الجنس : العمر : 44 المدينة المنورة التسجيل : 21/10/2011عدد المساهمات : 230
موضوع: التنوع اللغوي العالمي الجمعة 11 نوفمبر 2011, 2:53 pm
التنوع اللغوي العالمي
إن سلف كل لغة قد جاء به إلى منطقته رواد أو مزارعون أو تجار أو نخبة من الغزاة. وتوضح الدراسات المتعددة الجوانب المتداخلة المواضيع أدوار هذه الفئات على التوالي.
يروي المؤرخ الإغريقي <هيرودوتس> Herodotus أن <بسامتيك> Psamtik، أحد فراعنة مصر في القرن السابع قبل الميلاد، أمر بتنشئة طفلين حديثي الولادة في عزلة إلى أن تُسمع منهما كلماتهما المنطوقة الأولى معا. فكان أول لفظ نطقا به هو كلمة بيكوس bekos. واكتشف كتبة فرعون الذين سجلوا هذه الكلمة أن معناها «الخبز» باللغة الفريجية phrygian، وهي لغة بلاد الأناضول القديمة في آسيا الصغرى. فاستنتجوا أن الفريجية كانت لغة الأرض الأصلية. ولسوء الحظ فإن هذه التجربة الخيالية وضعت المقاييس للبحوث اللاحقة على ما يبدو. وبحلول القرن التاسع عشر كان التكهن حول أصل اللغات قد وصل إلى درجة من السذاجة الفارغة بحيث إن الجمعية اللغوية الفرنسية حظرت طرح هذا الموضوع في مناقشاتها.
أما اليوم، فإن ما أُحرز من تقدم في علوم الآثار والوراثة واللغويات نفسها بدأ يفتح الطريق أمام تفسيرٍ مفهومٍ لتنوع لغات العالم. ومازالت جوانب كثيرة من هذه المشكلة مثار جدل وخلاف. فأي محاولة للوصول إلى نتيجة واحدة لن يسعها أن تكون أكثر من تجربة مؤقتة. غير أن الملامح الأساسية العريضة لعملية تطور اللغات قد بدأت تتبين.
ويقدم التاريخ أساسا متينا لإيجاد فرضية معقولة. فقد أدرك اللغويون ـ على امتداد أكثر من قرنين من الزمن ـ أن لبعض اللغات تشابها في المفردات والقواعد النحوية وتشكيل الكلمات واستعمال الأصوات، مما يحمل على الاعتقاد بأنها لا بد أن تكون قد نجمت عن سلف مشترك. فأطلقوا على هذه القرابة السلفية، الناشئة عن تشابه الخصائص، اسم الأُسر اللغوية. وأشهر تصنيف مبكر من هذا النوع أوجده في عام 1786 السير <W.جونز> الذي كان قاضيا بريطانيا في المحكمة العليا في كلكتا. وقد لاحظ العلاقات بين السنسكريتية والإغريقية واللاتينية والقوطية والفارسية، فأوحت له الكلمات والخصائص النحوية المشتركة أن هذه اللغات قد «نبعت من أصل مشترك.» وتُعرَف هذه الأسرة في الوقت الحاضر باسم الأسرة الهندية ـ الأوروبية.
أخذت الأجيال اللاحقة على عاتقها مهمة تحسين وتشذيب الأساليب التحليلية التي استخدمها جونز. وفي الوقت الراهن يقوم فرع الدراسات اللغوية ـ التاريخية الذي نشأ عن البحوث الهندية ـ الأوروبية بإجراء مقارنات منهجية منتظمة بين اللغات التي تعود إلى أسرة واحدة. وهذه المقارنة تُمكِّن العاملين في هذا الحقل من إعادة تركيب لغة سَلَف لغوي مفترض يُسمى اللغة البدئية الأولى protolanguage.
إن مسألة الاستدلال على أنماط التحدر اللغوي، عن طريق معلومات ومعطيات تُلاحظ في الوقت الراهن، لهي مشكلة تواجه علم الأحياء التطوري أيضا. فقد حاول علماء الأحياء، بصورة تقليدية، أن يعيدوا تركيب العلاقات الجينية الوراثية بين الأجناس والأنواع بدراستهم الأدلة التشريحية والفيزيولوجية. وامتد البحث في العقود الأخيرة إلى مستوى الجزيئات، حيث يقوم الباحثون بسبر خط تحدر متواليات محددة من النويدات (النيوكليوتيدات) nucleotides في حمض (الدنا) DNA. وفي كل حالة، تفضي الدراسة المنهجية المنظمة إلى تصنيف حيوي taxonomy يعتمد بصورة كلية على المعلومات الحالية القابلة للملاحظة. ويتصف هذا التصنيف باعتماده على المظاهر العامة.
وفي غالب الأحيان يمكن تبيان التشابه النسبي بين الوحدات التصنيفية الحيوية في رسم بياني على شكل شجرة. ومنذ أيام <C. داروين>، كان معظم العاملين في فروع المعرفة التاريخية، بما فيها العلوم اللغوية التاريخية وعلم المستحاثات، يميلون إلى معادلة مثل هذه الشجرة بالعملية التطورية التي أدت إلى الوضع الحالي. وبعبارة أخرى، فإنهم قد سوَّوا بين الشجرة الصوتية ـ اللفظية وشجرة النشوء العرقي ـ النوعي.
