعلنا لانبالغ إذا ماذهبنا إلى أن النثرية في الشعر هي حصان طروادة الذي غالباً ماتستخدمه الأيديولوجيا في محاولتها الهيمنة على الشعر، من أجل توظيفه في صراعها الاجتماعي، غير أنها إذ تفعل ذلك، تجعل من طروادة أثراً بعد عين.
إننا نريد أن نؤكد، من وراء هذا، أن تحويل الشعر إلى أيديولوجية لن يقود إلا إلى نفي الشعر وإثبات الأيديولوجية. ومع ذلك، فإن للخطاب الشعري بعداً أيديولوجياً يتبدى على عدة مستويات من النص، وعلى عدة مستويات من التلقي. وإذا كان من الصعوبة بمكان أن ندرس مستويات التلقي، لارتباطها بعملية القراءة ذات الطبيعة الفردية. وإن يكن بالإمكان تصنيفها بأنماط اجتماعية عامة، فإن دراسة مستويات النص أمر أكثر تيسّراً، لارتباطها بالنص لابالمتلقي. ولكن قبل الشروع بهذه الدراسة، لابد من الوقوف عند طبيعة التجربة الجمالية، والشكل الذي تتخذه في الشعر، لما لذلك من أهمية في تبيان نمط العلاقة بين الخطاب الشعري والأيديولوجية.
تتصف التجربة الجمالية عامة بثلاث صفات أساسية وهي الحسية والانفعالية واللانفعية حيث إنها تشكل قوام العلاقة بين الذات والموضوع الجمالي.
أما الحسية فتحيل على أن كل ماهو محسوس يمكن أن يكون مادة للتجربة، كما تحيل على أن المعنوي أو المجرد غير قابل لأن يكون مادة لها، من حيث المبدأ. أو كما يقول تشيرنيشفسكي "غير المحسوس غير موجود بالنسبة إلى الإحساس بالجمال"(2). إذ إن هذه التجربة تتناول الظواهر والأشياء، ولاتتناول الأفكار والمعاني والمفاهيم. ولكن هذا لايؤدي إلى أن غياب المحسوسات يغيّب بالضرورة هذه التجربة. فقد تقوم على التصور أو الاستحضار الذهني، ولاسيما في عملية الإبداع. حيث نلحظ غياب المحسوسات وحضور آثارها وتحريضاتها وتقويماتها، مما كوّنه المبدع من تجاربه الجمالية ـ الحياتية السابقة. وكأن عملية الإبداع تأتي تتويجاً لمجمل التجارب التي اختزنتها الذات المبدعة. أما مايبدو على هذه العملية من أنه تجربة ذاتية روحية داخلية، فليس في حقيقته سوى معايشة انفعالية لما تمّ اختزانه من تحريضات حسية وتقويمات جمالية من قبل. وبهذا المعنى، فإن المحسوس، حاضراً كان أو غائباً، هو مادة العملية الإبداعية التي هي أرقى أشكال التجربة الجمالية، وذلك أنها تجربة منتجة، لامستهلكة فقط.
أما صفة الانفعالية، فتحيل على أن هذه التجربة تنهض أساساً مما هو تأثري عاطفي، لامما هو ذهني منطقي. أي أن الذات، في هذه التجربة، تتأثر وتنفعل وتتفاعل، ولاتتلقى موضوعها من منظور المحاكمة المنطقية أو العلمية أو الأخلاقيةأو السياسية. غير أن انفعالها أو تفاعلها لايتناقض مع تلك المحاكمات بالضرورة. بل إنه قد يتقاطع مع بعضها، وذلك بحسب الطبيعة العامة للذات ذهنياً ونفسياً وروحياً. إن صفة الانفعالية إذ تحيل على التأثر بالموضوع، تحيل أيضاً على بروز ماهو نفسي في الذات. فلانستطيع وهذه الحال أن نحدّد درجة الانفعال الذي تواجه به الذات موضوعها. غير أننا نستطيع أن نؤكد أن الانفعال الجمالي ممتلئ بموضوعه، ومتمحور حوله. ولهذا، فهو ليس انفعالاً سائباً، أو ذا آلية مستقلة عن صفات الموضوع بعضها أو كلها، كما أنه لاعلاقة له بالهيجان النفسي أو بالمشاعر الحادة من مثل الخوف والألم والقلق.
فالتجربة الجمالية محكومة، إذاً، بالحسية والانفعالية. فإذا كانت الحسية هي الحامل المادي للتجربة، فإن الانفعالية هي مظهرها النفسي، مثلما أن التقويم الجمالي الناتج منها هو تعبيرها الروحي. أي أن التقويم لاينتج معرفة بالموضوع أو بالذات. بل إنه ينتج معرفة بطبيعة العلاقة بين الذات والموضوع. ومن هذه العلاقة يمكننا أن نحدد الذات والموضوع معاً. مع الإشارة إلى أن هذه المعرفة ليست معرفة علمية أو منطقية. بل هي معرفة قيمية. بمعنى أنها معرفة بالقيم لا بالأشياء، وإن تكن تشكّل الأساس الذي تنبني عليه تلك القيم.
غير أن هذه التجربة لايمكن أن تكون جمالية، بكل مايعنيه مصطلح الجمالي AESTHETIC، إذا لم تكن متحررة من الشواغل المادية أو الأيديولوجية الملحة. أي أن صفة اللانفعية، في هذه التجربة، تقتضي أن تتوجه الذات إلى موضوعها، من دون رغبة منها في استهلاكه المادي أو تخديمه العملي أو الأيديولوجي. ومن ذلك، فإن التجربة الجمالية متحررة من النوازع أو الأطماع الشخصية، والأيديولوجية، إنها قفزة خارج الضرائر بأشكالها المختلفة. ولهذا، فهي تبدو نافذة مفتوحة على عالم الحرية، بالمعنى الوجودي والاجتماعي معاً. ولعلنا لانبالغ إذا ماقلنا إن التجربة الجمالية هي التجربة الوحيدة التي يدخلها الإنسان من دون أن يكون محكوماً فيها بدوافعه المادية أو العملية أو الأيديولوجية. ومن ذلك تأتي أهمية هذه التجربة. حيث إنها تحررنا من الضرائر، وتغنينا روحياً في الوقت نفسه، بمعنى أن عدم رغبتنا باستهلاك الموضوع الجمالي ينعكس غنىً روحياً كبيراً، في وجودنا الذاتي والاجتماعي، ولعل هذا ماقصده كانط بالغائية من دون غاية، في حديثه عن العلاقة بالجمالي(3).
إن الشعر بوصفه نتاج التجربة الجمالية، يتصف، في شكله، بالحسية والانفعالية مثلما يتصف في تناوله للموضوعات باللانفعية. فلايمكن أن يكون الشعر تجريداً مفهومياً أو ذهنياً، ولايمكنه أن يكون منطقياً. وكذا هي الحال لايجوز أن نتعامل معه على أنه ذو وظيفة أيديولوجية مباشرة، لأنه ليس انعكاساً REFLECTION للأيديولوجية. بل هو انعكاس لكل من التجربة الذاتية والوعي الجمالي العام. ولأنه كذلك فهو يتقاطع مع الأيديولوجية، ولكنه لايمثلها أو يتأسس على أطروحاتها السياسية أو الأخلاقية...إلخ.
