الديمقراطية كصيرورة تاريخية واجتماعية
أن تتوافق عدة مجتمعات على خيار الديمقراطية كنظام حكم ، هذا لا يعني عدم وجود خصوصيات وتباين في الثقافات ، أن يكون نظام ما ديمقراطيا لا يعني آن يتشابه مع بقية الأنظمة الأخرى ، وان نقول بان الديمقراطية هي حكم الشعب ، فهذا لا يعني أن الشعوب في كل الأنظمة الديمقراطية تمارس السلطة بنفس الطريقة ، أو أنها تتمتع بنفس الحقوق .
الديمقراطية في عالم متغير
مما سبق يمكن القول بأن الديمقراطية بمعنى "حكم الشعب بالشعب" فيه الكثير من الطوباوية بل أمر مستحيل اليوم وبالتالي فالتعريف المناسب حالياً هو "حكم الشعب بنخبة من الشعب لصالح الشعب"، إن الديمقراطية السائدة اليوم في الغرب هي حكم نخبة تحض برضى الشعب، أو هي توليفة سبق أن عبر عنها أرسطو، في نقده للديمقراطية الاثينية، توليفة تجمع ما بين حكم الشعب وحكم الأرستقراطية وحكم الفرد أو الأفراد النابهون، ويعدد روبرت دال من المفكرين المعاصرين الذين احيوا الجدل القديم حول علاقة الديمقراطية بحكم القلة، حيث كتب يقول: "من هم الأفضل تأهيلاً لتولي الحكم؟ هل تتم حماية مصالح الناس الاعتياديين من قبلهم شخصياً وعن طريق ما يتخذون من إجراءات خلال العملية الديمقراطية؟ أم من قبل مجموعة من القادة الأخيار القديرين الذين يتمتعون بقدر غير عادي من المعرفة والفضيلة؟" إنه نفس السؤال الذي طرحه أفلاطون في سياق نقده لديمقراطية أثينا التي كان يسميها حكم الغوغاء، إلا أن دال وغيره من نقاد الديمقراطية لا يرومون تجاوز الديمقراطية أو الطعن بها بل إعطاء فهم صحيح لها يتوافق مع معطيات العصر وخصوصاً تعقد الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية بما هو خارج قدرة الشعب ككل على النظر السليم في هذه الأمور.
لا تعوز روبرت دال الحجة للدفاع عن نظرية جديدة للديمقراطية يحررها من طوباوية نعتها بحكم الشعب أو أن الشعب هو الذي يقرر في كل صغيرة وكبيرة، حيث يقول: "وكما يعلم الجميع فإن معظم القوانين والسياسات في البلدان الديمقراطية الحديثة لا يتم إقرارها من خلال اجتماعات المجالس البلدية، أو الاستفتاءات العامة، أو استطلاعات الرأي، أو غيرها من أشكال الديمقراطية المباشرة، إن السياسات لا تأتي مباشرة نتيجة الانتخابات. إن ما يحصل بدلا من ذلك كله هو أن المقترحات التي تطرح يتم النظر فيها وتمحيصها من قبل لجان متخصصة تابعة لهيئات تشريعية، وكذلك من خلال جهات أو وكالات تنفيذية وإدارية يكون أعضاؤها بصورة عامة من ذوي الكفاءات والخبرات العالية. إن للخبرة والمهارة أهمية بالغة في الواقع بحيث أن أنظمة حكمنا عرفت بكونها كيانات حكم تجمع بين الديمقراطية "حكم الشعب" والميرتوقراطية – حكم المؤهلين – إن الاسم الذي يدل على واقع الأنظمة الديمقراطية المعاصرة هو polyarchy – الحكم الجمعي –" .
