الديمقراطية بين التنظير والممارسة
-هل هناك نظرية متكاملة للديمقراطية؟-
بقدر البساطة التي تظهر على كلمة الديمقراطية وبالرغم من كثرة تداولها بين الناس، وبالرغم من أن غالبية دول العالم اليوم تزعم بأنها دول ديمقراطية، بالرغم من كل ذلك فمفهوم الديمقراطية هو من أكثر المفاهيم المتداولة إثارة للجدل بين علماء السياسة وبين الناس العاديين. هذا اللبس يتجلى سواء على مستوى تحديد المفهوم وعلى مستوى الممارسة، وتصبح الديمقراطية أكثر إثارة للجدل عندما يتعلق الأمر بدول العالم الثالث حديثة العهد بالديمقراطية. وحتى نقارب الموضوع بحد معقول من الموضوعية فسنتناول تعريف المفهوم أولاً ثم تطوره فكراً وممارسة في بلاده نشأته الأولى، وبعد ذلك نبحث في حال الديمقراطية المعاصرة وفي مجتمعاتنا العربية، فكراً وممارسة.
المبحث الأول
النظرية التقليدية للديمقراطية-
المطلب الأول: مقاربة مفاهيمية للنظرية التقليدية للديمقراطية
من المعلوم أن المصطلحات في العلوم الاجتماعية حمالة أوجه، حيث يأخذ المصطلح الواحد معان مختلفة ليس فقط ما بين المجتمعات وبعضها البعض بل داخل المجتمع الواحد، لأنها مصطلحات تعبر عن أوضاع اجتماعية، هذه الأخيرة هي في حالة تحول أفقياً وعمودياً، أفقياً من مجتمع إلى مجتمع وعمودياً من حقبة زمنية إلى أخرى. والديمقراطية من هذه المصطلحات ،الذي وإن حافظ على ثباته لغة فإنه عرف تحولا وتبدلا اصطلاحا وتبيئة، ومع ذلك فأن الاستئناس بالرجوع إلى أصول الديمقراطية لغة واصطلاح يساعدنا على تعزيز أطروحتنا حول كون الديمقراطية مبادئ عامة وتراث إنساني قابل لإعادة إنتاجه محلياً.
وعليه، فإننا لا نبغي من هذه المقاربة حول الديمقراطية إجراء رصد تاريخي أو حصر مفاهيمي على اعتبار أن الديمقراطية من المفاهيم التي لا تعرف الجمود، بل سر نجاحها وإبداعها أنها تجدد نفسها باستمرار فهي من "المصطلحات والكلمات التي ليست جامدة الدلالة حيث تأخذ معانيها من تطور مدلولاتها ولو استمرت هي نفس الكلمة التي تستعمل في الموضوع، فالبحث عن أصلها إذن لا يعني التشبث بمدلولها الأصلي ولكنه يعني فقط تحديد الوجهة التي نبعت منها أحياناً"
لم تنتج الديمقراطية لنفسها تعريفاً دقيقاً صالحاً لكل زمان ومكان بقدر ما أنها أنتجت مجموعة من المبادئ والأسس والقواعد والآليات توصف بكونها ديمقراطية لحمولتها الخاصة سواء وجدت تلك المبادئ كلها أو البعض منها، ولكونها تصف شكل من نظم الحكم تختلف إيجابيا عن أشكال الحكم الأخرى التي لم تصمد أمام المنافسة عبر تاريخ طويل من عمر البشرية.
ومجمل المبادئ الديمقراطية التي يتم التعامل بها أو التفكير حولها حالياً ما هي إلا نتيجة لتراكم نضالات شعبية ونخبوية، ممارساتية وفكرية تمتد لعهود قديمة انطلقت من دولة المدينة الأثينية – أو إلى ما قبلها – لتمر بفكرة العقد الاجتماعي ثم السيادة الشعبية...لتصل إلى ما وصلت إليه في الديمقراطيات الغربية المعاصرة.
فإذا كان مفهوم الديمقراطية كلاسيكيا يعني حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب، قد تناسب في فترة معينة مع التربة التي ولد فيها هذا المفهوم – أي المجتمع الأثيني – فإن التطورات التاريخية والتحولات المعرفية قد عملت على تهميش هذا المفهوم الكلاسيكي وجعلته يحس بالاغتراب داخل المجتمعات الحديثة.
إن الإشكالية التي تطرحها النظرية الديمقراطية ستتعقد أكثر بفعل تطور الدول والمجتمعات كالانتقال من محدودية الدولة – المدينة إلى شساعة الدولة – القومية الحديثة وما صاحب ذلك من تزايد كبير في عدد السكان داخل الدولة الواحدة، هذا ناهيك عن التحولات التي عرفتها القيم التي تعطي للديمقراطية أفضليتها عن غيرها، مثل الحرية والمساواة والمواطنة والعدالة، ثم تتعقد أكثر مع تطور نموذج الدولة القومية خلال القرنين الأخيرين ليأخذ صيغاً أخرى أكثر تشابكاً وأكثر صعوبة في الحصر والفهم، خاصة مع ما وصلت إليه المجتمعات الحديثة من تحولات شككت إلى حد الآن في كثر من المفاهيم الأساسية التي تشكل البنية الفعلية للديمقراطية، كمفهوم السيادة وتعارضه مع مفهوم العولمة، وتعارض الاختصاص ما بين المؤسسات الوطنية والمؤسسات فوق – وطنية، وما جعل الأمر أكثر إشكالاً انتقال المفهوم إلى مجتمعات ذات خصوصيات حضارية مختلفة عن خصوصيات مجتمعات النشأة.