وإضافة إلى الحسية والانفعالية، فإن الشعر يتصف بالمجازية والصورية اللتين بهما يعيد الشعر إنتاج الموضوعات الحسية والانفعالات الجمالية، بحيث تبدو بشكل تخييلي مجازي مختلف، بهذه الدرجة أو تلك، عن كينونتها الواقعية. أي أن الشعر إذ ينشئ عالمه التخييلي المجازي يكمل بذلك مابدأته التجربة الجمالية من تحرر من الدوافع النفعية. ويكمن ذلك في تحرره من العلاقات الواقعية بين الظواهر والأشياء، ومن سماتها الحقيقية أيضاً. بمعنى آخر: إذا كانت التجربة تتحرر من الدوافع النفعية للذات، فإن الشعر يتحرر من الطبيعة الواقعية للموضوع، وهو مايعمق فكرة القفز خارج الضرورة في الشعر، وفي الفن عامة. أو بتعبير أدورنو " إن الفن هو مجال الحرية في وسط الضرورة"(4) ولكن القفز خارج الضرورة لايعني إطلاقاً أن الشعر لاعلاقة له بالواقع والأيديولوجية. بل هو موقف من الواقع ومن الأيديولوجية معاً. إنه بقفزه خارج الضرورة يبدو أكثر وعياً بها، وأعمق تصوراً لها، وأحرَّ طرحاً لها أيضاً. ومن ذلك يبدو بعض النصوص الشعرية إضاءة لما هو غامض أو مجهول في طبيعتنا الإنسانية، ويبدو بعضها الآخر إضاءة لبهاء ماابتذلناه في حياتنا اليومية، وإظهاراً لجمال ماأغفلناه، بسبب الحمى النفعية التي تقودنا في عالم الضرورة والانسحاق بشروطها التي غالباً ماتكون غير إنسانية. ولعله في ذلك يكمن أحد مستويات الخطاب الأيديولوجي في الفن عامة، وفي الشعر الذي هو مجالنا في هذا المبحث. حيث إن الشعر يسعى إلى تبيان ماهو زائف واستلابي ولاإنساني، في الوجود الاجتماعي، مثلما يسعى إلى بلورة ماهو أصيل وجميل. ولأن الشعر يطرح ذلك من منظور الذات، فلايمكن إلا أن يكون هذا الطرح ذا بعد أيديولوجي خاص بتلك الذات، غير أن هذا لايلغي أن ينطوي الشعر على الحقيقي والموضوعي، بالرغم من حضور الذاتي والأيديولوجي فيه، وكما يقول أدورنو، فإن "بعض أعمال الفن تكون أيديولوجية قلباً وقالباً. ومع ذلك فإن مضمون الحقيقة يبقى قادراً على الحضور في هذه الأعمال"(5). مع توكيده "أن الحقيقة والأيديولوجية لاتمثلان الجيد والرديء، على التوالي، إذ إن الفن يحتوي كليهما معاً"(6). وبما أن ثمة تجادلاً بين الحقيقي والأيديولوجي، في الفن، فمن الاستحالة بمكان أن نشير إلى واحد منهما، من دون الآخر. فهما لا يمثلان ثنائية، بقدر مايدخلان في وحدة تخييلية، يصعب تجزيئها في الفن. ومن هنا، فإن الجمالي الذي يطرحه الفن هو نتاج الحقيقي والأيديولوجي، مثلما هو نتاج الذاتي والتخييلي. ولهذا فإن قيمة الفن تكمن، في أحد مستوياتها، في إحالته على الأيديولوجي من دون أن يتحول إلى أيديولوجية صرف. وعلى الرغم من أهمية الخطاب الأيديولوجي في الشعر، والفن عامة، إلا أن ذلك لايؤدي إلى أن قيمة النص الشعري تنهض من ذلك الخطاب وهل هو ذو طبيعة تقدمية أو رجعية. فلايصحُّ القول، كما يؤكد إيغلتون، بأن النص القيِّم هو الذي يحمل دائماً القيم والقابليات التقدمية. أو أنه الذي يعكس الذات الطبقية التقدمية، وذلك على الرغم من تقريره بأن قيمة النص تتحدد بنمطها المضاعف من التشكيل الأيديولوجي وقوانين الخطاب الأدبي (7)؛ وعلى الرغم من قوله أيضاً بأن النص هو نتاج الأيديولوجية (.
لقد أشرنا سابقاً إلى أن الخطاب الأيديولوجي في الشعر، لايكمن في النص وحسب، بل يكمن أيضاً في عملية التلقي، ولعل لهذه العملية من الأهمية، في ذلك، مالايقلُّ عن أهمية النص. إذ إن النص يتم إنتاجه جمالياً وأيديولوجياً، في فعل الإبداع من منظور الذات المرسلة، ويتم إنتاجه أيضاً، في فعل التلقي، من منظور الذات المتلقية. ومن ذلك، فإن النص في تغيّر مستمر، على صعيد الخطاب، بحيث لانستطيع أن نقرر للنص نسقاً واحداً من الخطاب الأيديولوجي. والحق أن هذا من إشكاليات الخطاب الأدبي. فهو من جهة نتاج التاريخ، وهو من جهة أخرى نتاج القارئ. في الوقت الحاضر (9). ولاشك في أن هذا ينهض من أن النص الأدبي هو نص مجازي تخييلي. إذ إن ذلك يجعله قادراً على الإيحاء الجمالي في اتجاهات متعددة ومختلفة، كما يجعله محتملاً لعدة تأويلات في آن معاً. ولكن هذا لايؤدي إلى الاعتباطية في فعل التأويل. فلابد من أن يكون محكوماً بالنص، أي لابد أن يتيح النص هذا التأويل أو ذاك. بمعنى آخر: ينبغي أن يكون لكل القراءات المختلفة أساس من النص. ومن دون ذلك لايكون النص هو المقروء بقدر مايكون صدى زائفاً لما يريد القارئ أن يقرأه فيه.
نخلص إلى أن الخطاب الشعري هو خطاب جمالي، ينطوي على درجة ما من الخطاب الأيديولوجي. وذلك لأنه، أولاً، موقف من الواقع، ولأنه، ثانياً، صادر من مرسل إلى متلق. وبما أن النص الشعري نص مجازي تخييلي، فهو قابل لأن يتغير خطابه الأيديولوجي من مرحلة إلى أخرى، ومن قارئ إلى آخر، من دون أن يتحول النص إلى أيديولوجية. أي من دون أن يستعلي الخطاب الأيديولوجي على الجمالي في النص. وإذا ماحدث ذلك، فلن يكون النص شعرياً بأية حال. لأنه لايكون، في الأساس، نتاج التجربة الجمالية، كما لايكون تعبيراً عن الوعي الجمالي الذي يختلف، بشكل جلي، عن أشكال الوعي الأخرى، على الرغم من تقاطعه معها.