ويستند هذا الدمج التركيبي إلى قوة عدة افتراضات مركزية أهمها أن التغير التطوري يحدث وفق معدل ثابت ومطرد. فمع مرور الزمن نجد أن الأشكال التي انفصل بعضها عن بعض يتشعب كل منها متباعدا عن الآخر، ومن ثم تنشأ التجديدات في المفردات.
وهذا الافتراض لمعدل تغير ثابت نسبيا له مدلولات مهمة جدا؛ لأن التغير التفاضلي يطمس نمط التشعب الفرعي. وتَصوَّر، مثلا، لو أن الدانمركية قد انشقت عن الإنكليزية والألمانية قبل أن يستقر تشعب هاتين اللغتين نفسيهما كفرعين مستقلين، فإن علم التاريخ النوعي phylogeny عندئذ سيضع الإنكليزية والألمانية على فرع، والدانمركية على فرع آخر. وإذا كانت الألمانية والدانمركية لم تشهدا تغيرا يذكَر، في حين تغيرت الإنكليزية كثيرا، فإن اللغوي الذي لا يمتلك نقاطا أخرى للمقارنة قد يخطئ فيصنف الألمانية والدانمركية معا، منفصلتين عن الإنكليزية.
أنتشرت اللغات من خلال أربع عمليات (من أعلى إلى أسفل): الهجرات الأولية والتوسعات السكانية للمزارعين والإغارات على المناطق المجاورة للقطب الشمالي ثم الفتوحات الواسعة النطاق.
ومن الافتراضات الأخرى أن التحدر من سلف مشترك هو الذي يفسر حالات الشبه، وليس العوامل المستقلة التي تفرض التقارب. وفي السياق اللغوي يحدث التقارب عندما تؤثر اللغات المتعاصرة contemporaneous بعضها في بعض الآخر طريق استعارة الكلمات والعبارات والأشكال النحوية. فالاستعمال شبه العالمي الذي يكاد يعم أوروبا الشمالية كلها للاصطلاح الأمريكي O.K. (حسن، مضبوط، موافق) هو مثال على التقارب. وبما أن الاستعارة نادرا ما تؤثر في أكثر العناصر أساسية في اللغة، فإن العاملين في حقلها يستطيعون في العادة أن يتعرفوها. وتنحصر المشكلة ههنا في إقامة البراهين القياسية.
كيف انتشرت اللغات
الهجرة الأولية البدئية يظهر أن البشر الأوائل قد انتشروا من إفريقيا إلى بقية أرجاء العالم قبل نحو مئة ألف عام. والآثار اللغوية الباقية من هذه الهجرة تشمل اللغات الباسكية والقفقاسية والكويسانية والأسترالية و«الهندية ـ الهادية» والأمريند.
الانتشار الزراعي إن اكتشاف الزراعة في أمكنة عديدة جعل السكان فيها يتوسعون. ونتيجة لذلك فإن لغات المزارعين انتشرت واختلفت لتشكل عائلات كبرى كالهندية ـ الأوروبية، والصينية ـ التّبِتِية والأوسترونيزية والأفروآسيوية.
الانتشار المتأخر ذو الصلة بالمناخ أدى الدفء، الذي شمل العالم قبل عدة آلاف من السنين، إلى فتح مناطق في شمال خط العرض 54 للرواد الذين تطورت لغاتهم إلى أسر تعرف بالأورالية اليوكاگيرية والتشوكتشية ـ كَمْتشتَكيّة والإسكيمو ـ الأليوتية والنا ـ دين.
السيطرة النخبوية إن تطور مجتمعات معقدة مكَّن أقليات وافدة من غزو تجمعات سكانية أخرى وفرض لغاتها عليها. وقد انتشرت أسرة اللغات الألطية بهذه الطريقة، وكذلك فعلت بعض اللغات المنتسبة إلى أسر ذات وجود قديم كاللغات الهندية ـ الأوروبية والصينية ـ التِّبِتِيّة.
وفي مجال الدراسات اللغوية، نجد أن الحماس لوجهة نظر عالمية حول تطور اللغة لا يحظى بالإجماع. فقد صار من الممكن، وعلى مدى سنوات عدة، تمييز مذهبيْن فكرييْن متعارضيْن بين الباحثين في هذا الميدان: فهناك «التجزيئيون» وهناك «التجميعيون». فالتجزيئيون يميلون إلى التركيز على الفوارق التي تجعل اللغات تبدو غير متصلة وإلى تجزيء التصنيف إلى وحدات صغيرة مستقلة. وفي غمرة جهودهم لاستبعاد العلاقات الزائفة، يطالبون بعدم تصنيف أي مجموعة من اللغات كأسرة إلا عندما يتضح وجود سلسلة من وجوه الشبه والتقارب بينها. كما أنهم يصرون على استخدام حالات التماثل هذه لإعادة تركيب اللغة البدئية الأم التي اشتقت منها هذه الأسرة المفترضة. أما التجميعيون، من جهة أخرى، فيقبلون بمعايير تسمح لهم بتجميع لغات كثيرة معا في أُسَر قليلة. وعلى الرغم من أن بعض «التجميعيين» يقومون بإعادة تركيب اللغات البدئية الأولى، فإن آخرين منهم يعتبرون هذه الخطوة سطحية.