إشكالية تحديد وتعريف الديمقراطية انطلقت مع ولادة مصطلح الديمقراطية. ولفهم ذلك دعونا نلقي نظرة على "حكم الشعب" الذي يعتبر مبدأ أساسياً، فمن اجل إعطاء تسمية لنمط حياتهم السياسية الجديدة وما جاءت به هذه الحياة من ممارسات في العديد من دول – المدن، بدأ اليونان القدماء وتحديداً في دولة المدينة أثينا باستخدام عبارة ديموكراتيا demokratia وذلك لحدود القرن الخامس قبل الميلاد، وفي ذلك يقول بريكليس perikles أبرز مؤسس الديمقراطية اليونانية القديمة – وصل إلى الحكم عام 466 ق.م –(لنا دستورنا الخاص بنا، لم نقتبسه من أحد من الجيران فنحن قدوة لغيرنا ولا نحاكي الآخرين، ونظراً لأن نظام الحكم بيننا يتمثل في سيادة الأكثرية وليس الأقلية، فقد عرف باسم الديمقراطية" .
على الرغم من البساطة التي يتسم به المعنى الاصطلاحي للكلمة – إذ أن "demos" تعني الشعب و "kratia" تعني الحكم أو السلطة – فإن الكلمة بشقيها تثير سؤالين: "ما الفئة التي تكون الشعب"؟ وماذا تعني لهم عبارة "ممارسة الحكم"؟ لقد ظلت هاتان الكلمتان: "الشعب" و "الحكم" تشكلان مجالاً خصباً للاختلاف بين كل من تعرض لهما بالبحث، كما أن الاختلاف في الدلالة والماهية واكبهما عبر مرور الزمن، فمثلاً إذا كان مفهوم "الشعب" الذي يشارك في الحكم في المدينة الأثينية يقصد به المواطن الأثيني الذكر الحر، فإن هذا المفهوم قد أخذ أبعاداً وتحديدات أخرى في المدن اليونانية الأخرى، وقد أخذ مفهوم "الشعب" الذي يشارك في الحكم أشكالاً أخرى مع مرور الوقت وتباين المجتمعات التي توسعت فيها حمولة مفهوم "الشعب" لتصل أخيراً إلى جميع المواطنين – ذكوراً وإناثاً – البالغين سن الرشد القانوني . "المواطن" بالمعنى اليوناني يتحدد معناه لا بانتمائه لوطن، بل لكونه يتمتع بحق المشاركة السياسية، حق المساهمة في تدبير المدينة وتسيير شؤونها. وفي هذا السياق يجب التأكيد على معنى "الحق" بالمشاركة وليس المشاركة حد ذاتها، فكثير من أصحاب الحق بالمشاركة لا يشاركون، أي لا يستعملون هذا الحق. وبعبارة أخرى: "المواطن" هو الذي يتكلم ويناقش الشؤون العامة التي تخص المدنية وفي هذا يقول بريكليس "إن المواطن العادي المهتم بأسباب رزقه لديه معرفة كاملة بشؤون الدولة، فنحن وحدنا لا نعتبر من ينأى عن شؤون السياسة شخصاً انعزالياً ولكن عديم النفع، كما أننا دوماً نستمع ونشارك بالرأي في شؤون الدولة عند مناقشة قادتها لها ".هذا التصور الأصيل للديمقراطية الذي يقرنها بالمشاركة السياسية للمواطن يبين لنا كم ابتعدت ديمقراطية اليوم عن الأصل إذا أخذنا بعين الاعتبار ضعف المشاركة السياسية بل جهل المواطن العادي بالأمور السياسية. ولقد تواصلت النضالات السياسية والفكرية طوال التاريخ البشري لكي ترسخ قاعدة "المواطنة" وتتوسع لتشمل كل من يوجد فوق ارض "الوطن من أهل البلاد" ولكن على أساس ألا يعني المواطن أحد أفراد الرعية ومن هنا شعار: "مواطنون لا رعايا" .
رقم المجهودات والتضحيات التي بذلت من أجل إضفاء المزيد من الديمقراطية على مفهوم "الشعب" فإن الاستثناءات لازالت تشمل فئات شاسعة من الناس، وعلى الرغم من أن الديمقراطية الأثينية ربما كانت تميل إلى التطرف في مجال اقتصار حقوقها على فئة معينة إلا أنها لم تكن فريدة من نوعها بأي شكل من الأشكال، فمنذ عصور اليونان القديمة حتى الفترة الحديثة كان هناك دائماً من تم استثناؤهم باعتبارهم غير مؤهلين وحتى حلول القرن العشرين عندما حصلت النساء على حق الانتخابات كان عدد الذين يتم استثناؤهم – كما كان عليه الحال أحياناً في أثينا – يزيد كثيراً على عدد المشمولين. وهكذا كان الحال في أول تطبيق للحكم الـ "ديمقراطي" في الولايات المتحدة الأمريكية حيث لم يقتصر الاستثناء على النساء والأطفال بل شمل أكثر المواطنين السود بل وحتى الأمريكيين الأصليين "الهنود الحمر" وإذا كان استثناء أو إقصاء شريحة كبيرة من المواطنين من حق المشاركة ولو في الانتخابات عبر التصويت مسلم به بحكم القانون الذي هو أسمى تعبر عن إرادة الأمة، فإن الواقع والممارسة الفعلية لحق المشاركة يزيد في توسيع دائرة الفئات المستثناة أو المقصاة من هذا الحق بفعل الأمية أو الفقر أو فقدان الثقة في النظام أو في العملية السياسية بشكل عام، كما أن التجربة الديمقراطية في الكويت اليوم تبين لنا اقتصار مفهوم المواطن السياسي على شريحة محدودة حيث يتم استثناء النساء و "البدون" والأجانب مما يجعل ديمقراطيتهم ديمقراطية النخبة.