لقد تجلى الخطاب الأيديولوجي، في النص الشعري الحداثي، بعدة مستويات. وهي مستوى الرؤيا الكلية، ومستوى النموذج الفني، والصورة، والرمز، علاوة على التقويم الجزئي المباشر. أي لقد تجلى هذا الخطاب في مجمل النص، وهو ماسوف نتوضحه في الصفحات التالية، من دون الإفاضة فيه، إذ إننا سوف نتوضح أيضاً تأثير الأيديولوجية السلبي في شعر الحداثة. ولهذا فإننا سوف نتحدث عن علاقة الشعر بالأيديولوجيا من خلال محورين اثنين: الأول تحت عنوان: النص بوصفه خطاباً أيديولوجياً، وفيه نلحظ كيف يشتمل الشعري على الأيديولوجي. من دون أن ينحرف عن نسقه الجمالي. والثاني تحت عنوان: الأيديولوجية بوصفها نصاً. حيث نلحظ كيف ينحرف النص من كونه خطاباً جمالياً إلى كونه أيديولوجية وحسب.
النـص بـوصـفـه خـطـاباً أيـديـولـوجـيـاً:
لم تكد الحداثة الشعرية العربية تترك ظاهرة من ظواهر الواقع المعاصر، من دون معالجة فنية ومن دون تقويم جمالي، بحيث يمكن التوكيد أن هذه الحداثة قد استوعبت مجمل ماطرحه الواقع من إشكاليات ذاتية وروحية واجتماعية. وهي باستيعابها ذلك تكون قد أنجزت مشروعها الجمالي المعادل فنياً للواقعِ، كما تكون قد حاكمته على المستوى الأيديولوجي. بمعنى أن الحداثة قد اتخذت موقفاً أيديولوجياً من الواقع، في أثناء استيعابها الفني وتقويمها الجمالي له. وقد ظهر ذلك، كما أسلفنا سابقاً، بعدّة مستويات من النص الشعري الحداثي، نتناولها فيما يلي:
أما على مستوى الرؤيا الكلية فيمكن أن نحصر الرؤى الجمالية التي هيمنت على شعر الحداثة، في علاقته بالواقع، بثلاثة أنماط، وهي النمط البطولي، والنمط التراجيدي، والنمط العذابي** . حيث نلحظ على صعيد النمط الأول أن الشاعر الحداثي قد بلور موقفه الثوري العام من الواقع الاجتماعي العربي بقيمة البطولي. أي أنه ارتفع بالأيديولوجية الثورية إلى مستوى القيمة الجمالية الإيجابية. وفي ذلك مافيه من تقويم إيجابي لما هو ثوري في الحياة الاجتماعية، كما أن فيه من الرفض لما هو تقليدي وساكن ومتخلف، بحيث لايخفى على القارئ. وقد توزع هذا النمط على نسقين اثنين. الأول هو نسق الثورية الاجتماعية التقدمية. والثاني هو نسق الثورية الفردية ذات المنحى القيمي. فعلى حين أن النسق الاول سعى إلى تثوير المجتمع من خلال الطليعة الثورية ونموذجها البطل المنتمي، فإن الثاني قد سعى إلى تثوير القيم من خلال النخبة ونموذجها البطل اللامنتمي. مع الإشارة إلى أن كلاً منهما يرى في الواقع الاجتماعي استلابياً وغير إنساني، مما يعني ضرورة تجاوزه وتخطيه بما ينسجم والمثل الأعلى للثورية. ولكن في حين ذهب الأول إلى ضرورة الانتماء إلى القوى الاجتماعية الراغبة في التغيير، فإن الثاني ذهب إلى أن الانتماء إلى الواقع بقيمه ومُثله، هو خيانة للثورية. ويمكن القول بان شعراء مجلة ومن في حكمهم، يمثلون هذا النسق (10) بعامة. ويمثل النسق الأول شعراء اليسار السياسي بعامة أيضاً، ومن دون أن يعني ذلك أن ثمة حواجز تمنع التداخل بين هذين النسقين.
وعلى الرغم من أن هذا شائع، في الكثير من النصوص الحداثية، غير أنه لابأس من التمثيل على هذا النمط بنسقيه الاثنين.
يقول محمد الفيتوري، في البطل المنتمي:
كانت الأرض عذراء
والفجر لم يشتعل بعد...
فليبق وجهك مشتعلاً بالجمال
اشتعلْ أبداً بالجمال
اشتعل مثلها أيها الغجريّ المغني
... الطواحين فارغة
والزوابع مدفونة في بطون الرمال
والرجال
معلّقة من ضفائرها
والسنابل مثقلة بالأسى والحنين
وأنا فيكِ سنبلة. فاذكريني!
*
كان حبك مرتسماً فوق وجهي
الشذى في فمي
والرؤى في عيوني
ولذا حينما أبصروني
أبصرونا معاً(11)
ويقول أدونيس، في البطل اللامنتمي:
أحرق ميراثي، أقول أرضي
بكرّ، ولاقبور في شبابي
أعبر فوق اللّه والشيطان
(دربي أنا أبعد من دروب الإله والشيطان)
أعبر في كتابي
في موكب الصاعقة المضيئه
في موكب الصاعقة الخضراء
أهتف ـ لاجنة لاسقوط بعدي
وأمحو لغة الخطيئة(12)
لقد طرح كل من هذين المقطعين موقفاً أيديولوجياً ثورياً من الواقع، ولكن بينما انطلق المقطع الأول من الثورية الاجتماعية، فإننا نجد أن الثاني قد انطلق من الثورية الفردية. ولقد صاغ كل منهما موقفه الأيديولوجي بشكل جمالي، بحيث إن هذا الموقف لايشكل إلا أحد مستوياته. أي أن هذا الموقف لايستغرق الخطاب الشعري فيهما.
أما النمط الثاني من الرؤيا الكلية، فهو النمط التراجيدي. حيث تطرح بعض النصوص الحداثية صورة تراجيدية للواقع الاجتماعي. فيبدو هذا الواقع محكوماً بكل ماهو استلابي وقمعي ومؤلم، ويبدو الإنسان فيه مطحوناً بكل أشكال الإذلال الاجتماعي والسياسي والروحي. وغالباً ماتنطوي هذه النصوص على تصوير الانكسارات التي يعانيها البطل الثوري الذي تم النظر إليه على أنه القيِّم اجتماعياً، أي على أنه الجميل والبطولي معاً. وإذا ماأفدنا من تعريف ييتس Yeats للتراجيدي على أنه ذلك الذي ينمو وينكسر امام الحواجز التي تفصل الإنسان عن الإنسان، وأنه فوق تلك الحواجز الكوميدية التي يحتفظ بها المنزل (13). فإن الموقف الجمالي ذا البعد الأيديولوجي من الواقع، يغدو واضحاً تماماً. إذ إن هذا الواقع، بحسب التقويم التراجيدي، لايتيح للطاقات الإنسانية أن تتفتح. وهو مايعني أن الأجواء التراجيدية سوف تبقى هي المهيمنة، مالم يتغير ذلك الواقع.