ومع ذلك فإن أُسَرًا لغوية متعددة ومتنوعة قد حظيت بالقبول، ومنها الأسرة الهندية ـ الأوروبية، والأفروآسيوية (التي كانت تسمى سابقا الحاميّة ـ الساميّة) والمؤلفة من اللغات السامية ومعظم لغات إفريقيا الشمالية، والأسرة الأورالية Uralic، التي تشمل اللغتين الفنلندية والهنغارية. ولا تمتلك المجموعات اللغوية الأخرى الدرجة نفسها من المصداقية أو المشروعية أو الوضوح.
في عام 1963، قام العالم اللغوي الأمريكي <H .J. گرينبرگ> (من جامعة ستانفورد) بخطوة مهمة نحو نظرة موحدة، وذلك حين صنّف لغات إفريقيا إلى أربع أسر، فقط، مهيمنة كبرى، هي: الأفروآسيوية والكويسانية khoisan، والنيجر ـ كردفانية Niger - Kordofanian والنيلية ـ الصحراوية. والواقع أنه لم يضطلع بعملية إعادة البناء التاريخي بالطريقة المقارنة التي يفضلها كثير من اللغويين. بل قام بدلا من ذلك باستخدام طريقة من التحليل المتعدد الأطراف. وهي طريقة تفحص في الوقت نفسه عددا من الكلمات في لغات كثيرة، بدلا من مقارنة الكلمات في لغتين فقط.
وعلى الرغم من تحفظات التجزيئيين، فقد أخذ كثير من الباحثين يتبعون تصنيفات گرينبرگ، الذي قام في الآونة الأخيرة بتطبيق الإجراء ذاته على لغات الأمريكتين، فحدد ثلاث أسر مهمة أو أسر كبرى macrofamilies [انظر:Linguistic Origins of Native Americans,
J. H. Greenberg - M. Ruhler;
Scientific American, November, 1992]. وقد لقيت اثنتان منهما تأييدا واسعا، وهما لغتا الإسكيمو ـ أليوت Eskimo-Aeutl و نا ـ دين(1) Na-Dene، على الرغم من أن الفئة المتبقية لديه ـ التي سماها «أمِريند» Amerind، والتي تضم معظم اللغات الأصلية المحلية في الأمريكتين في أسرة كبرى ـ قد تعرضت لانتقاد واسع أخذ يتطور أحيانا إلى جدل حاد، بل وجارح.
وبصفتي عالم آثار، فإنني أفضل التريث في إصدار حكم حول صحة هذه الأسر المصنفة، وحول عدد آخر غيرها مما دعا إليه ودافع عنه اللغوي المستقل <M .روهلن>، الذي هو من التجميعيين بلا شك. وبدلا من ذلك فإنني أضع التسميات الأسرية المثيرة للخلاف بين «أقواس اقتباس صغيرة» [انظر الخارطة في الصفحة المقابلة]، تاركا مسألة طبيعتها مفتوحة، في حين أحاول حل لغز مادي ملموس أكثر، وهو: كيف حدث هذا التوزع؟
هناك حالتان أسفر عنهما التقدم الذي أُحرز في علم الآثار في السنوات الأخيرة تقترحان إجابتين لهذا التساؤل، تستند إحداهما إلى تطور نوعنا في حين تستند الأخرى إلى تطور حضارتنا.
إن الكائنات البدائية الأولى اللبونة التي تسير منتصبة ـ والتي يمكن اعتبارها الأسلاف المبكرة المباشرة للإنسان، والمصطلح على تسميتها hominids ـ قد تحسن فهمنا لها كثيرا عما كان عليه الأمر قبل عشرين سنة. فلا أحد يشك في أن الكائن المعروف باسم أوسترالوپثيكوس(2) Australopithecus قد ظهر في إفريقيا قبل أربعة أو خمسة ملايين عام. وفي إفريقيا أيضا، قبل نحو 1.6 مليون عام تطور سلفنا جميعا، وهو الكائن البشري المنتصب القامة Homo erectus الذي انتشر إلى آسيا وأوروبا، حيث تم العثور على أحافيره ومصنوعاته اليدوية في كلتا القارتين. أما نوعنا نحن، أي الإنسان المفكر الذكي Homo Sapiens، فمن المؤكد أنه انشق عن الكائن المنتصب القامة ووصل إلى شكله الحالي ـ الإنسان الذكي الحكيم H. Sapiens Sapiens قبل مئة ألف عام.