هذه المقاربة التي تقلل من أهمية المؤسسات التشريعية في اتخاذ القرارات السياسية داخل المجتمعات الديمقراطية المعاصرة سبق وأشار إليها أفلاطون في سياق نقده للديمقراطية في بلده، فكتب في محاورته وعلى لسان سقراط مشجعاً صديقه خارميدس على خوض الحياة السياسية ومستهزئاً من الجمعية الشعبية قائلاً: "إنك لا ترهب مخاطبة أكثر الناس ذكاء ومقدرة، وها أنت تخجل من مخاطبة جمهور من التافهين والبلهاء، ممن تخجل؟ من حلاجين وإسكافيين ونجادين وحدادين وفلاحين وتجار وأصحاب حوانيت في الأسواق، أناس كل همهم أن يشتروا بسعر أقل ليبيعوا بسعر أعلى؟ هؤلاء هم أعضاء الجمعية الشعبية "الإكليزيا"". 2ومن يشاهد اليوم اجتماعات البرلمانات في بعض دول العالم الثالث وفي الدول العربية خصوصاً سيحس وكأن هذه المقولة مازالت صالحة إلى اليوم، وكم هو بعيد عن الحقيقة القول بأن هذه البرلمانات تمثل الشعب وتحكم باسمه، فواقع برلماناتنا "الممثلة" للشعب هي آخر من يمكنه أن يحكم ويتخذ القرارات في الأمور المصيرية.
كان لابد من تبيان المفاهيم المعاصرة للديمقراطية ولو من وجهة نظر نقادها، حتى لا يتملك المرء في مجتمعاتنا وهم بأن الديمقراطية تعني أن يحكم الشعب، أو أن كرسي الحكم متاح لكل من هب ودب ممن يحمل صفة مواطن، وحتى أيضاً نبين إنه إذا كان في الغرب، حيث مستوى التعليم والثقافة والمعيشة مرتفع، هناك من يشكك في قدرة الشعب على الحكم، فكيف الحال في مجتمعاتنا حيث الجهل والأمية والتخلف والسعي المحموم للمواطن وراء رغيف الخبز، أيضاً حتى نربط الموضوع بالإشكال الأساس وهو أن المواطن لا يريد من الديمقراطية أن يصبح حاكماً بل يريد منها أن تؤمن له متطلبات الحياة الكريمة سواء شارك في الحكم أم لا.
إن الانطلاقة التي بدأناها مع مفهوم الديمقراطية وما جاء به نقاد الديمقراطية، يبين لنا بأن حمولة هذا المفهوم قد ابتعدت عما كانت تكتنزه عند انطلاق التفكير بالديمقراطية والعمل بها. ومع ذلك حتى مقاربة مفهوم الديمقراطية لغوياً قد نال منه الزمن وحوّر عن أصله الأول، فلا "الشعب" هو الشعب ولا "ممارسو الحكم" هم ممارسو الحكم بل حتى مفهومي الحكم والسلطة هما اليوم أكثر تعقيداً مما كان عليه الأمر عندما وجد مفهوم الديمقراطية.
وتبعاً للتحولات التي عرفتها الديمقراطية فكرة وممارسة، فقد فقدت كثيراً من بريقها بل وحتى من مضمونها فسلطة الشعب لم تعد في عصرنا تعني أن يعتلي الشعب عرض الأمير، بل تعني كما قال "كلود لوفور" إنه لم يعد ثمة عرش. السلطة الشعبية تعني أن يكون بوسع العدد الأكبر من المواطنين أن يعيشوا بحرية أي أن يبنوا حياتهم الفردية بأن يجمعوا بين ما هم عليه وما هم ساعون إلى تحقيقه، بأن يقاوموا السلطة باسم الحرية وباسم الوفاء للموروث الثقافي في آن معاً. النظام الديمقراطي هو صيغة الحياة السياسية التي تزود العدد الأكبر بأكبر قسط من الحرية .