ولقد أجمع شعراء الحداثة على أن الخطيئة التراجيدية هي الواقع نفسه، ولاسيما جانبه السياسي القمعي الذي يشكل نقيضاً لكل ماهو ثوري، وفي ذلك يقول الماغوط:
نامي تحت الأعلام المزّقة
أيتها الحمامة المنسية
الوحل يتهادى كالأمير
يتألق على سرجه الذهبي
والشتاء الأخير
ينحني كالمتسوّل على أقدامك يابردى (14)
ويقول البياتي:
مات المغني، ماتت الغابات
والعندليب مات
وريثُ هذا العالم المدفون في الإعماق
يلهث مهزوماً على قارعة الطريق
يحمل وجه هالك غريق
ينام في المقهى، ككلب جائع أفَّاق(15)
ويقول محمد عمران:
أنا الذي رأيت
أرمي نبوءتي في هجعة الساحات ثم أمضي
مكللاً بشوك أرضي
...
جلجلتي أعرفها، وخشب الصليب
وأعرف المسمار والعلامه
وأنني بلاقيامه (16)
ولايختلف النمط العذابي عن التراجيدي من حيث الأجواء المصوَّره. فكلاهما يقدم صورة سلبية للواقع الاجتماعي، أي أنه يدينه جمالياً وأيديولوجياً. ولكن في حين يقدم النمط التراجيدي صراع الإنسان ـ وغالباً البطل الثوري ـ مع الواقع، فإن النمط العذابي صورة للتأزم النفسي والروحي الذي يعانيه الفرد في تلك الاجواء. بمعنى آخر: إن النمط التراجيدي غالباً مايترك فسحة لإمكانية التغيير الثوري. ولهذا قلما تكون رؤياه سوداوية بشكل مطلق. أما النمط الآخر فإنه لايكاد يوحي بأن ثمة أفقاً وراء ماهو ناجز واقعياً. ولعل أكبر مثل على هذا النمط من الرؤيا هو قصيدة خليل حاوي التي وصل فيها الشاعر إلى إغلاق أية إمكانية في الانبعاث الحضاري للواقع العربي، من خلال شخصية لعازر الذي كان هو المرتجى. غير أنه:
... عاد من حفرته
ميْتاً كئيب
ينزف الكبريت مسودَّ اللهيب(17)
ولهذا لاغرابة في أن يرغب في العودة إلى قبره:
عمّق الحفرة ياحفارُ
عمّقها لقاع لاقرار(18)
تلك هي الأنماط الثلاثة ـ بإيجاز شديدـ التي استوعبت الرؤيا الشعرية الحداثية وهي كما نلحظ، أنماط جمالية وأيديولوجية في الوقت نفسه. أما أنها جمالية، فلأنها تصدر من موقف حسي انفعالي مصوغ بشكل مجازي تخييلي، ومن وعي جمالي يتعامل مع الواقع من خلال المثل الأعلى للجمال في الفرد والمجتمع معاً. وهي أيديولوجية، لأنها تتقاطع مع الوعي السياسي، في محاكمتها للواقع، وفي نظرتها إليه، من دون أن تستخدم أدواته المعرفية. وهو ماأبعدها عن أن تكون رؤى سياسية خالصة، على الرغم من خطابها الأيديولوجي ـ السياسي.
أما على مستوى النموذج الفني، فنلحظ أن ثمة تقويماً جمالياً ذا بعد أيديولوجي أقل تعميماً من الرؤيا الكلية التي تتناول الواقع في مجمله بالحكم والتقويم. وعلى الرغم من أن النموذج غالباً مايتم تقديمه في علاقته بالسياق الاجتماعي، غير أنه هو المعنيُّ أولاً بالتناول والتقويم الجمالي والأيديولوجي. ولن نتوقف طويلاً عند هذا المستوى، لأنّ له مكاناً آخر من هذا البحث، ولكن ما لابدّ من الإشارة إليه هو أن النمذجة الفنية هي في ذاتها تقويم جمالي وأيديولوجي للموضوع المنمذج.
وإذا ماذكرنا ان كثيراً من النصوص الحداثية تطرح رؤياها الكلية من خلال النموذج الفني، فإن ذلك يعني ان مثل هذه النصوص ينطوي على نوعين من التقويم: نوع كلي خاص بالواقع، ونوع جزئي خاص بالنموذج. أما مايخص هذا، كأن يتناول النص شخصية الديكتاتور على أنها نموذج القبيح أو الكوميدي مثلاً، فلابد من أن يحيل على أن ثمة موقفاً أيديولوجياً سلبياً من هذه الشخصية وما يماثلها، لا بوصفها شخصية فقط. بل بوصفها أيضاً شكلاً من أشكال السلطة، وذلك كقول أمل دنقل:
قلت لكم في السنة البعيده
عن خطر الجنديّ
عن قلبه الأعمى، وعن همّته القعيده
يحرس من يمنحه راتبه الشهريّ
وزيه الرسميّ
ليرهب الخصوم بالجعجعة الجوفاء
والقعقعة الشديدة
لكنه... إن يحن الوقت..
فداء الوطن المقهور والعقيده
فرَّ من الميدان
وحاصر السلطان
واغتصب الكرسيّ
وأعلن "الثورة" في المذياع والجريدة(19)
وغالباً مايتداخل الخطاب السياسي في الخطاب الأخلاقي، على صعيد النموذج الفني، كما نلاحظ في هذا النص، حيث بدا أن الديكتاتور مدان أخلاقياً وسياسياً. علاوة على أنه مدان جمالياً. ولعل السبب في ذلك يكمن في أن النمذجة الفنية تنهض من طرح شخصية اجتماعية متعددة الجوانب. ولهذا فإن خطابها الجمالي يغدو متعدد الجوانب أيضاً. مع الإشارة إلى أن هذا الخطاب غالباً مايكون مفتوحاً، على تقويمات مختلفة، بحسب طبيعة المتلقي الجمالية و الأيديولوجية، ولاسيما في النصوص التي تطرح نموذج المعذب، والتي لاتفرض تقويماً محدداً على النموذج.
أما بالنسبة إلى مستوى الصورة الفنية، فإن الأمر فيه مختلف عن المستويين السابقين، للطبيعة الجزئية في الصورة، من جهة، ولإحاطتها بكل الجوانب الحياتية تقريباً، النفسية منها والروحية والاجتماعية والطبيعية والعملية، من جهة أخرى. فمن المعلوم أن كل الظواهر والأشياء، في هذا الوجود، يمكن أن تكون مادة للصورة الفنية، مثلما يمكن أن تتشكّل منها عناصرها الحسية. ولأن طبيعة الصورة تقوم على الحسي والانفعالي والتقويمي، فإن ذلك يعني أن العناصر التي تتشكل منها الصورة هي عناصر قد تم الإحساس بها، مثلما تم تقويمها. ويمكن التوكيد أن بناء الصورة على هذا العنصر او ذاك، هو في اساسه، موقف جمالي من العنصر ومن دلالته في الصورة معاً، كما ان الإيحاء الجمالي المتحصل منها ينطوي على تقويم ما، بالضرورة. ومن خلال التقويم والإيحاء، يبرز هذا النسق أو ذاك من الخطاب. وبما أن الحديث، في هذا المجال، حول الخطاب الأيديولوجي فإننا نتوقف عند الكيفية التي تحيل بها الصورة على هذا الخطاب.
يقول خليل حاوي:
غبت عني، والثواني مرضت.
ماتت على قلبي.