يتفق معظم علماء الآثار في الوقت الحاضر على أن عملية ظهور الإنسان هذه قد حدثت في إفريقيا وحدها. وتذهب نظرية بديلة إلى أن عملية التحول من كائن منتصب إلى كائن ذكي لم تقتصر على إفريقيا وإنما حدثت فوق منطقة أوسع فشملت آسيا وربما أوروبا. غير أن الأدلة الوراثية تميل حاليا إلى تفضيل نظرية الظهور «من إفريقيا». فباتباع هذا المفهوم إذًا، يمكننا أن نتصور ظهور الكائن المفكر في إفريقيا قبل مئة ألف عام، والانتشار التدريجي لجنسنا في أرجاء العالم القديم. وقبل أربعين ألف عام كان الإنسان الحديث قد استعمر السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط وجنوب آسيا وأوروبا وآسيا الوسطى والشرقية وغينيا الجديدة وأستراليا. وربما، كان الرواد الآسيويون، في فترة سابقة لا تزيد على 000 37سنة ولا تقل عن 000 16سنة من الآن، قد عبروا مضيق بيرينگ Bering وبدأوا بالاستقرار في العالم الجديد. وعلينا أن نفترض أن أولئك الناس جميعا كانوا يتحدثون بلغة، أو بلغات ما، حتى ولو لم تكن لدينا أي فكرة واضحة عما كانت تشبهه تلك اللغات.
إن الشجرات العائلية، المستقاة من تواترات الصبغيات الوراثية (الكروموسومات) لتجمعات مختلفة من سكان العالم، تشكل كتلة مستقلة من الأدلة كي تقارن بها نماذج لغوية وأثرية وعرقية بشرية من عصور ما قبل التاريخ. وقد تم تشكيل هذه الشجرة استنادا إلى عمل قامت به <.L .J ماونتين> وزملاؤها في جامعة ستانفورد.
أما التطور الحديث الآخر في علم الآثار، الذي له صلة بهذا الأمر، فهو تأكيد آليات التطور الحضاري. وعلى وجه الخصوص، يبدو أن علماء الآثار لم يعودوا مستعدين لتفسير كل تغير في الحضارة البشرية باعتباره نتيجة هجرة غامضة غير واضحة المعالم. فقد تخلوا عن تلك المعادلة التبسيطية التي تربط بين لغة وحضارة و«بشر». فإذا جاز للهجرة أن تُستخدم كتفسير لتغيّر في فن الزخرفة، أو لظهور نظام ديني جديد أو بروز لغة جديدة، فيجب أن توجد بعض الأدلة تبين العلاقات التي أدت إلى نشوئها، وبعض الفهم للعمليات الاقتصادية والاجتماعية التي رافقتها.
هناك أربع عمليات رئيسية تسمح للغة ما أن تسود كلغة التكلم في منطقة معينة وهي: الشروع في استيطان أولي لمنطقة غير مأهولة؛ والتشعب (كما نوقش آنفا)؛ والتقارب (وقد نوقش آنفا أيضا)؛ والاستبدال، حيث تحل لغة وافدة محل لغة أخرى.
فإذا لم يحدث الاستبدال، فإن التشعب يمثل السبب الأول في التغير. فتتخذ خريطة العالم اللغوية شكل فسيفساء من الوحدات اللغوية الصغيرة. فتختلف كل لغة عن جاراتها اختلافا بيِّنا بحيث ترتقي إلى مصاف الأسرة المنفصلة، أو بتعبير أدق كلغة منعزلة. والواقع إن هذه الفسيفساء ظاهرة في اللغات الأصلية في أستراليا الشمالية، حيث نجد عددا كبيرا من الأسر اللغوية تحتل رقعة صغيرة. (وإلى الجنوب من ذلك في أستراليا هناك أسرة لغوية وحيدة شاملة هي أسرة پاما ـ نيونگان Pama-Nyungan. وليس هناك تفسير لسعة انتشارها بهذه الصورة الخارقة للعادة). وهذا النوع من النمط الفسيفسائي موجود بين الفلاحين العاملين في بساتين غينيا الجديدة. وعندما يدرس المرء خريطة اللغات الأصلية في كاليفورنيا وأجزاء من أمريكا الجنوبية (مع تجنب فئة الأمريند (الأمريكية ـ الهندية)، في تصنيف گرينبرگ في الوقت الحالي) يتكون لديه انطباع مماثل عن هذه الفسيفساء اللغوية، والحال كذلك في القفقاس.
غير أن جزءا كبيرا من خريطة العالم يختلف عن ذلك تماما، فهناك مناطق شاسعة من الكرة الأرضية تحتل كلا منها أسرةٌ لغوية واحدة، من النوع الذي لا يمكن أن يعزى نشوؤه إلا إلى عملية استبدال، وأقترح ثلاثة أسباب بسيطة لهذا النمط.
أولا: هناك أسر لغوية قليلة حققت انتشارها الحالي عبر تأثير سيطرة نخبوية. وفي هذا النموذج، تسيطر أقلية وافدة على أذرع السلطة وتُنصِّب نفسها كأرستقراطية متعالية فتضفي على لغتها من النفوذ ما يغري السكان الأصليين بتبنيها وتفضيلها على ألسنتهم ذاتها. وبما أن مثل هذه الحالات من سيطرة الأقلية توحي بأن للجماعة الوافدة شيئا من التنظيم المركزي، فإن مثل هذه النظرية لا يمكن أن تنطبق إلا في العصور المتأخرة لما قبل التاريخ أو في العصور التاريخية عندما بدأت تظهر المجتمعات المقسّمة إلى طبقات وفيها طبقات عليا.
