المساواة (في المفهوم الإسلامي)
المساواة هي تشابه المكانة الاجتماعية، و الحقوقية ، و المسؤوليات ،و الفرض للناس في المجتمع ،علي النحو الذي تقوم فيه الحالة المتماثلة فيما بينهم..
وسوى بالشيء ؛ جعله مثله سواء ، فكانا مثلين لين .. وفي القرآن الكريم ؛ "بلى قادرين على أن نسوى بنانه" (القيامة:4)..
وسواء : تدل على معنى التوسط والتعادل، يقال، فلان وفلان سواء أي متساويان وقوم سواء أي متساوون.
ولقد شاع الحديث عن المساواة، في فكر الحضارة الغربية، منذ أن أعلنت مبدأ مبادئ حقوق الإنسان ، في الإعلان الذي أصدرته الثورة الفرنسية لذلك سنة 1789م.. فدخلت منذ ذلك التاريخ في الكثير من الدساتير والمواثيق الدولية..
أما ميادين المساواة، فعادة ما يذكر فيها، المساواة السياسية والمساواة الاقتصادية والمساواة المدنية والمساواة الاجتماعية..
ويجري الحديث عنها في علاقات المواطنين الداخلية وبين الأمم والدول وبين الأجناس والقوميات والشعوب.
وبعض المذاهب والفلسفات قد نحت منحاً خيالياً في الحديث عن تصوراتها لتطبيقات مبدأ المساواة بين الناس، فتصوت إمكان تحقيق التماثل الكامل والتسوية الحقيقية بين الناس في كل الميادين، وبالتحديد في الميادين الاقتصادية – شؤون المال والثروة والمعاش – وفي الميادين الاجتماعية – التي تتأثر أوضاعها ومراتبها، عادة، بأوضاع الاقتصاد والمعاش والأموال والثروات. لكن هذه التصورات قد استعصت على الممارسة الواقعية وعلى التطبيق في أي مجتمع من المجتمعات حتى تلك التي حكم فيها أنصار هذه المناصب والفلسفات..
ولعل أقرب التصورات إلى الدقة والواقعية، في مذهب المساواة، وإمكان وضع مبدئها في الممارسة والتطبيق، وهو التصور الذي يميز بين:
أ- المساواة بين الناس أمام القانون على النحو الذي ينفي امتيازات المولد، والوراثة، واللون، والعرق، والجنس، والمعتقد..
فهذه المساواة ممكنة.. بل وضرورية.. وواجبة التحقيق والتطبيق.. وهي قد تحققت بدرجات كبيرة في عديد من المجتمعات.
ب- والمساواة في تكافؤ الفرص أمام سائر المواطنين.. وسائر الأمم والقوميات وسائر الدول.. المساواة وتكافؤ الفرص المتاحة بمختلف الميادين وذلك حتى يكون التفاوت ثمرة للجهد الذاتي والطاقة المتاحة.. وليس بسبب التمييز والقسر والحجب أو الامتياز.
جـ- أما المساواة فيما بعد الفرص المتكافئة فإنها هي التي تعد خيالاً وحلماً يستعصي على التحقيق، ويناقض السنن والقوانين الحاكمة لسير الاجتماع والعمران.
ففي المجتمع الذي تتكافأ فيه فرص تحصيل واكتساب وامتلاك العلم والمال والاشتغال بالشؤون العامة، سياسية واجتماعية، نجد الطاقات لدى الناس متفاوتة، ومن ثم تتفاوت أنصبتهم وحظوظهم في الملك والكسب والمحصول، بسبب تفاوت طاقاتهم المادية والذهنية والإرادية.إلخ. فالمساواة في الفرص المتكافئة لا تثمر مساواة في مراكز الناس المالية والاجتماعية، لتفاوت القدرات، الموروثة، والذاتية، والمكتسبة بين هؤلاء الناس.. فالمساواة في تكافؤ الفرص لا تثمر، بالضرورة، مساواة في أنصبة الناس وحظوظهم من هذه الفرص..
وحتى المأثورة الإسلامية، التي يحسب بعض الناس أنها تقنن المساواة المطلقة والتماثل المطلق بين كل الناس في كل الميادين.. مأثورة: "الناس سواسية كأسنان المشط.." حتى هذه المأثورة لا تشهد لهذا المعنى في المساواة المطلقة، إذا نحن أكملنا نصها .. فنصها الكامل يقول "الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".. فهي لم تغفل الحديث عن التفاضل والتمايز والتفاوت بين الناس، وإنما هي أكدت على حقيقة: ولادة الناس جميعاً متساوين تمام المساواة فهم يولدون على الفطرة، صفحاتهم بيضاء ثم بعد ذلك تتفرق بهم السبل وتتفاوت الأنصبة. والمأثورة تدعو إلى حقيقة ثانية: وهي أن تكون التقوى هي معيار التفاضل والتمايز والتفاوت – والتقوى هي اتقاء كل ما هو سلبي – فهي معنى جامع لعمل المعروف وتجنب المنكر..
فهي – كما رأينا – جامعة لما فيه المساواة ولما فيه التمايز والتفاضل مع التزكية لتأسيسي التفاضل على التقوى، أي على المشروع الشرعي من الأسباب..