وبالتالي فإذا كان القانون قد أقصى شريحة من "الشعب" فإن الواقع والممارسة أقصيا شريحة إضافية من هذا "الشعب"، وعليه، فإن فكرة الديمقراطية المرتبطة في جوهرها بمفهوم "الشعب" تتأثر بما أحاط هذا المفهوم من مد وجزر بل وأكثر من ذلك – وارتباطاً دائماً بعبارة "الشعب" فحتى أولئك الذين تم تمتيعهم بحق المشاركة تتضاءل قوة وفعالية اهتمامهم بالشأن العام وممارستهم لحق المشاركة حتى أننا نكاد نحصر المشاركين فعلياً في فئة قليلة من المواطنين خاصة إذا ما علمنا أن حق المشاركة المقرون بحق الانتخابات كأبرز حالة من حالات المشاركة قد أضحى مع مرور الوقت يتآكل ولا يشكل إلا مدخلاً شكلياً للديمقراطية
المطلب الثاني: مؤسسات ومبادئ الديمقراطية التقليدية
أولا : في اليونان القديمة
كما سبق الذكر ، لا يمكن فهم النظرية الديمقراطية ،إلا بالرجوع إلى اللحظة الأولى لظهورها اصطلاحا وممارسة في اليونان القديمة ، فالعودة للأصل سيظهر لنا كم هي واسعة الهوة ما بين الديمقراطية الأولى وديمقراطية اليوم . فالديمقراطية الأثينية كانت ديمقراطية مباشرة نظرا لقلة عدد السكان ، ومن هنا كان عمل المؤسسات مختلف عن طريقة اشتغال المؤسسات الدستورية في الديمقراطية المعاصرة . بالإضافة إلى ذلك فالمجتمع الأثيني الذي أوجد مصطلح الديمقراطية وكان أول تطبيق لها ،كان مجتمعا عبوديا وطبقيا وذكوريا ، ومن المعلوم أن العبودية والطبقية والذكورية تتناقض اليوم مع الديمقراطية التي تقوم على الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة وعدم التمييز على أساس العرق أو الجنس أو الطبقة أو الدين .
1: المؤسسات السياسية
تجسد المؤسسات السياسية طبيعة الديمقراطية الاثينية التي تعني حق كل (مواطن) في المشاركة في الحياة السياسية، وهي أيضا مؤسسات ضرورية لتنظيم أمور المدينة وهذه المؤسسات هي :
أ - الجمعية الشعبية : ECCLESIA
وتتكون من جميع المواطنين الذكور في المدينة المولودين من أبوين اثينيين. حيث يحق لكل مواطن بلغ ثمانية عشر سنة حضور اجتماعاتها، وكانت تجتمع عشر مرات في السنة على الأقل، ويجوز أن تجتمع بشكل طارئ . فالإكليزيا هي مصدر السلطات، ومنها تصدر القوانين والقرارات السياسية، وكان التعيين في المناصب يتم عن طريق القرعة أو الانتخابات ، ولا يعاد انتخاب المواطن مرة أخرى . كما أن الوظيفة لم تكن تعهد إلى شخص واحد بل إلى عشرة أشخاص تختار كل قبيلة من القبائل العشرة المكونة لأثينا - واحدا منهم.
إلا أن أهم وظيفة كانت تنبثق عن الجمعية هي انتخاب القادة العشرة، وهؤلاء في الأصل كانت مهمتهم عسكرية، إلا أنهم في الواقع أخذوا يمارسون - صلاحيات متعددة الأوجه، حيث أصبحوا القادة الفعليين لأثينا - مثلا بريكليس كان مجرد قائد عسكري فأصبح الحاكم الفعلي لأثينا - وهم ينتخبون بالاقتراع المباشر ويمكن أن يعاد انتخابهم. بالإضافة إلى ذلك تقوم الجمعية بتعيين القضاة من بين أعضائها، وتختار أعضاء مجلس ( الخمسمائة) لمدة عام، وتمارس الرقابة المالية والتصويت على القوانين المالية.
ب - مجلس الخمسـمائــة :
ويمكن اعتباره الهيئة الحاكمة الفعلية أو السلطة التنفيذية، ويتكون من خمسمائة عضو، من أعضاء الجمعية على أن يكونوا فوق الثلاثين سنة، وحتى يكون ممثلا لجميع الشعب، فقد كانت كل قبيلة من القبائل تُمثّل في المجلس بخمسين عضوا، ويتولى ممثلو كل قبيلة منها الحكم عشر أيام في السنة. ولأنه كان يصعب أن يمارس الحكم مجلس مكون من خمسمائة شخص، كان المجلس يشكل (جمعية مصغرة) من خمسين شخصا (من أحد القبائل) مضافا إليهم شخص من كل قبيلة من القبائل العشر الأخرى، وهذا المجلس يقوم بالتناوب بممارسة سلطة مراقبة الأعمال وإدارتها باسم المجلس كله. كما يختار المجلس من بين أعضائه، وبالاقتراع رئيسا لمدة يوم واحد، ولا يجوز أن يتولى هذه المهمة شخص مرتين.