هذا جانب مما كنا نود إثارته حول دلالة المفهوم لكي ننتقل للحديث عن ما حققته الديمقراطية عبر التجارب العديدة التي ساهمت في إرساء قواعد وأسس الديمقراطية، فمن بين هذه الأسس ما بلورته الديمقراطية من مؤسسات. هذه المؤسسات تباينت ما بين تلك التي هي خاصة بالمجتمع السياسي "السلطة وما يرتبط بها" وبين تلك التي هي خاصة بالمجتمع المدني – على اعتبار أن غياب الديمقراطية يحول إحالة شبه مطلقة دون نشأة مؤسسات المجتمع المدني – ولكن يجب الإشارة إلى كون هذه المؤسسات تطلبت ثقافة سياسية معينة تسمح باستيعاب دلالاتها ووظائفها، وهو ما تحقق إلى حد كبير في الأنظمة الغربية حيث أن هذه المؤسسات واكب قيامها أو سبقها فكر سياسي معين – ليبر إلي يبشر لهذه المؤسسات ويؤطرها.
فالديمقراطية لا تقوم فقط على القوانين والمؤسسات بل تقوم قبل كل شيئ على ثقافة سياسية التي لا يمكن أن تنشأ ما لم يكن هناك فهم وإدراك للمجتمع السياسي بما هو تركيبة مؤسساتية ترمي بالدرجة الأولى إلى التوفيق بين حرية الأفراد والجماعات وبين وحدة النشاط الاقتصادي والقواعد الاجتماعية . كل ذلك بما يحقق أفضل مستوى معيشي للإنسان، لأن الديمقراطية ليست هدفاً بحد ذاته بل وسيلة لهدف أسمى وهو الحياة الكريمة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.
إن الانسجام بين الثقافة الديمقراطية والمؤسسات الديمقراطية من الأهمية بمكان ذلك لأن العكس يحدث انعكاسات سلبية تهدد الديمقراطية وفي حالات أخرى النظام الاجتماعي ككل، فالمؤسسات الديمقراطية بما هي وعاء يقوم بوظائف متعددة من تمثيل وتأطير ودمج وتنمية وتنشئة...يتطلب بالمقابل وجود ثقافة تسمح باستيعاب هذه الوظائف وعدم التصادم معها. مجرد وجود انتخابات ورجال منتخبون ومؤسسات شبيه بالدول الديمقراطية لا يعني وجود ديمقراطية، إن الديمقراطية ممارسة وثقافة، وأحياناً يكون حاكم "ديمقراطي" – وصل عن طريق انتخابات – أكثر فساداً وسوءاً من طاغية مستبد، الانتخابات وخصوصاً في دول العالم الثالث تتحول أحياناً على آلية لإضفاء الشرعية والمشروعية على حكم الاستبداد.
لقد مكنت المؤسسات الديمقراطية بعد نضجها من تحقيق أعلى هدف من الديمقراطية يتمثل في تحقيق الوحدة في ظل الاختلاف، فمن المعلوم أن الاختلاف بمختلف أشكاله سمة مجتمعية لا يمكن القفز عليها بأن وسيلة أو ذريعة سواء قومية أو وطنية أو إيديولوجية بل حتى دينية "اختلاف أئمتي رحمة". فالتباين العرقي والثقافي والاقتصادي أمر مسلم به في كل مجتمع وهو سنة من سنن الخلاق، لكن الفرق الكامن بين هذا المجتمع وذاك هو قدرة مؤسساته على تحقيق الانصهار والتعايش والتساكن بين مختلف تلك المكونات.