وعلى سبيل المثال، لم يتم تبني اللغة الصينية في جنوب الصين إلا في العصور التاريخية، وذلك خلال التوسع العسكري للامبراطورية الصينية. ويتفق مع هذا المبدأ أيضا انتشار اللغة اللاتينية، وكذلك انتشار اللغات الهندية ـ الأوروبية عبر إيران والهند الشمالية والباكستان، الذي يمكن عزوه إلى نشوء البداوة الرعوية المتنقلة في الألف الثاني قبل الميلاد. وسادت اللغات الألطية Altaic في آسيا الوسطى في العصور الوسطى، عندما اجتاحت المنطقة الحروب التي استُخدمت فيها الخيل وغيرها من حيوانات الركوب.
ويمكن اعتبار نشوء أسر لغوية في مناطق شاسعة نتيجة لانتشار سكاني من نوعين مختلفين، على الرغم من أن هذه الحالات قد حدثت أيضا بعد نهاية العصر الجليدي الأخير، قبل نحو عشرة آلاف سنة. وقد انطوت حالات الانتشار على إدخال الزراعة من جهة، والتغلغل في المناطق غير المأهولة ـ بسبب تغيرات مناخية ـ من جهة أخرى.
وكانت حالات الانتشار الحديثة ذات الصلة بالمناخ تسعى إلى ملء المناطق الخالية إلى الشمال من خط عرض 54، التي كانت صالحة للسكن في الفترة الأخيرة الباردة من العصر الحديث الأقرب Pleistocene. ولعل المناطق التي يقطنها، حاليا، المتكلمون بلغات الإسكيمو ـ أليوت لم تُسْكن لأول مرة إلا قبل بضعة آلاف من السنوات. أما اللغات الأورالية ـ اليوكاگيرية Uralic-Yukaghir والتشوكتشية ـ الكَمْتْشَتْكِيّة chukchi-kamchatkan فلا بد أنها احتلت مناطقها الحالية في وقت أقدم من ذلك.
أما حالة لغات الـ «نا-دين» فتبدو أكثر تعقيدا. وكما اقترح گرينبرگ، فإن أهلها ربما وصلوا إلى أمريكا الشمالية قبل الناطقين بلغات الإسكيمو ـ أليوت، ولكن قبل بدء الاستيطان الأولي في الأمريكتين. وفي اعتقادي إن طريقة حياتهم تمثل تكيفا مبكرا قديما مع بيئة التندرة tundra. وفيما بعد، عندما أدى المناخ أو العوامل البيئية إلى جعل المنطقة أقل تقبلا لسكناهم، انتقلوا إلى الجنوب. فتوغل بعض الناطقين بلغة «نا ـ دين» البدئية الأصلية حتى أريزونا ونيومكسيكو. إن السيطرة النخبوية، التي ضخَّم من شأنها ركوب الخيل، تفسر وجود حضارات لها علاقة بهذه المجموعة اللغوية في كثير من أرجاء القارة.
ويبدو أن أهم عامل منفرد في تطور أسر اللغات السائدة في مناطق شاسعة هو الاستبدال عن طريق الانتشار الزراعي. وحسبَ هذه النظرية، تبدأ الأسرة اللغوية حياتها العملية كلسان وحيد ينطق به غزاة متنقلون يعيشون في بيئة حيوية تحتوي على نباتات (وربما حيوانات) طيّعة للتدجين. ومن ثم يطور الغزاة المتنقلون حضارة زراعية تعيلهم في سكن مستقر، يصبح مواتيا لزيادة معدلات الولادة، وانخفاض معدل وفيات الأطفال، وكثافة أكبر في إنتاج الأغذية. وتتزايد كثافة السكان، فتضمن السيادة المحلية للمزارعين ولِلغتهم.
وفي بعض الحالات، يمكن الافتراض أن المحاصيل والقطعان المدجَّنة مع الأساليب التي تدار بها، قد تثبت أنها مناسبة للنقل والغرس في بقع بيئية جديدة ملائمة لها، وفي مثل هذه الظروف فإن لغة أو لغات المناطق الصغيرة التي تشكل نواة الاستيطان ستنتقل مع النباتات والحيوانات المدجنة. وتنتقل اللغات مع توسع المزارعين منتشرة على شكل موجات بطيئة من التقدم تعرف باسم الانتشار النصفي. أو أن لغة المزارعين، ومعها الاقتصاد الزراعي الجديد، يمكن أن تتبناهما جماعات مجاورة ممن تقوم حياتهم على الصيد والجمع، وذلك عبر التلاقح الثقافي. وهناك فوارق مهمة بين التأثيرات الوراثية لهاتين الآليتين.
ومن المقبول الآن على وجه العموم أن انتشار لغات البانتو Bantu في إفريقيا (ضمن الأسرة النيجرية ـ الكردوفانية) قد غذّاه ودعّمه الانتشار النصفي البطيء المتدرج. وقد استعمل هذه الحجة نفسها< P .پيلوود> (من الجامعة الأسترالية الوطنية) ليس للغات الپولينيزية Polynesian وحدها بل كذلك للغات الأوسترونيزية Austronesian بصورة عامة [انظر:
The Austronesian Dispersal and the Origin of Languages,
Peter Bellwood;
Scientific American, July 1991].