وقد انقسم المجلس إلى عشر لجان، وكل لجنة مكونة من خمسين عضوا من قبيلة واحدة، واحدة تحكم والأخرى تشكل لجان عمل، أما مهامه فهي متعددة، فهو يُحضّر القرارات التي ستعرض على الإكليزيا، كما ينفذ ما يصدر عنها من قرارات، إلا أنه كان في جميع الحالات للجمعية الحق في رفض أو قبول قرارات المجلس. وكان المجلس يمارس صلاحيات واسعة في مجال الاتصال بالدول الأجنبية، ويخضع له موظفي الحكومة، و له حق حبس أو إعدام المواطنين، وذلك بحكم يصدره هو كمحكمة أو يستصدره من محكمة عادية، كما كان يشرف على الشؤون المالية وإدارة الأملاك العامة.
ت - المحاكم أو القضاء :
وكان القضاة يتم اختيارهم داخل الجمعية ولمدة سنة لا تجدد، بالقرعة أو بالانتخاب، والمحاكم هي حجر الزاوية في الديمقراطية الأثينية. وكان يشترط فيمن ينتخب أو يقترع عليه، كقاضي أن لا يقل عمره عن ثلاثين سنة، وفي كل عام كان ينتخب حوالي ستة آلاف شخص، وعدد المحلفين في المحكمة الواحدة لا يقل عن (20) محلف، ويصل أحيانا إلى (501).
وبالإضافة إلى مهمة القضاء كانت المحاكم تقوم بمهمة الإشراف على الموظفين وعلى القانون، فهي تقوم باختيار صلاحية المرشحين قبل توليهم الوظائف، بمعنى أنه وبعد أن يفوز الشخص بالقرعة لتولي منصب ما، فإن للمحاكم الحق بالطعن إذا ما ارتأت أنه غير صالح لممارسة الوظيفة،كما كانت تقوم بمراجعة أعمال الموظف عند انتهاء مدة خدمته. وعلى مستوى التشريع كان للمحاكم سلطة إصدار حكم بأن قرارا صادرا عن المجلس أو عن الجمعية مخالف للدستور، وذلك بعد تقديم أي مواطن بشكوى في الموضوع لأحد المحاكم. وهذا يظهر لنا أهمية السلطة القضائية في أثينا.
نلاحظ مما سبق أن الفهم الشائع حول مشاركة كل الأثينيين في الحكم انطلاقا من مفهوم الديمقراطية - حكم الشعب - لا يعني أبدا أن جميع السكان يشاركون في أتحاذ القرارات السياسية، ويناقشونها في الجمعية، فأحيانا يقتصر أمر المشاركة في مجرد حضور بعض الجلسات أو مناقشة بعض المعلومات، فالقرارات الهامة يسند أمر اتخاذها لأفراد وضمن شروط وتحت المراقبة.
2 : المبادئ الكبرى للفكر الديمقراطي الأثيني
الديمقراطية الأثينية كفكر وممارسة، لم تأت كطفرة، بل هي محصلة تطورات سياسية واجتماعية قام بها مصلحون، وضعوا معالم النظام ومؤسساته، فأسس الديمقراطية كالمساواة والحرية، والعدالة، والقانون، ليست مجرد أفكار فلسفية، ولكنها أفكار طبقت على أرض الواقع وتجسدت بقوانين ومؤسسات. ولكن يجب أخذ هذه الأفكار ضمن سياقاتها الاجتماعية والتاريخية، وألا نحكم عليها انطلاقا من تصوراتنا وفهمنا المعاصر لها.
أ - المــــــساواة :
ديمقراطية أثينا قامت على المساواة بين المواطنين في المشاركة في الحياة السياسية، وحق المشاركة بمساواة في السلطة الممنوح للشعب، لا ينفصل عن مفهوم الشعب عند اليونانيين، وهو ليس مفهوم الشعب المعروف اليوم. فالشعب الذي تتحدث عنه الديمقراطية الأثينية يستثني النساء والعبيد وكل من لم يولد لأبوين اثينيين. فالمساواة إذن لم تكن بين جميع ساكنة أثينا، بل هي مساواة بين المواطنين بالمفهوم المشار إليه، فديمقراطيتها لا ينفي كونها نظام عبودي.
فالمساواة التي عرفتها أثينا هي مساواة بين مواطنين، القانون يساوي بينهم، ولكنهم غير متساوين بالطبيعة، فالطبيعة والآلهة في نظر الأثينيين ميزا بين الحر والعبد، وبين المرأة والرجل. فإذا أخذنا المساواة بهذا المعنى القانوني، فإنها كانت مطبقة بالفعل، وما اللجوء إلى القرعة لاختيار من يتولى الوظائف إلا محاولة من الأثينيين لتطبيق المساواة دون تحيز لغني أو فقير، عالم أو جاهل، وهذه المساواة من جهة أخرى هي التي كانت تمنح لكل مواطن حق حضور اجتماعات الجمعية والمشاركة في الحياة السياسية، وهذا الحق هو الذي كان يميز المواطن الأثيني الحقيقي عن غيرهّ.