فما دار النهار،
... ليلنا في الأرز من دهر تراه؟
أم تراه البارحة(20)
ويقول سعدي يوسف في صورة أكثر تداخلاً وامتداداً:
تطير الحمامات في ساحة الطيران. البنادق تتبعها،
تطير الحمامات تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا
في الرصيف يبيعون أذرعهم. للحمامة وجهان:
وجه الصبيّ الذي ليس يؤكل ميتاً، ووجه النبيّ
الذي تتأكّله خطوة في السماء الغريبة(21)
ويقول محمود درويش:
مرة أخرى، ينام القتله
تحت جلدي وتصير المشنقه
علَماً او سنبله
في سماء الغابة المحترقة(22)
ويقول فايز خضور:
لاتلومي القافله
واخلعي لون الحداد
حلمك المأمول مقتول، وقتّالوه يغزون البلاد
شيّعي الجرحى بورد، لازورد،
أي عشب، عنبر، رمل رماد..
واستشيري السابله(23).
على الرغم من أننا لم نقصد الإتيان بصور فنية تتمحور حول الفجيعة والأجواء التراجيدية إلا أنها، على أيه حال، توجه حديثنا في اتجاه معين، وهو موقف الصورة من الواقع، من خلال تقويمها لبعض العناصر فيه.
تنحو صورة حاوي نحو إدانة الثبات والسكونية، في الواقع، وذلك من خلال تجسيد جمالي للزمن الذي يبدو عديم الحركة، بالنسبة إلى الشاعر. وقد انطوت الصورة على إحساس واحد، فحواه الموت. فالغياب والمرض والموت وعدم الدوران أو الحركة والسكونية المطلقة هي التي تتكون منها هذه الصورة التي اتخذت موقفاً جمالياً سلبياً منها، وهذا الموقف السلبي هو الذي يشكل إيحاءها العام وخطابها الأيديولوجي أيضاً. ولعل الغياب -غياب المنقذ- الذي تم تقويمه تراجيدياً - قد انعكس سلبياً على العناصر الأخرى، فبدت ذات طبيعة مملة مضجرة، فالثواني مريضة ميتة، والنهار راكد ساكن. مما يعمق الإحساس بتفاهة الواقع وبضرورة تجاوزه، ولن يكون ذلك إلا بعودة الغائب المنقذ.
أما في صورة سعدي يوسف، فثمة إحساس واحد أيضاً، وتقويمات عدة. فالحمامات المقوّمة على أنها الجمال نفسه، تعاني معاناة تراجيدية، في علاقتها بالبنادق المقوّمة على أنها القبح والفظاعة معاً. فثمة صراع غير متكافئ بين الجمال والقبح، في الواقع، بحسب الصورة. ومايؤكد ذلك أن الجمال -أو الحمامات- يسقط ميتاً، فوق جمال آخر معروض للبيع، وهو الأذرع رمز العمل الإنساني، أي أن الإنسان مهان ومستلب، ومجروح في قيمته الإنسانية، مثلما الحمامات الملاحقة بالبنادق. ومايلفت الانتباه هنا، أن الحمامات إذ تسقط، تسقط إلى جانب تلك الأذرع، مما يوحي بأن ثمة تعاطفاً بين الحمامات والأذرع (تسقط دافئة) من جهة، وبأن نقيض الحمامات هو نفسه نقيض الأذرع، من جهة أخرى، فالذي أسقطها كان السبب في إسقاط تلك.
ويتابع الشاعر بلورة الموقف التراجيدي الذي تعانيه الحمامات. حيث يرى أن لها وجهين اثنين في معاناتها. وجه البراءة الإنسانية المقتولة (الصبي). ووجه الحلم الإنساني المشرد والمضيَّع (النبي).
وهو مايتكامل ومابدأته الصورة. أي أن الوجه الأول يتكامل وسقوط الحمامات. ويتكامل الوجه الثاني وبيع الأذرع.
إن كل ذلك يحدث في مكان بعينه، هو ساحة الطيران، أي ساحة الواقع الاجتماعي الذي تهيمن فيه رموز القبح والفظاعة، ويندحر فيه كل ماهو إنساني وجميل. وبهذا فإن الخطاب الأيديولوجي، لهذه الصورة، أوضح من أن يشار عليه. ولكن ماينبغي توكيده هو أن هذا الخطاب جاء محمولاً على خطاب جمالي أعم وأشمل.
وتلك هي الحال في صورتي درويش وخضور اللتين تصدران من الإحساس التراجيدي نفسه. حيث يتم تقويم القتلة بالقبح والفظاعة، ويتم تقويم الغابة المحترقة والبلاد، في الصورتين، بالتراجيدية. ومايلفت النظر في صورة درويش هو أن المشنقة التي هي القبح بذاته، لها وجه آخر، وهو البطولية والجمال (علم، سنبلة). أما أنها قبيحة، فلأنها رمز للطغيان، وأما أنها ذات وجه بطولي وجميل، فذلك لاينهض منها. بل ينهض من الذين يعلّقون عليها. أي أن قبحها يرتبط بعلاقتها بالطغيان، على حين أن البطولية فيها ترتبط بعلاقتها بالشخصيات المناضلة البطولية. وبهذا فإن الخطاب الأيديولوجي في هذه المشنقة التي هي محور الصورة، هو خطاب مزدوج: إدانة الطغيان من جهة، والثورة عليه من جهة أخرى.
ومايلفت النظر أيضاً في صورة خضور، هو أن القتلة إذا يغزون البلاد بالقتل والهتك، لايستطيعون الارتفاع بالموت إلى مستوى الفناء المطلق، ولهذا فإن الشاعر يدعو إلى خلع لون الحداد، لأن الذين ماتوا أو قُتلوا ليسوا إلا جرحى. وفي هذا أيضاً خطاب مزدوج: توكيد تفاهة القتلة وعرضيتهم بالنسبة إلى الحياة، وتوكيد عظمة البلاد التي لاتموت.
اما على مستوى الرمز الفني، فإن تقنية الرمز تقتضي التقويم الجمالي المزدوج حيث يحمل الرمز تقويماً للموضوع المرمّز، وتقويماً للإحالة الرمزية، في الوقت نفسه، ولعل الرموز الأسطورية والتاريخية تكون أوضح الرموز في ذلك. ونكتفي بمقبوس واحد، للدلالة على الخطاب الأيديولوجي في الرمز. يقول السياب:
الموت في البيوت يولدُ،
يولد قابيل لكي ينتزع الحياه
من رحم الأرض ومن منابع المياه،
فيُظلِم الغدُ
وتجهض النساء في المجازر
ويرقص اللهيب في البيادر،
ويهلك المسيح قبل العازر(24)
ينطوي المقبوس على ثلاثة رموز، وهي قابيل والمسيح والعازر، يحيل كل منها على دلالة وتقويم وإيحاء، ويشكّل قابيل بوصفه قبيحاً وفظيعاً، محور المقبوس. حيث تخَّيم أجواؤه على فضاء المقبوس -والنص بمجمله- وهو مايُهلك رمز الخلاص (المسيح) ومن ثم إمكانية الحياة (العازر). بمعنى أن رمز قابيل ذو بعد ايديولوجي نقيض لليحاة الإنسانية التي يمثلها رمزا المسيح والعازر. أما التقويم المزدوج فيظهر، في الموقف السلبي من شخصية قابيل الأسطورية وماتمثله من قيم لاإنسانية. ويظهر في الموقف السلبي أيضاً من قابيل الرمز الذي يحيل على الديكتاتور. إن هذا الموقف السلبي هو الذي جعل من قابيل قبيحاً وفظيعاً. ولأن محتوى رمز قابيل هو محتوى اجتماعي - سياسي. فإن خطاب الرمز بدا خطاباً أيديولوجياً، بشكل صريح، وكذا هي الحال في المسيح الرمز الذي يحيل على الخلاص المجهَض.