لقد عملت الديمقراطية على احترام التنوع المجتمعي من خلال قيامها على أسس شاملة، وبذلك أصبحت حقوق الأقليات مصونة بحكم قواعد الديمقراطية. فالثقافة الديمقراطية سعت دائماً إلى حماية التنوع من خلال زرع قيم في المجتمع تسلم بحق الاختلاف والتنوع وتجعل منه أساس الاغتناء الثقافي والحضاري، فالثقافة الديمقراطية تتحدد وتعرف بما هي جهد مبذول في سبيل الجمع بين الوحدة والتنوع بين الحرية والتوحيد، لذلك تعرف باعتبارها توفيقاً ودمجاً بين عدد من القواعد المؤسساتية المشتركة وبين تنوع المصالح والثقافات، ففي الديمقراطية لا تعارض بين سلطة الأكثرية وحقوق الأقليات: فلا وجود للديمقراطية إلا باحترام كل منهما للأخرى. فالديمقراطية هي النظام الذي تعترف الأكثرية فيه بحقوق الأقليات ، أي أن الديمقراطية لا تقوم على مبدأ الإقصاء بل التعايش والتساكن، ولكن في المقابل على الأقلية القبول بالسياسة التي ترسمها حكومة الأكثرية.
كما أن الديمقراطية بما هي ضمانة لحق الاختلاف والتنوع، فإن النظام الديمقراطي يقاس بقدرته على استيعاب مختلف المكونات. والقدرة الاستيعابية للنظام الديمقراطي يمارسها عبر المؤسسات المتوفرة وعبر روح الديمقراطية المتفشية في الثقافة السياسية الديمقراطية، فضلاً عن أن هذه المؤسسات لا تبقى جامدة إلى الأبد، بل إنها تتغير كماً ونوعاً، فبفعل التغيرات الناتجة عن العصرنة والتحديث المتسارعين يترتب صعود فئات جديدة تطالب بحقها في السلطة – السلطة بمفهومها الواسع – فلكي يكون النظام الديمقراطي فاعلاً عليه إما أني زيد في القدرة الاستيعابية للمؤسسات الموجودة أو يعمل على إنشاء مؤسسات جديدة إضافية لصهر ودمج الفئات الجديدة الناتجة عن التحديث والعصرنة، دمجها وتمكينها من المشاركة في السلطة إن أرادت.
الديمقراطية إذا هي مجموعة مؤسسات تصهر التنوع والاختلاف بفعل سيادة ثقافة ديمقراطية تساعد على تقبل المؤسسات وفهمها وعلى التعايش والاقتناع بحق الآخر في الوجود. أيضاً الديمقراطية ليست فقط نقيض الاستبداد بل هي أيضاً نقيض الطائفية، فاللجوء إلى هذه الأخيرة يقضي على الديمقراطية كلما أدى هذا اللجوء باسم ثقافة ما إلى تعزيز سلطة سياسية لا تعبر عن إرادة الأغلبية، وبالتالي كلما أدى إلى القضاء على استقلالية النظام السياسي وإلى فرض علاقة مباشرة بين سلطة وثقافة .
فلا غرو إذن أن الديمقراطية بما هي نتاج بيئة وأرضية ومحيط معين فهي تنطبع بطبائع تلك البيئة والأرضية أو ذاك المحيط. إنها ليست مجرد نظام سياسي بل واجتماعي أيضاً، وعليه فلا يمكن أن نبقى عند الحديث عن الديمقراطية أسى تجارب ديمقراطية معينة في مجتمعات معينة. فخصوصية كل مجتمع تجعل نظام الحكم متباين، بشكل ما، عن أي نظام حكم في مجتمع آخر، فإذا كانت الثورات – السياسية والاجتماعية والدينية والصناعية – المتعاقبة التي عرفتها أوروبا الغربية منذ قرون قد أفرزت نظام الحكم السائد بها حالياً، فإنه بالمقابل هناك مجتمعات أخرى لم تعرف نفس المسار ولم تختمر بها ثقافة ديمقراطية تنسجم مع الحكم الديمقراطي، إن تلك المجتمعات تسود بها بنيات وعلاقات من طينة أخرى، وهي مترسخة متجذرة .