ولقد جادلت في هذه القضية بشيء من التفصيل بالنسبة للغات أوروبا الهندية ـ الأوروبية [انظر: «أصول اللغات الهندية ـ الأوروبية»، مجلة العلوم ، العدد 2 (1992) ، ص 28].
وقد جادل بعض المؤلفين في أن العملية في شمال غربي أوروبا كانت أثرا من آثار التلاقح الثقافي أكثر منها نتيجة لتنقل السكان؛ ومع ذلك فإن كان الأمر على ما يصفون فإن التأثيرات اللغوية ربما كانت واحدة في آخر الأمر. ويمكن طرح مناقشات شبيهة بذلك تماما بالنسبة للغات الأفروآسيوية، وربما للغات العِيلامية ـ الدراڤيدية Elamo-Dravidian كذلك، وللانتشار الأولي للغات الألطية داخلَ آسيا. وبالطبع فإن هذه اللغات، لا سيما التركية منها، قد تم نقلها إلى أبعد من ذلك بكثير، على يد السيطرة النخبوية للبدو الرعاة المتنقلين على ظهور الخيل.
وفي الآونة الأخيرة اقترح <W .F .C .هايام> (من جامعة أوتاگو) أنه بالإمكان سوق حجج شبيهة بهذه لتنطبق على اللغات الأوسترو-آسيوية لجنوب شرقي آسيا (الموندا والمون ـ خمير Munda and Mon-khmer). وترتبط هذه المجموعة بشكل مركز في جنوب شرقي آسيا بتوطين زراعة الأرز. أما انتشار اللغات الصينية ـ التبتية، فيبدو بادئ الأمر مرتبطا بتوطين زراعة الدخن وغيره من الحبوب في وادي النهر الأصفر، ولم ترتبط بتوطين زراعة الأرز إلا في وقت لاحق.
وطبيعي أن يتعين طرح قضية هذا النوع من التوسع الزراعي بالتفصيل في كل حالة من الحالات. ومثل هذه الأبحاث تقع ضمن اختصاص علم الآثار المعاصر. والواقع إنه من الممكن، بصورة عامة، تعيين الموطن الأصلي للنبات أو الحيوان المدجَّن موضع البحث، مع تحديد التاريخ التقريبي للتدجين، وكذلك توثيق السجل المادي لعملية الانتشار. أما الآثار والعواقب اللغوية فهي قضية استدلال طبعًا: فلغات ما قبل التاريخ لم تترك آثارا في سجل علم الآثار.
تسبق تواريخ هذه الانتشارات الزراعية، التي تتحسن باطراد عملية تحديدها بفضل استخدام الكربون المشع، تلك التواريخ التي عيّنها اللغويون للمرحلة المبكرة من الأسر اللغوية المدروسة. ومع ذلك فلم يتم قط إقرار الأساس المنطقي للتأريخ اللغوي بوضوح. إذ ليست هناك طريقة موثوق بها لتأريخ أصول اللغات الأولى بصورة مستقلة.
ماذا عن الأسر اللغوية التي لم يكن بالإمكان نشرها على أيدي أناس كانوا يعملون وفق تغير حديث نسبيا في المناخ، أو ثورة في الزراعة أو موجة من الغزو؟ إن مثل هذه الألسنة المتبقية، المبعثرة في قطع ومِزَق في أنحاء خريطة العالم لا بد أنها هي الأخرى قد وصلت إلى مجالاتها الحالية منذ زمن طويل، خلال الانتشار الأولي للإنسان الحديث. ومن بين هذه الأسر اللغات الكويسانية والنيلية الصحراوية في إفريقيا، واللغات القفقاسية الشمالية والجنوبية، والباسك Basque، واللغات الأسترالية، وفسيفساء اللغات التي ربما لم تكن لها علاقة بها في غينيا الجديدة («الهندية ـ الهاديّة» Indo-Pacific) ولغات ما قبل النا ـ دين في الأمريكتين. وهذه الأخيرة من الاتساع بحيث تشمل بلا شك أسرا فرعية عديدة تحكمت في انتشارها في الغالب عمليات لاحقة بما في ذلك الانتشار الزراعي.
ترجع الأدلة المباشرة حول اللغات القديمة إلى نحو 5000 سنة، وأول السجلات المكتوبة كانت، كهذه اللوحة التصويرية التي تستعمل فيها الصور كرموز للكلمات، ومصدر هذه اللوحة من الوركاء(3) Uruk.
ويستطيع علم الجينات الجزيئي أن يختبر، على الأقل، بعض عناصر هذا التفسير الشامل لتوزع اللغات على الأرض. ويقتضي أحد مناهج هذه الطريقة مقارنة مدى تواتر الجينات في تجمعات سكانية مختلفة، ثم تحويل هذه المعلومات إلى شجرة عائلية تمثل أغصانها المسافات الوراثية. وعندئذ يستطيع المرء أن يرى إلى أي مدى تؤكد العلاقات الوراثية التنبؤات الناشئة عن التفسير المذكور سابقا. إن نظرية نشوء أصول جنسنا من إفريقيا تلقى تأكيدا قويا من شجرة العائلة القائمة على عينات من الدنا DNA مأخوذة من السكان الأحياء .