ب- الحريـــة :
ما كان يميز الإغريقي عن البربري هي الحرية، فالحرية بالنسبة لهم تعني عدم العبودية لأي كان ولأي شيء كان. وقد بدأت مسيرة الحرية في أثينا مع صولون SOLONتولى السلطة حوالي (594-593 ق.م) الذي اعتبر أن الديون التي ترهق كاهل المواطن هي سبب عبوديته وسبب الأزمة التي تعاني منها البلاد، فأًصدر قانونين، الأول، منع بمقتضاه فورا وفي المستقبل أن تكون الديون بضمان شخص المدين، والثاني ألغى وأسقط جميع الديون القائمة، العامة والخاصة. كما منع سجن المدين ضمانا لسداد دينه. وإذا كان صولون مهد لتطبيق شقها المدني، فإن الشق السياسي، أي الحرية السياسية، والتي تعني عدم الخضوع إلا للقانون ، كُرست عن طريق مجموعة القوانين اللاحقة، وهكذا أًصبحت الحرية تعني حرية بحكم القانون وخضوع لحكم القانون في نفس الوقت.
فالحرية بالنسبة للأثيني على حد قول أرسطو هي أن يكون الفرد محكوما وحاكما في نفس الوقت . وهو ما عبر عنه الخطيب ليسياس LYSIAS في مطلع القرن الرابع قبل الميلاد بالقول : كان أسلافنا في ذلك الوقت أول من نبذوا من بينهم أنظمة الحكم الاستبدادي، وأسسوا الديمقراطية، مؤمنين بأن تحقيق الحرية للجميع هو الوئام الأعظم، ونظرا لاشتراكهم فيما بينهم من آمال ومخاطر واحدة، تولوا حكم أنفسهم بأرواح حرة ، وبالقانون أكرموا المثيب وعاقبوا المسيء، واعتبروه من أعمال الحيوانات الضارية أن يستبد شخص بآخر بالقوة، وأن واجب الإنسان أن يقيم العدل بالقانون وأن يقنع بالعقل، وأن ينزل على حكم هذين بالفعل، فيجعل السيادة للقانون، ويتخذ من العقل مرشدا.
ج- القــــــانـــون :
القانون هو السيد الذي لا سيد فوقه في الديمقراطية الأثينية، فلا يتصور الإغريقي قيام ديمقراطية، أو تمتع بحرية ومساواة بدون القانون، ومن هنا كانت المكانة المتميزة التي أخذتها المحاكم في الديمقراطية الأثينية، حيث أن أحكامها قوانين نهائية ولا يجوز الطعن فيها. وقد عبر أحد فلاسفتهم وهو يوريبيدس عن مكانة القانون بالقول : فتبا لنظام لا يسوده القانون، بل يسوده طاغية، كلمته هي القانون، فالسيادة في كل دولة هي للقانون وليس للمحاكم فالقانون هو الذي يسوي بين الغني والفقير ويخضع له الحاكم والمحكوم.
إلا أن فكرة القانون تطورت لدى اليونانيين. فبعد أن كان ينظر في البداية إلى كل القوانين باعتبارها ذات مصدر إلهي واحد، أصبح ومنذ القرن الخامس ق.م التفكير يذهب لإعطاء الإنسان دورا في صياغة القوانين، وقام التمييز بين القانون الذي هو اصطلاح والطبيعة التي هي خلق وفطرة وقد وضح انتيفون ANTIPHON التمييز بين القوانين الحاضرة - البشرية - التي يمكن مخالفتها شرط عدم الانكشاف ومقتضيات الطبيعة التي لا يمكن مخالفتها بدون عقاب .
هذا ولا بد من الإشارة لعدد من رجال الدولة والمفكرين اليونانيين الذين دونهم ما كانت الديمقراطية أن تكون ، فمن رجال الدولة نجد صولون وبريكليس كرجال دولة في أثينا ،ومن المفكرين نجد المؤرخ هيرودوت HERODOTE (480-425 ق.م)، إلا أن أهم هؤلاء هم الذين أُطلق عليهم اسم الفسطائيون SOPHISTS وهم أساتذة في البيان والخطابة ظهروا في الديمقراطية الأثينية ليُعلموا المواطنين كيف يتكلمون بطريقة مقنعة، وكيف يتغلبوا في المناقشات والمجادلات التي تحدث داخل الجمعية العامة وغيرها من التجمعات ، إنهم الذين انتقدهم أفلاطون وسماهم تجار الكلام، ومن أهم السفسطائيين بورتوجورس، انيتفون، بروديكوس، جورجياس، كاليكليس واكرتياس.
في مقابل الديمقراطية كممارسة سياسية وفكر التي عرفت بها أثينا،، اشتهرت أثينا بأنها أنجبت أهم الفلاسفة والمفكرين السياسيين، الذين اشتهروا ليس لأنهم من دعاة الديمقراطية أو المشاركين في نظامها السياسي، بل لمواقفهم المعادية والمنتقدة للفكر الديمقراطي ونموذجه المطبق في أثينا، حيث اعتبروا أن الديمقراطية هي حكم الغوغاء ، وان عيبها القاتل هو مساواتها بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، بين الأقوياء والضعفاء ن بين العقلاء والجهلاء، ومن أهم هؤلاء المفكرين سقراط وأفلاطون وأرسطو ، وكان لكل من أفلاطون وأرسطو نظريته السياسية الخاصة بالدولة وأنظمة الحكم.