ولايختلف الأمر، في مستوى التقويم الجزئي المباشر، عن المستويات الأخرى، من حيث الخطاب الأيديولوجي، إلا في كونه يقوّم الظواهر والأشياء من خلال جزئية من جزئياتها، بشكل مباشر. وهذا المستوى شائع في مجمل النصوص الحداثية، حيث تتلاحق التقويمات الجزئية لتعطي انطباعاً جمالياً عاماً، عن الإشكالية الشعرية المطروحة، كأن يقول نزيه أبو عفش:
إننا نبكي...
حزينون،
وحيدون،
خراب،
قمر يذوي،
دخان...
نيزك يفرُّ من ملاءة الليل الذي يبكي
مهجورة قلوبنا
كحدوة الحصان فوق حجر يبكي
تآكلت أرواحنا من كثرة الإهمال والسير..
رمادٌ وقتنا...
رمادٌ الأرضُ التي نطلب
أفشينا على مرأى من الخرابة السرَّ
وأخلدْنا إلى الإهمال(25)
وإذا ماأشرنا، أخيراً، إلى أن كل تلك المستويات غالباً ماتجتمع في نص شعري واحد، فإن ذلك يؤكد أن للخطاب الأيديولوجي حضوراً واضحاً، في شعر الحداثة. ولاغرابة في هذا، إذ إنه شعر يتبنى قضية عامة، وهي قضية تثوير الواقع العربي المعاصر. سواء أكان ذلك على الصعيد السياسي أم الأخلاقي أم الفكري. ومن هنا، فإذا مابدا أن الخطاب الأيديولوجي لهذا الشعر هو خطاب معارض، بكل المعاني، لابالمعنى السياسي فقط، فإن السبب الجوهري في ذلك يكمن في تناقض الواقع مع المثل الأعلى للجمال في الفرد والمجتمع معاً، هذا المثل الذي تشكّل الحرية أحد أهمّ شروطه. بمعنى آخر: إن الشاعر الحداثي الذي رأى في الشكل الشعري التقليدي قيداً لحريته الإبداعية، قد رأى أيضاً في الواقع الناجز قيداً للحرية الإنسانية والحيوية الاجتماعية، مما جعله يقوّمه تقويماً أيديولوجياً سلبياً، في إطار موقفه الجمالي العام منه.
وتوكيداً لتقاطع الخطاب الأيديولوجي مع الخطاب الجمالي، في شعر الحداثة، نتوقف بالتحليل عند نص لايبدو أن له علاقة بالخطاب الأيديولوجي. وهو قصيدة لأحمد عبد المعطي حجازي، التي يجسد فيها لحظة هطول الثلج، والاندهاش الجمالي، في تلقّيه، ومايوحي به ذلك . يقول:
البياض مفاجأة،
حين عرَّيت نافذتي
شدَّني من منامي
النديفُ
الذي كان يهطل متئداً
مانحاً كلَّ شيء نصاعته
ومداه الشفيفْ
شدّني
كان دوَّامة من رفيفْ
جذبتني لها، فرحلنا معاً وانطلقنا
نرفرف من غير ظلِّ
ونرقص بين الصعود وبين الهبوط (26)
ثمة لحظة من أشد اللحظات الجمالية كثافة. حيث تذهل الذات عن مشاغلها، حين يفاجئها مشهد الثلج الذي راح يلون العالم بالأبيض، كاشفاً عن نصاعة الأشياء، أو جوهرها الحيوي. وحين يتكشف ذلك الجوهر، أمام الذات، تجد نفسها مأخوذة بلطافة كل شيء. وهو مايدفعها إلى التناغم مع حركة الثلج المتراقصة، والمعبرة عن الفرح الإنساني. لقد انجذبت الذات إلى الثلج، تاركة وراءها أعباءها اليومية (من غير ظل)، ومتمثلة الثلج في حركته الصاعدة الهابطة، فقادها هذا التمثل إلى اكتشاف الجمال من حولها:
يراودنا العشب،
والشجرات العرايا،
ومتكآت النوافذ والشرفات
وأيدي الصغار وأيدي التماثيل
والكائنات المطلّة حول السقوفْ
بياضاً تقلَّب في ذاته
كرفوف من البجعات على نبع ماء
يمسّحن شهبة اعناقهن الطوال
على ريش أجسادهنَّ الوريفْ(27)
فحين اندغمت الذات بحركة الثلج، شعرت بأن كل شيء يتقلب بياضاً في ذاته. حيث العشب والشجر العاري، والبيوت والصغار، وتماثيل الثلج، والصبايا الجميلات. بكلمة أخرى: إن جمال الثلج كشف عن رغبة الذات في شيوع الجمال، مثلما كشف عن نصاعة كل شيء، ولكن:
ثم أشرقت الشمس من فوقنا
فسقطنا معاً
وانحللنا معاً
في رتابة هذا السواد الأليف(28)
مثلما هطل الثلج فجأة، أشرقت الشمس فجأة، ومثلما أحّست الذات بالجمال بشكل مفاجئ سقطت وانحلّت في رتابة القبح الأليف!.
تلك هي القصيدة كاملة، وذلك هو جوها الجمالي. حيث تمكَّن حجازي من أن ينقل المتلقي إلى لحظة من أجمل اللحظات التي تتبدى بها الطبيعة. بمعنى أن النص ينهض من القيمة الجمالية للظاهرة الطبيعية، غير أنه يعيد إنتاجها بما يتلاءم والذات الشعرية. وهو ماجعلها تنطوي على إمكانية إيحائية كبيرة، لايستوعبها مشهد الثلج الطبيعي. ومن ذلك، يمكن للنص أن يحيل على الحلم الجميل، أو العشق المفاجئ، أو لحظة الصفاء النفسي والروحي، أو لحظة الانسجام مع الوجود، أو لحظة التفاؤل المطلق.. إلى آخر ماهنالك من احتمالات إيحائية ممكنة. غير أنها جميعاً تنطلق من هاجس روحي أساسي، وهو الرغبة الملحة في شيوع الحرية والحيوية، وتعارض هذه الرغبة مع الشكل السائد الرتيب (السواد الأليف) نفسياً أو روحياً أو اجتماعياً أو كلها معاً.