إن انتقال هذه المجتمعات نحو الديمقراطية كنظام حكم بمؤسساته العصرية قد واجه صعوبات متعددة عصفت بحلم الانتقال الديمقراطي عند العديد منها، ولعل السبب كما أوضحته مختلف التجارب يعود إلى بنية المجتمع من جهة وإلى الكيفية التي جرت بها عملية الانتقال نحو الديمقراطية من جهة أخرى. فقد لاحظنا إقحام مؤسسات عصرية تزاحم المؤسسات التقليدية وتحاول إقصاءها دون تهيئ الأرضية الملائمة لتقبل هذا الدخيل على بنيات النظام، كما أن هذا الانتقال تم من فوق أي من قبل النخبة الماسكة بزمام السلطة والتي إما أنها تلقت في الغالب تكويناً مكنها من الاقتناع بالثقافة التي أطرت تلك المؤسسات العصرية دون أن يتم نقل تلك الثقافة إلى باقي الشرائح الاجتماعية فوقع بالتالي تنافر بين الثقافة السائدة والمؤسسات الحديثة وما تتطلبه من ممارسات واستحقاقات، وإما أن هذه النخبة لا تؤمن بالضرورة بالديمقراطية وإنما ضغوط خارجية فرضت عليها الأخذ بالنهج الديمقراطي، فاصطنعت مؤسسات تشبه ما يوجد في الدول الديمقراطية ولكن مفرغة المضمون.
إلا أن هناك نماذج مغايرة تمكنت من إحداث تعديلات جوهرية وعميقة على نظامها السياسي من خلال استيراد نماذج حكم غربية باعتبارها ديمقراطية، ولكنها في الوقت نفسه تبعتها أو واكبتها عملية تثقيف مجتمعي استيعاب، مع حفاظ النظام القائم على أهم دعائمه وخصوصياته فتم التعايش بالتالي بين المحلي والوافد دون حدوث أي ارتجاج في السير العادي للنظام. كما أن العملية في هذه النماذج تمت "خطوة خطوة" أي دون تسرع أو اندفاع مفرط. بل كانت العملية الديمقراطية على أساس ورش بناء يقتضي وجود أساس وأعمدة صلبة وتوازن وتناسق كي لا يختل البناء ويتساقط ويتلاشى أو يهوي بالمرة.
إن اعتماد هذه المجتمعات للديمقراطية كنظام حكم لم يجعلها تنساق وراء فكرة النموذج الجاهز بل أبانت تجاربها على أن الديمقراطية تتكيف حسب خصوصية كل مجتمع فلا وجود لنموذج حكم ديمقراطي قابل للاستعمال في كل المجتمعات، وهذا ما يجعل التباين قائماً حتى بين مجموعة من الأنظمة الغربية رغم أنه لا يجادل أحد في الطبيعة الديمقراطية لمؤسساتها. ولكن طبيعة وتاريخ ومكونات كل مجتمع فرضت نظام حكم يختلف عن أنظمة الحكم الأخرى.
من هنا يمكن القول بأن الديمقراطية لا تقبل في عملية بنائها الاندفاع المفرط بل هي عملية بناء متواصلة تقوم على أساس الحلول الوسطى فالديمقراطية كانت دائماً حركة إصلاحية في بدايتها، تقوم على مراكمة الإنجازات ولكنها تؤدي في النهاية إلى ثورة مجتمعية وهذا واقع الدول الغربية واليابان، وهي أكثر الدول ثورية نظراً لما حققته الديمقراطية في هذه المجتمعات من مكاسب على شتى الأصعدة مكنتها من أن تتبوأ موقعاً ضمن الدول المتقدمة والمتطورة، في حين أن (الأنظمة) الثورية والانقلابية بدأت ثورية وانتهت محافظة ورجعية لأنها جعلت شعوبها في أدنى درجات التطور وأعلى درجات التخلف.
إن غياب النموذج – المثال – في الحكم الديمقراطي يمنح للمجتمع إمكانية المحافظة على مقوماته الأساسية من مؤسسات وثقافات وعادات وتقاليد وأعراف وتاريخ، وفي الوقت نفسه إقامة وإرساء آليات ديمقراطية تسمح بالتنوع في ظل الوحدة وتمنح لأكبر عدد ممكن من المواطنين حق تسيير الشؤون العامة وتحديد الاختيارات الكبرى، مع ضمان حقوق الأقليات وعدم تهميشها.