ثانيا: الديمقراطية تجدد نفسها بدء من عصر النهضة
بعد سقوط نموذج دولة- المدينة على يد فيليب المقدوني وأبنه اسكندر في القرن الرابع قبل الميلاد ، وقيام إمبراطورية مترامية الإطراف ، تلاشت الديمقراطية كفكر وممارسة ،فحكمت الإمبراطورية الرومانية بداية بقياصرة عسكريين لا يولون أهمية للديمقراطية ، وبعد تبني الإمبراطورية للديانة المسيحية نهاية القرن الرابع هيمنت الكنيسة على الحياة الدينية والدنيوية وأدخلت أوروبا في عصر الظلمات طوال القرون الوسطى،فيما كان المسلمون يقيمون دولتهم ونظامهم الخاص بالحكم . مع تراخي قبضة الكنيسة لصالح العلمانية ، وجدت الأفكار الديمقراطية فرصة للظهور، ليحل حكم الشعب وإرادة الأمة محل حكم السماء ، ولكن بعد حين من التنظير للفكر الاستبدادي البشري .وكان لرواد نظرية العقد الاجتماعي وخصوصا لوك Locke (1632-1704) ومنتسكيو ) Montesquieu1689-1755)وجان جاك روسو (1712-1778)، ثم رواد عصر النهضة ثم التنوير وفكر الثورة الفرنسية ،الفضل في نشر مبادئ الديمقراطية وترسيخ مؤسساتها ، مع الأخذ بعين الاعتبار تغير العالم وتحوله ، وعدم إمكانية العودة لنموذج الديمقراطية الأثينية .ولم تكن فكرة الديمقراطية واضحة عند رواد عصر النهضة ،المهم بالنسبة لهم هو التخلص من هيمنة الكنيسة ومن الاستبداد ، أما البدائل ، فجاءت بشكل متدرج ونتيجة مراكمة إنجازات مؤسساتية وصراعات فكرية طوال خمسة قرون تقريبا ، حيث لم تستقر الديمقراطية فكرا وممارسة إلا بداية القرن العشرين ،وخلال هذه المرحلة شهدت أوروبا والعالم ، حروب وصراعات دينية وسياسية واقتصادية .
أصبحت الديمقراطية تشير إلى نسق سياسي الحكام فيه منتخبون من الشعب وحائزون على رضاه ، وهناك فصل للسلطات ما بين تشريعية وتنفيذية وقضائية ،والسلطة يتم تداولها عبر انتخابات دورية تشارك فيها الأحزاب السياسية التي هي جزء من النظام الديمقراطي ،ونتيجة الانتخابات تفرض على الأقلية الخضوع لرأي الأغلبية وعلى الأغلبية احترام حقوق وحريات الأقلية ،ويشتغل هذا النسق بالقانون وتحت إشراف القانون ، ومن خلال القانون يمارس الشعب حرياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فحرية الرأي والتعبير من أهم عناصر الديمقراطية. ويرى محمد عابد الجابري " أن الديمقراطية نظام سياسي اجتماعي اقتصادي يقوم على ثلاثة أركان :
1) حقوق الإنسان في الحرية والمساواة وما يتفرع عنهما كالحق في الحريات الديمقراطية والحق في الشغل وتكافؤ الفرص ...الخ.
2) دولة المؤسسات ، وهي الدولة التي يقوم كيانها على مؤسسات سياسية ومدنية تعلو على الأفراد مهما كانت مراتبهم وانتماءاتهم العرقية والدينية والحزبية.
3) تداول السلطة داخل هذه المؤسسات بين القوى السياسية المتعددة وذلك على أساس حكم الأغلبية مع حفظ حقوق الأقلية) 1.
ثالثا:أشكال الديمقراطية
الاتفاق على أن الديمقراطية هي حكم الشعب ، لا يحل مشكلة كيف سيحكم الشعب ، ومن هنا وجدت ثلاثة صور للديمقراطية تختلف حسب طرقة مشاركة الشعب بالسلطة .هذه الأشكال هي :-
1)الديمقراطية المباشرة :
وتعني أن الشعب كل الشعب يمكنه المشاركة في عملية اتخاذ القرار السياسي ،والقائلون بها يؤمنون بان الشعب لديه القدرة والكفاءة ليناقش الأمور العامة ويتخذ بشأنها القرار السلم ، وهؤلاء يعتقدون ان الديمقراطية المباشرة هي الديمقراطية الحقيقية.وكانت ديمقراطية أثينا القديمة خير نموذج لذلك ، إلا أن الفكرة وجدت من يدافع عنها بالرغم من تغير الظروف ، ويعد جان جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعي ) من أهم المدافعين عنها والمنتقدين للديمقراطية النيابية التي كانت سائدة في عصره في بريطانيا تحديدا ، فحيث أنه يؤمن بمبدأ سيادة الأمة وأن الشعب هو صاحب السيادة ، فعلى الشعب أن يمارس السلطة بنفسه ولا يفوضها لأحد . وبالرغم من صعوبة تطبيق الديمقراطية المباشرة في مجتمعات اليوم كثيرة العدد ، إلا أن تطبق بطريقة ما في بعض المقاطعات السويسرية قليلة السكان .