وإذا جاز لنا أن نصور المساواة، العادلة والممكنة، بين الفرقاء المختلفين، في مجتمع من المجتمعات، أو بين الأمم والقوميات والحضارات، وفي المجتمع الدولي فإن صورة أعضاء الجسد الواحد هي هذه الصورة للمساواة العادلة..
فإسهام كل عضو من الأعضاء في حياة الجسد وحيويته ليس متماثلاً ولا متساوياً وحظ كل عضو ونصيبه من رصيد حياة الجسد وحيويته ليس متماثلاُ ولا متساوياً.. لكن علاقة كل الأعضاء بكل الجسد هي علاقة "التوازن" –وليست علاقة "المساواة"؟.. فالتوازن والارتفاق، الذي يصبح فيه كل عضو فاعلاً ومنفعلاً ومتفاعلاً مع الآخرين، وكأنه المرفق الذي يرتفق به وعليه الآخرون كما يرتفق هو بهم وعليهم، مع التفاوت في الحظوظ والمقادير والدرجات في عملية الارتفاق والتوازن هذه.. إن هذه الصورة هي الممكنة والحقيقية والعادلة في مبدأ المساواة بالميادين التي تتفاوت في تحصيلها طاقات الناس، وتتفاوت فيها أيضاً احتياجاتهم لما يحصلون من هذه الميادين..
ولعل هذه الحقيقية الاجتماعية، والسنة الحاكمة في العمران البشري –سنة "التوازن" لا "المساواة المطلقة" – هي التي قادت المجتمعات التي طمعت في تحقيق المساواة المطلقة إلى الإخفاق والإحباط..
ولعلها هي التي جعلت مذهب الإسلام الاجتماعي لا يذكر حقيقة تميز المجتمع إلى طبقات اجتماعية، مع التأكيد على ضرورة الحفاظ على أن تكون العلاقة بينها عند مستوى "العدل.. الوسط.. التوازن".. وفي كلمات الإمام علي بن أبي طالب (23ق.هـ – 40هـ – 600-661م) إلى واليه على مصر الأشتر النخعي (37هـ-657م) – في عد توليته – الذي يعد من قمم الوثائق الفكرية والسياسية والاجتماعية والإدارية في تراثنا الإسلامي.. في كلماته يقول: "..واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها، جنود الله.. ومنها : كتاب العامة والخاصة ومنها : قضاة العدل ومنها : عمال الإنصاف والرفق.. ومنها: أهل الجزية والخراج، من أهل الذمة ومسلمة الناس ومنها: التجار وأهل الصناعات.. ومنها : الطبقة السفلى، من ذوي الحاجة والمسكنة فالجنود حصون الرعية وسبل الأمن ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار ذوي الصناعات..
فهي كلمات ترسم لوحة الحقيقة الاجتماعية لمذهب الإسلام الاجتماعي، التعددية، القائمة علاقات أطرافها على "التوازن"، فلا قيام لطرف منها إلا بالارتفاق على الجميع.. ولهذه الحقيقة من حقائق معنى المساواة في مذهب الإسلام، كان "الدفع" وليس "الصراع" هو السبيل الذي يزكيه الإسلام طريقاً لتصحيح الخلل الاجتماعي في علاقات الطبقات، فإنا حل "الخلل الاجتماعي" محل "التوازن الاجتماعي" في العلاقة بين الطبقات، كان "الدفع" – الذي يزيل الخلل، ويعيد التوازن بين الفرقاء، مع الاحتفاظ بسنة التعدد – هو السبيل الإسلامي للحراك الاجتماعي.. وليس "الصراع"، الذي يعني صرع ونفي الآخر، والانفراد بالوجود والثمرات.. فالصراع الاجتماعي والطبقي – كما عرفته مذاهب الحضارة الغربية – قد استهدف مساواة ينفرد فيها طرف –البورجوازية- في الليبرالية – والبروليتاريا – في الشمولية الماركسية –بالوجود والثمرات، بعد نفي النقيض.. أما "الدفع"، في المفهوم الإسلامي، فهو حراك اجتماعي، يغير مواقع الفرقاء المختلفين، ويعيد العلاقة بينهم إلى مستوى "التوازن – الوسط – العدل" عندما ينفي "الخلل .. الظلم" ودون أن ينفي الآخر أو يصرعه بالصراع..
فالصراع يعني نفي الآخر ".. فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخلٍ خاوية" (الحاقة:7)..
أما الدفع فإنه تغيير للمواقع، دون نفي التعددية والتمايز: "ادفع بالتي هي أحسن إذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" (فصلت: 34)..
فهو سبيل الحراك الاجتماعي – وليس الصراع الاجتماعي والطبقي – المتسق مع مذهب الإسلام الاجتماعي، الذي يرى المساواة "توازناً" و "عدلاً" بين فرقاء متمايزين – يتأسس تمايزهم على المشروع والحلال من الأسباب والتصرفات.. ولا يراها مساواة مطلقة فيما تتفاوت فيه – بالطبع والكسب – القدرات والاحتياجات..