من الواضح أن الانتشارات الأولية للسكان إلى داخل الأراضي غير المأهولة تستتبع تحولا كاملا في الجينات، فالانتشارات الزراعية تنطوي على تدفق مهم للجينات عندما تتقدم عن طريق تشعب جزئي أو فرعي. أما تلك التي تتكاثر بعملية تلاقح ثقافي فإنها تترك آثارا جينية أضعف. أما استبدال اللغة عن طريق السيطرة النخبوية فهو يشمل أيضا تدفقا للجينات ولكن على نطاق محدود جدا. ومن الملاحظ في حالات كهذه أن الذكور هم الذين يسافرون بحيث إن التأثيرات في الدنا المتقدّرة DNA mitochondrial (التي تورث من الجانب الأنثوي فقط) تكون في حدودها الدنيا.
كانت الحالة التي درست بأكبر قدر من العناية هي حالة انتشار الزراعة إلى أوروبا، التي توضح خريطتها توزع التواترات الجينية على طول سلم تدريجي واضح يمتد من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي. وهناك عمل إحصائي حديث قام به <R .R .سوكال> وزملاؤه (من جامعة نيويورك الحكومية في ستوني بروك) يقدم أدلة جيدة للربط بين جزء مهم من هذا السلم التدرجي وبين انتشار الزراعة من بلاد الأناضول. وعلى الرغم من أن هذه العلاقة المتلازمة تؤيد الرأي القائل بأن مجموعة متنامية من المزارعين جاءت بالزراعة إلى مناطق جديدة، فإنها لا تثبت أن أولئك المزارعين كانوا ينطقون بواحدة من اللهجات الأصلية للغات الهندية ـ الأوروبية.
في الآونة الأخيرة قام الإحصائي<G .باريوجاني>، (من جامعة پادوا) بإجراء تحليل مقارن لأسرٍ لغوية أخرى يمكن تعليل توزعها بالانتشارات الزراعية من السواحل الشرقية للأبيض المتوسط (مثل الأسر الأفروآسيوية والعيلامية ـ الدراڤيدية، والألطية المبكرة) فوجد وضعا مماثلا. بل جرت دراسات أكثر إقناعا من ذلك في منطقة المحيط الهادي، حيث يُظهر انتشارُ اللغات البولينيزية علاقات متلازمة مع الأدلة الجينية بطريقة لافتة للنظر. غير أن العلاقة في هذه الحالة ليست مثيرة للاستغراب، لأن البولينيزيين كانوا يحتلون جزرا غير مأهولة. ولذلك فإن حركة تنقلهم تنطبق عليها صفة الانتشار الزراعي، والانتشار البدئي الأولي في الوقت نفسه.
وتأتي أدلة إضافية داعمة من إفريقيا من عمل قام به <L .إكسكوفييه > (من جامعة جنيڤ) وزملاؤه. لقد وجدوا تماثلا كبيرا بين نوعيات مختلفة من «گلوبولين غاما» في عينات الدم وأسرة اللغة التي ينتمي إليها الناطقون موضوع الدراسة. وكان ذلك واضحا وبارزا بشكل خاص بالنسبة للغات الأفرو ـ آسيوية، كما أنه يدعم الصورة الملخصة هنا.
بيد أن أكثر المدافعين عن العلاقة بين البيانات الجينية واللغوية ثباتا في الرأي هو <L .L. كاڤالي ـ سفورزا> من كلية الطب في جامعة ستانفورد [انظر: «الجينات والشعوب واللغات»، مجلة العلوم ، العدد 6 (1992) ، ص 38]. ففي خطوة طموحة قام كاڤالي سفورزا بإجراء مقارنة بين شجرة العائلة المستحصلة من البيانات الخاصة بالجزيئات الوراثية على مستوى عالمي، وشجرة عائلية مرسومة باستخدام بيانات ومعلومات لغوية فقط. وتشير دراسته إلى درجة لا بأس بها من التداخل بينهما.
لم أورد حتى الآن أي علاقات لغوية يزيد عمرها على عشرة آلاف سنة. وعلى الرغم من أن هذا العمق الزمني أضخم مما يفضل معظم اللغويين فحصه والخوض فيه، فإن مبرري له لا يقوم على أساس تصنيفات جديدة بقدر ما يرتكز على اقتراح تواريخ سحيقة القِدَم بشكل غير تقليدي لأسر اللغات المستقرة والراسخة. ومن المناسب الآن أن نوغل أكثر على خط التجميعيين كي نلاحظ الوجود المفترض للغات كبرى تحتضن أشياء أوسع، مثل الأمريند والهندية ـ الهادية. فأصولها ـ إذا افترضنا في كل حالة لغة بدئية جذرية واحدة ـ ربما كانت تمتد إلى زمن يزيد كثيرا على عشرين ألف عام.