2) الديمقراطية شبه المباشرة :
وهي نظام وسط ما بين الديمقراطية المباشرة والديمقراطية النيابية ،فتأخذ من الديمقراطية النيابية النظام البرلماني ، حيث يوجد برلمان منتخب ، ولكن لا تترك بيد هذا البرلمان كل مقاليد السلطة ، وإنما يشارك الشعب مع البرلمان في بعض المسائل الهامة ، على أساس انه صاحب الحق ومصدر السلطة ، كما تقول الديمقراطية المباشرة .ففي الديمقراطية شبه المباشرة يتم تقاسم السلطة وعملية اتخاذ القرار ما بين برلمان منتخب وشعب يتدخل بعدة طرق : أ)الاستفتاء الشعبي . ب) الاعتراض الشعبي .ت) الاقتراح الشعبي .ث) حق الحل الشعبي.ج)حق الناخبين في إقالة الناخب .ح)حق عزل رئيس الجمهورية.
3) الديمقراطية النيابية :
وكما هو ظاهر من الاسم ، سميت نيابية لأن الشعب ينتخب نوابا يشكلوا أعضاء البرلمان لينوب عنه ويمارسون السلطة باسمه لمدة يحدده القانون الانتخابي 1 ، وفي هذه الحالة الشعب لا يحكم ولا يتدخل في عمل البرلمان ، فهو فوض نوابه ليحكموا نيابة عنه ، ولا يستطيع محاسبتهم إلا في الانتخابات القادمة .ويتكون البرلمان إما من مجلس واحد أو من مجلسين ، وفي بعض البلدان لا يكون كل أعضاء المجلس منتخبين بطريقة مباشرة ، فهناك نسبة ينتخبوا بطريقة غير مباشرة ، أيضا قد تحدد نسبة من مقاعد البرلمان لبعض الفئات – النساء مثلا – وتسمى الكوتا ، وفي جميع الحالات وحتى يكون النظام النيابي نظاما ديمقراطيا ،يجب ضمان إجراء انتخابات نزيهة ، وأن تشكل الحكومة من الفريق الذي حصل على أكثر الأصوات وبالتالي أكبر عدد من المقاعد داخل البرلمان.أيضا من ضمان نجاح الديمقراطية النيابية ، وجود فصل بين السلطات ، ولكن ليس بمعنى القطيعة ، بل بمعنى الاستقلالية والتعاون.وغالبية الدول الديمقراطية في العالم اليوم تأخذ بالديمقراطية النيابية ، ولكنها تختلف من حيث طبيعة العلاقة وتوزيع الصلاحيات ما بين السلطة التنفيذية والسلطة الرئاسية، فنجد نظاما رئاسي كما هو الأمر في أمريكا ومصر، ونظام برلماني كما هو الحال في بريطانيا والمغرب ، ونظام شبه نيابي كما هو في فرنسا .
المطلب الثاني: الديمقراطية من حكم الشعب إلى حكم النخبة
منذ حكماء اليونان والفكر الديمقراطي يبحث عن صورة مقبولة يتجسد عبرها مفهوم "الشعب" للدلالة على النظام الديمقراطي المفتوح أمام كل "الشعب" ويبدو أنه قد أخفق في إيجاد تلك الصورة حتى مع منظري عصرنا الذين هم مولعين أو محترفين للفكر الديمقراطي، والواقع السياسي والتجارب السياسية قد زادت في تكريس ذلك الإخفاق.
وما يقال عن عبارة "الفئة التي تكون الشعب" ينسحب على عبارة "ممارسة الحكم" فمن المؤكد أن ممارسي الحكم والسلطة ليسوا هم كل الشعب بل هم بالتحديد عينة أو أقلية أو نخبة من بين هؤلاء. فلقد كان يتم مقارنة النظام الديمقراطي بالأرستقراطية "حكم النبلاء أو النخبة" أو الميروتوقراطية "حكم الأكفاء أو المؤهلين" أو الأوليغارشية "حكم الأقلية"، ولقد كانت هذه المقارنة مقبولة ومستساغة من منطلق وجود عنصر التمييز بين كل أنواع الحكم هذه من جهة والحكم الديمقراطي باعتباره "حكم الأكثرية" من جهة أخرى. لكن أصبحنا نلمس لدى مفكري عصرنا ميلهم إلى التشكيك في كون النظام الديمقراطي هو "حكم الأكثرية" فعلا ولعل نظريات النخبة التي صاغها بعض المفكرين "باريتو – موسكا – ميلز – ميشيلز..." تقول بأن الشواهد التاريخية وواقع المجتمعات المعاصرة وبغض النظر عن الأيديولوجية السائدة فيها ومستوى نموها الاقتصادي والاجتماعي وطبيعة نظام الحكم المعمول به، تتميز بوجود أغلبية محكومة وأقلية حاكمة وسواء كان النظام القائم اشتراكياً أو ديمقراطياً، ديكتاتورياً أم دينياً أم أرستقراطياً، متقدماً أو متخلفاً، فإن هناك "نخبة" تحتكر أهم المناصب السياسية والاجتماعية في المجتمع. وهناك الأغلبية أو "اللانخبة" وهم عامة الناس. سنشير إلى ذلك بعد قليل –
أصبح اليوم من الصعب التمييز بين الأنماط المختلفة من الحكم خاصة بين النظام الديمقراطي والنظام الأولغارشي المحسن "حكم النخبة"، أو النظام الميرتوقراطي "حكم الأكفاء والمؤهلين" على أساس أن هناك من يُعرف "النخبة" بأنها تمثل أولئك الذين يتفوقون في مجالات عملهم المختلفة، بمعنى أن كفاءاتهم ومؤهلاتهم تجعل منهم نخبة المجتمع. فإذا كانت الدولة الديمقراطية الحديثة تحتاج إلى تنظيم – وخصوصاً تلك التي تتميز بكثرة عددها – فإن التنظيم يحتاج على أقلية منظمة وهذه الأقلية تتشكل من نخبة المجتمع.