لقد بدت الشمس، في النص قبيحة كريهة. إنها شمس سوداء، لاتشرق إلا من أجل تعميق السواد الأليف، أو المعاناة اليومية، في واقع القبح. على حين أن الثلج بدا جميلاً رائعاً، وذلك أنه قد أخرج الذات من رتابة السواد الذي تفرزه الشمس بشكل مستمر وطاغ. ويمكن القول إن رمز الشمس يلقي ضوءاً كاشفاً على أسباب ذلك الفرح المفاجئ بالثلج، فلو لم يكن ثمة معاناة ذاتية -اجتماعية، من هيمنة القبح، لما كان ذلك الفرح المذهل بالجمال، ولو لم تحس الذات بشروق القبح الدائم، لما فرحت بشروق الجمال المفاجئ، الذي يعني غروب القبح بالنسبة إليها. وبهذا، فإن النص يسعى إلى تعميق الإحساس بالجمال، بقدر مايسعى إلى تعميق الإحساس بضرورة نفي القبح وإزالته، وهو مايحيل على أن ذلك الثلج هو الذات الجملية التي تعاني، في واقع القبح، معاناة تراجيدية، وأن تلك الشمس هي السلطة أو القمع، أو الكبت الاجتماعي (وربما تكون هي رمز الأب، من وجهة نظر نفسية). ومن هنا، فإن الشمس قد أشرقت (من قوقنا) أما الثلج، فقد انبثق من داخل الذات (شدني من منامي النديف). فالتناقض المجازي بين الشمس والثلج، ينهض، إذاً، من التناقض الحقيقي بين الجمال والقبح أو بين الحرية والحيوية من جهة، والقمع والسكونية من جهة ثانية.
وبما أن النص ينهض جمالياً من ذلك التناقض، فقد جاءت بنيته الفنية متمحورة حول التناقض والتعارض. حيث نلحظ، في البدء أن ثمة سقوطاً مفاجئاً للسواد (وهو سقوط غائب عن النص)، يقابله صعود مفاجئ للبياض. مما يستتبع تعرية النافذة من الستائر التي تحجب العالم الخارجي عن الغرفة، وخروج الذات من منامها او سوادها الأليف. ليصل النص إلى إشاعة جو صرف من الفرح الأبيض الذي لايعكّره أي عنصر أسود. أي يغيب السواد غياباً تاماً، ويحضر البياض حضوراً تاماً أيضاً. وفي ذروة هذا الحضور، حيث الصبايا- البجعات، يبدأ غياب البياض، وحضور السواد، أو ينحلُّ البياض في رتابة السواد الأليف الذي يغدو هو الأوحد في المشهد الجمالي الأخير من النص. وبهذا، فلحظة الشروق هي نفسها لحظة الغروب في الحالتين، مما يعني أن وجود هذا يلغي بالضرورة وجود ذاك.
بالإضافة إلى أن ثمة تناقضاً بين البياض والسواد، والثلج والشمس، والحيوية والرتابة فإن ثمة انسجاماً وتنامياً بين الثلج، وبقية الأشياء. فالذات قد عرّت النافذة، وتعرّت هي من منامها، ومن ظلها -أو معاناتها- وثمة العشب الذي (يراودنا) أو الذي يتعرى، ويدعونا إلى التعري أيضاً، وثمة الشجرات العرايا، والصبايا اللواتي يكشفن عن شهبة أعناقهن، والكائنات المطلة (أي غير المتحجبة) وقبل كل ذلك، كان الثلج قد انكشف بشكل مفاجئ.
إن هذه الجوقة الطبيعية والإنسانية التي تتعرى مما يخفي جوهرها، تعزف أنشودة الجمال التي يبدعها الثلج، بمعنى أن الثلج هو الذي يقود حركة العري أو الصفاء الروحي. فثمة، إذن، تناغم وانسجام بين حركة الثلج وحركة الأشياء تجاه العري. وهذا التناغم في الحركة هو الذي جعل النص يقول . فالإشراق هو الإنكشاف أو التعري. ولكن هذا التعري هو تعري القبح، أو تبدّيه على حقيقته. فحركة الثلج لم تكشف عن جوهر الجمال في الأشياء فحسب. بل كشفت أيضاً عن جوهر القبح في الشمس بوصفها رمزاً لكل ماهو جائر.
واضح أن التجربة الجمالية التي تقف وراء هذا النص، هي تجربة حسية انفعالية، تمظهرت بشكل حسي انفعالي صوري. وهو ماجعلها تحتمل عدة أنساق من الخطاب: نفسي، وروحي، وسياسي، وجمالي -شكلي، كما جعلها تحتمل عدة إيحاءات بالرغم من صدورها من هاجس موحد. ونحن في هذا المجال، نود الإشارة إلى أن الخطاب الأيديولوجي - السياسي ليس عرضياً في هذا النص. بل إن له شرعيته التي لايمكن تجاوزها. وقد تبدى ذلك في موقف النص من القبح الذي بات أليفاً، في الحياة اليومية، وفي موقفه من الجمال الذي يتعرض للسقوط والانحلال، في رتابة القبح أو السواد الأليف. وهذا الجانب كما يلحظ القارئ هو الأساس في رؤيا النص الكلية، وإن بدا النص أن لاعلاقة له بما هو أيديولوجي، بشكل مباشر.
الأيديولوجية بوصفها نصاً:
لقد درسنا، في الفقرة السابقة، اشتمال الخطاب الجمالي، في شعر الحداثة على الخطاب الأيديولوجي، من دون أن يتحول النص الشعري إلى أيديولوجية. وذلك بالإنطلاق من أن النص تعبير عن التجربة الجمالية، وعن الوعي الجمالي العام للمبدع. ولهذا فإن تقاطع الجمالي مع الأيديولوجية يكاد يكون بدهياً. ولاسيما في حركة شعرية تتبنى قضية اجتماعية وحضارية عامة، كحركة الحداثة. غير أن هذه القضية التي تم التعبير عنها بشكل شعري راق، في الكثير من النصوص الحداثية، كان لها انعكاس سلبي على الكثير من النصوص أيضاً. وغالباً ماكان ذلك يعود إلى طبيعة فهم الوظيفة الاجتماعية في الشعر، والفن عامة. فهل على الشعر أن ينهض بهذه الوظيفة بشكل مباشر، أو عليه أن ينهض بوظيفة جمالية -روحية، تحيل بهذا النحو أو ذاك، على ماهو اجتماعي وأيديولوجي. بمعنى أن فهم وظيفة الشعر على أنها وظيفة أيديولوجية أولاً وأخيراً، قد أدى إلى نفي الشعري، في الكثير من النصوص، وإثبات الأيديولوجي فيها. وهو ما عنيناه سابقاً، من أن النثرية في الشعر، هي حصان طروادة الذي غالباً ما تستخدمه الأيديولوجية للهيمنة على الشعر، من أجل توظيفه، في صراعها الاجتماعي. ولايكون لها ذلك، إلا إذا تخلى الشاعر عن موقعه بوصفه شاعراً، ليجلس على كرسي السياسي أو المنظّر أو الواعظ. مع الإشارة إلى أن النثرية، في الشعر، لاتأتيه من الهيمنة الأيديولوجية وحسب. بل تأتيه أيضاً، وفي الأساس، من الانحراف عن طبيعة التجربة الجمالية، وعن الوعي الذي ينظمها أيضاً، بمعنى أن النثرية في النص الذي من المفترض أن يكون شعرياً، تنهض من الانحراف في التجربة والوعي الجماليين. وينعكس هذا الانحراف في اللغة الشعرية، مثلما ينعكس في الصورة والتقويم والمنطق العام للنص. ونرى أن درجة الانحراف عن الشعرية في النص تتناسب طرداً ودرجة الانحراف عن الجمالي في التجربة والوعي. ولعل هذا مايسوغ وجود جوانب شعرية ونثرية في النص الواحد أحياناً.