ولعل أفضل عائلة كبرى معروفة هي تلك التي أقامها باحثان روسيان هما <M .V .إيليتش ـ سڤيتيتش> و <B .A .دولگوپولسكي> من جامعة حيفا. فقد جادلا بأن اللغات الهندية ـ الأوروبية، والأفروآسيوية، والدراڤيدية والألطية والأورالية يمكن تصنيفها معا ضمن عائلة كبرى واحدة أطلقا عليها اسم النوستراتية Nostratic (وهي مأخوذة من كلمة nostras اللاتينية التي تعني «مُواطِننا»). وهذه الكلمة اللاتينية مشتقة، بدورها، من اللغة النوستراتية البدئية الجذرية التي يفترضان أنها كانت منطوقة في الشرق الأوسط قبل نحو 000 15عام (وكان گرينبرگ قد حدد عائلة كبرى مماثلة سماها الأوراسية Eurasiatic تختلف عن النوستراتية في أنها تستبعد الدراڤيدية والأفروآسيوية، وتشمل الإسكيمو ـ آليوت (والتشوكْتْشِي ـ كَمتشَتكية). ومن الغريب أن هذه العائلات اللغوية الكبرى توضح كذلك علاقة ارتباط بالأدلة الوراثية كتلك التي جمعها <كاڤالي ـ سفورزا>، بل ومع بعض الأدلة الأثرية على الانتشارات الزراعية.
وحتى الآن، لم يتمكن التجميعيون اللغويون من إقناع أغلبية زملائهم المختصين. ومع ذلك فإن طريقة التحليل المتعدد الأطراف، التي جاء بها گرينبرگ، تعتمد على مخزون من الأدلة القاموسية مؤثرة بالتأكيد في أذهان غير المختصين، في حين تنطلق المدرسة النوستراتية من استخدام عملية البناء التاريخية بأسلوب المقارنة، والذي يتعرض گرينبرگ لانتقادات قاسية من زملائه بسبب إغفاله له. والواقع إن الحجج والمجادلات الأثرية والوراثية تتناغم جيدا مع بعض استنتاجات التجميعيين. إن نجاح الأسس المنطقية يشير إلى أن مزيدا من العمل في هذا الاتجاه شيء مثمر يستحق العناء.
لقد اقترح بعض العلماء، ومن أبرزهم روهلن، وجود صلات قرابة أوسع تكمن بين العائلات اللغوية الكبرى؛ بين لغات الأمريند واللغات الأوراسية مثلا. وتذهب مثل هذه الفرضية إلى أن بعض أشكال الكلمات الحديثة مشتق بوضوح من لغة واحدة وأصلية جذرية قديمة نطق بها أسلافنا الأفارقة الأقدمون في مواطنهم. ومن الصعب اختبار زعمٍ من هذا النوع، إذ سيرفضه معظم اللغويين. ومع ذلك فإن الحجج والمناقشات القائلة بالأصل الوراثي الواحد لا تتناقض مع الأدلة المستقاة من علم الآثار، وعلم الأنثربولوجيا الحيوية وعلم الوراثة الجزيئي، التي تدعم نظرية انطلاق أصل جنسنا البشري من إفريقيا.
هذه مياه عميقة يصعب الخوض فيها. غير أنها تعطي لمحة سريعة عن عمليات تاريخية حقيقية. فهذا الافتراض يدعمه ويؤيده عمل لغويين من أمثال <J .نيكولز> (من جامعة كاليفورنيا في بيركلي) التي تقوم بتحليل اللغات حسب ملامحها التركيبية التي قد لا تكون لها أهمية في علم الأنساب. إن تحليلها الأخير المثير للاهتمام للرموز التركيبية في عينة ضخمة من لغات العالم أدى بها إلى أن تطرح فكرة وجود ثلاث مراحل لأصول لغات العالم التي يمكن أن تنسجم مع سياق التسلسل الذي اقترحتُه هنا في هذا البحث.
فهي تلاحظ وجود نوعين من المناطق اللغوية. «مناطق انتشار» وهي مناطق كبيرة تحتلها أسرة لغوية أو أسرتان فقط. والأمثلة على ذلك تشمل أوروبا (مع اللغات الهندية ـ الأوروبية) وإفريقيا الشمالية (بما في ذلك اللغات الأفروآسيوية). و «مناطق متبقية» وهي أصغر، على الرغم من أن كل واحدة منها تضم عددا من الأسر اللغوية المستقرة الراسخة منذ زمن طويل. وتقدم القفقاس وغينيا الجديدة أمثلة على ذلك. وترى نيكولز أيضا أن مناطق الانتشار هي نتيجة لحوادث أعقبت العصر الجليدي الأخير. أما المناطق المتبقية فهي على وجه العموم من بقايا انتشارات أولية أكبر وأقدم.ويبقى الكثير من العمل ينتظر من ينجزه. ومع ذلك فإن هناك تقاربا جليا آخذا في الظهور بين الأدلة الأثرية والأدلة الوراثية وبعض الأدلة اللغوية على الأقل، مما يعني أن الخطوط الأساسية العريضة لطرح جديد مهم ورئيسي قد بدأت بالتكشف، وهو طرح يمكن له في العقد المقبل ألا يقتصر على توضيح تنوع اللغات فحسب، بل وكذلك الصبغيات الوراثية (الكروموسومات) والحضارات والثقافات.