إن أقصى ما وصل إليه التنظيم السياسية للمجتمعات الحديثة المحسوبة على الأنظمة الديمقراطية هو خضوع الأغلبية لحكم الأقلية ولكن برضى الأغلبية ومن هنا أصبحت الديمقراطية تأخذ صيغة مخالفة تماماً للصيغة الكلاسيكية التي انطلق للبحث عنها الفكر الديمقراطي – حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب – إذ أضحى عوض ذلك يأخذ صيغة "حكم الشعب بنخبة من الشعب لصالح الشعب. من هنا فالفرق الوحيد بين الأوليغارشية والنظام الديمقراطي هو كون الأقلية الحاكمة في الحكم الأوليغارشي لا تستند على إرادة شعبية في حين أن النظام الديمقراطي يستوجب على "النخبة" أن تأخذ موقعها في السلطة على أساس الإرادة الشعبية.
لقد كان منظرو النخبة من أهم الذين أعادوا النظر في الفهم الشائع عن الديمقراطية مبينين أن الديمقراطيات الحديثة لا تحمل من الديمقراطية الكلاسيكية إلا أسمها وروحها، وأنه باستثناء فترة قصيرة من عمر البشرية – ملحة الديمقراطية الأثينية – لم يعرف التاريخ حالة كان الشعب يحكم فيه نفسه بنفسه، بل كان دور الجماهير في العملية السياسية هامشياً، نظراً لعدم تنظيمها أو جهلها ولتضارب المصالح بين أفرادها وتباين المعتقدات والميول والأصول الطبقية. هذا لا يعني رفض الديمقراطية بل إعطاء مفهوم جديد للديمقراطية بحيث تتحول من حكم الشعب إلى نظام سياسي تتنافس فيه الأحزاب السياسية على أصوات الجمهور، وتتسم بالتعددية وهو الأمر الذي يسمح للنخبات أن تتكون بحرية وتنشئ مزاحمة منظمة بين النخبات على مراكز السلطة
هذا التقليل من أهمية دور الجماهير كمشاركين في الحكم في الديمقراطيات المعاصرة يلمسه العديد من المفكرين السياسيين، فعالم الاجتماع السياسي الإيطالي موسكا mosca يرى أن الجمهور ما هو إلا أداة يوظفها الأقوياء ليصلوا إلى السلطة وبالتالي يضفون الشرعية على وجودهم، حيث يقول: "لا ينتخب الناخبون الممثل، ولكن كقاعدة عامة يصار إلى انتخابه بواسطتهم إلا إذا تولى أصدقاؤه هذه المهمة بالسعي لانتخابه".
في نفس الاتجاه يذهب جوزيف شومبيتر في كتابه – 1942 – CAPITALISME AND DEMOCRACY ، فهو يرى أن ا|لأسس التي تقوم عليها الديمقراطية الكلاسيكية مجرد خرافات، فالشعب أعجز في نظره من أن يتممكن من حكم نفسه بنفسه، والمواطن العادي يتسم بالقصور وعدم المبالاة أمام الأمور السياسية، وعليه يطالب شومبيتر بتحويل مفهوم الديمقراطية من "حكم الشعب" إلى "حكم معتمد على الشعب"، أو "حكم لصالح الشعب"، فالديمقراطية الحق هي التي تفسح المجال للأفراد الأكثر قدرة والأكثر نبوغاً لممارسة الشأن السياسي، وإن أقصى ما يطمح إليه المواطن العادي هو ممارسة حقه في "قبول أو رفض من سيحكمه من خلال العملية الانتخابية"، ومن هنا يعطي تعريفاً للديمقراطية بأنها: "تنظيم تأسيسي القصد منه التوصل إلى قرارات سياسية، حيث يحرز الأفراد من خلاله سلطة التقرير بواسطة التنافس على/ أو الصراع من أجل/ الظفر بصوت الشعب".
لم يشذ جيوفاني سارتوري عن هذه المقاربة الواقعية للديمقراطيات المعاصرة، معتبراً أن النظرية الكلاسيكية للديمقراطية كانت تضخم من دور الشعب في الحياة السياسية دون وجه حق، ورأى أن الخطر الحقيقي على الديمقراطية لا يأت من الدكتاتورية أو الأرستقراطية، بل من تدخل الشعب في عمل النخبة السياسية، وعرقلة قيامها بحقها الطبيعي في الحكم. ومن هنا فهو يطالب ببقاء السلطة السياسية بيد النخبة الحاكمة ما دامت تتوفر على عناصر الامتياز والتفوق الذي يعترف لها به الجميع. إن المهم في الديمقراطية بالنسبة له ليس أن يحكم الشعب، فهذا أمر غير ممكن وغير مفيد للشعب، المهم في نظره هو أن يستجيب القادة لمطالب ومصالح الشعب، المهم هو ضمان الاستقرار السياسي في المجتمع حتى تتفرغ الدولة للقيام بمهامها الداخلية والخارجية