وبما أن مجال هذه الفقرة هو الأيديولوجية بوصفها نصاً، فإننا سوف نتبين ذلك الانحراف من خلال استعلاء الوعي الأيديولوجي على عملية الإبداع الشعري. هذا الاستعلاء الذي يدفع الشاعر إلى تحويل أيديولوجيته إلى نص. غير أنه إذ يفعل ذلك، يخسر الجمالي الذي يمكن أن يحيل على الأيديولوجي، بشكل أرقى وأعمق وأدوم، مما يمكن أن يتسم به تحويل الأيديولوجية إلى نص، تستعلي عليه النثرية.
لقد ظهرت الأيديولوجية بوصفها نصاً، في شعر الحداثة، على نمطين اثنين الأول هو النمط السياسي الذي برزت فيه المقولات والشعارات السياسية الخاصة بحزب الشاعر أو أيديولوجيته، بحيث أصبحت مهمة النص مهمة إعلامية وإعلانية في الوقت نفسه، وذلك في إطار كونها مهمة سياسية.
أما النمط الثاني، فهو النمط الذهني - الفكري الذي برزت فيه المقولات والمحاكمات الفكرية والفلسفية. بحيث إن مهمة النص تبدو مهمة فكرية إقناعية، في المقام الأول. مع الإشارة إلى أن هذين النمطين** قد يتدخلان، في النص الواحد، كما قد يستقل النص بنمط واحد بعينه، وذلك بحسب النزوع الفكري أو السياسي العام للشاعر. وفي كل الأحوال، فإن النثرية هي التي تهيمن على النص، ويتبدى ذلك من خلال ميل النص إلى صياغة المقولة الفكرية أو السياسية، لا إلى تجسيد الإحساس الجمالي مع العلم أن ثمة فرقاً بين صياغة المقولة وبين تعميم الخاص تعميماً مجازياً، أو تجسيد المثل الأعلى الجمالي بالخاص.
أما فيما يخص النمط السياسي، وهو النمط الأكثر شيوعاً، لبروز ماهو سياسي، في الواقع العربي من جهة، ولسوء فهم وظيفة الفن من جهة أخرى، فيمكن التوكيد أن إشكاليته تنهض من اعتباره أن الموضوع الهام هو الذي يعطي للنص أهميته الاجتماعية والجمالية والفنية. وغفل عن أن الموضوع العظيم لايعني شيئاً، إذا لم يكن النص في ذاته عظيماً، على الصعيد الفني والجمالي، أي أن إشكاليته تكمن في فهم علاقة الفن بالواقع والأيديولوجية معاً. ولتبيان ذلك نتوقف عند بعض النصوص.
يقول عبد الوهاب البياتي:
أيا جيل الهزيمة، هذه الثوره
ستمحو عاركم وتزحزح الصخره
وتنزع عنكم القشره
وتفتح في قفار حياتكم زهره
وتُنبت، أيها الجوف الصغار، برأسكم فكره
سيغسل برقُها هذي الوجوه وهذه النظره
ستصبح هذه الحسره
جسوراً وقناديل
زهوراً ومناديل
ويصبح باطل الحزن أباطيل
وتزهر في فم الشعب المواويل
ستهوي تحت أقدامك، ياجيلي، التماثيل
وتسقط عن رؤوس السادة التيجان
كأوراق الخريف، ستسقط التيجان
وتجرفها رياح الكادحين لهوة النسيان(29)
واضح أن البياتي لم يعبر، في هذا النص، عن تجربة جمالية، ولم ينطلق من وعيه الجمالي، إلى تناول موضوع التغيير الثوري. إنما السائق الأوحد فيه هو الوعي الأيديولوجي - السياسي. ولهذا فإن النص راح يستعرض الأعمال التي سوف تقوم بها الثورة، من محو عار الانهزاميين الذين شوهوا الواقع الاجتماعي بأباطيلهم، ومن إسقاط الطبقات الحاكمة، ومن إعلان دولة الكادحين .. إلى آخر ماهنالك من مقولات أيديولوجية انطوى عليها النص.
وبما أن البياتي قد انحرف عن الجمالي في التجربة والوعي، فمن البدهي أن ينحرف عما هو شعري، ويقع فيما هو نثري بحت. وهو ماظهر في لغة النص التي هي لغة نثرية سياسية، تخلو من أي إحساس جمالي، كما تخلو من التعامل المجازي التخييلي، مع الأشياء. وإذا مااستخدمنا مصطلح كمال أبو ديب (30)، فإن القول بان اللغة المستخدمة لاعلاقة لها بما هو شعري، ينطلق من ان هذه اللغة ذات دلالات مباشرة ومتداولة ومحددة، ولاتنطوي على أي نوع من المفارقة. فكل مافيها متوقع، ومبتذل في الحياة اليومية. وذلك على الرغم من أن لغة النص قد انطوت على عدة مجازات. غير أنها من النوع الشائع المبتذل، لا في الشعر العربي، عبر تاريخه فحسب. بل في الحياة المعاصرة اليومية أيضاً. من مثل (ستمحو عاركم، سيغسل برقها، وتجرفها رياح الكادحين...). وإضافة إلى ذلك، فقد كثرت أدوات الربط بين أشطر النص، مما يعني ان الشاعر أراد أن يقول شيئاً مترابطاً متسلسلاً فيما بينه منطقياً. ومن المعروف أن حاجة النص الشعري إلى أدوات الربط أقل، بما لايقاس، من حاجة النص النثري إليها. وذلك أن الأول ينهض من الترابط الشعوري الجمالي، لا من الترابط المنطقي أو الترابط السردي.
وهذا يحيلنا على المنطق الذي هيمن على النص، وهو منطق عقلي بحت. فالثورة سوف تلغي الممارسات الشائنة للطبقة الحاكمة، وترفع الظلم والحيف عن الكادحين. ولهذا فإن القناع (القشرة) الذي تتقنع به تلك الطبقة سوف يزول. وهو لاينعكس إيجابياً على الكادحين فحسب. بل ينعكس أيضاً على تلك الطبقة التي يمكن أن تفكر وتعمل بشكل أفضل. وذلك بعد أن يزول استعلاؤها (النظرة) على طبقات الشعب. ومن هنا، فإن البلاد سوف تزدهر، ويصل الشعب إلى الرفاهية (المواويل)، ولايبقى هنالك سادة وعبيد. فالكادحون بثورتهم سوف يجعلون من التمايز الطبقي شيئاً من الماضي (هوة النسيان).
ذلك هو منطق النص. وهو، كما نلحظ، منطق عقلي بحت. لاأثر فيه للمنطق الجمالي الذي يقوم أساساً على العلاقة الشعورية بين الأشيا
♥► أيديولوجيا التجربة الجمالية في الشعر الحداثي ◄♥