لا مندوحة إذن من الاعتراف بأن تباين المجتمعات وحرصها على عدم فقدان هويتها وخصوصيتها وفي الوقت نفسه إقامة نظام ديمقراطي لا يتجاهل تلك الهوية وتلك الخصوصية، يجعلنا أمام تعدد في الأنظمة الديمقراطية يساوي عددها عدد من آمن بها "تتعدد الديمقراطيات بتعدد الديمقراطيين". هذه الحقيقة لمسها المختصون بالحياة السياسية والثقافية لدول العالم الثالث وما تشهده هذه الدول من عملية تنمية سياسية، ومن هؤلاء المدير العام السابق لليونسكو فريدريكو مايور الذي قال بوجود مداخل متعددة للديمقراطية لا مدخل واحد، وهي النتيجة التي استقاها من خلال احتكاكه المباشر وتمنعه بالتجارب الديمقراطية في دول العالم الثالث والفشل الذريع الذي منيت به تجارب ديمقراطية حاولت أن تكون نسخة طبق الأصل من النموذج الغربي.
فالقول بأن الدول الغربية – أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان – عريقة في الديمقراطية مع تباين طبيعية كل نظام سيجعلنا نتساءل عن ماهية العناصر التي توجد بين مختلف تلك الأنظمة وتمنحها صفة الديمقراطية، إن ما يميز تلك الأنظمة هو اعتراف مؤسساتها بالحرية الفردية والجماعية والحرية الفردية والجماعية لا قبل لها بالوجود ما لم يكن العدد الأكبر قادراً على المشاركة في إيجاد المؤسسات المجتمعية وفي تغييرها .
إذا كان الأساس الذي يوجد بين مختلف الأنظمة الديمقراطية العريقة هو أن الحكام ينتخبون عن طريق الشعب والشعب يمارس دور الرقابة عليهم ويمكنه تغييرهم إن أخلوا بالتزاماتهم، فأن هذا الأساس يمكن تكييفه حسب خصوصية كل مجتمع سواء من حيث قواعد الانتخاب أو من حيث إمكانات المراقبة والمحاسبة أو من حيث توزيع السلط والعلاقة بينها، إلا أن القواعد التي يتم بها تكييف هذا الأساس تشكل ثوابت أو مرجعية متفقاً عليها من قبل كل الفرقاء، ونعني بهذه الثوابت أو المرجعة نظام الحكم: ملكي أو جمهوري، خاضع لمبادئ الليبرالية أو الاشتراكية، نظام حزبي ثنائي أو تعددي..هذه تشكل ثوابت أساسية لا تكون محل نقاش أو مساومة، في حيث تبقى هناك ثوابت تأتي في الدرجة الثانية بعد الثوابت التي رأينا، وهي تتشكل غالباً من الاختيارات الكبرى التي يتم التوافق أو التراضي حولها بين مختلف الفرقاء، والتي يمكن أن تخضع لتعديلات ظرفية أو اضطرارية.
إن أي مس بمقومات وبثوابت النظام القائم على أسس ديمقراطية يتم بطرق غير ديمقراطية، ينزع عنه الصفة الديمقراطية، وأن أي عمل يتم خارج تلك الثوابت يكون عملاً خارج الشرعية وبالتالي يهدد النظام بالاختلال وعدم الاستمرارية، وهو ما لا يتلاءم مع طبيعة النظام الديمقراطي، لأن الديمقراطية تتوفر على آليات لتصحيح أخطائها وتطوير ذاته وما جرى في النمسا في الانتخابات الأخيرة – فبراير 2000 – يعد مؤشراً على ما سبق قوله
ما عرفته النمسا وفلسطين يعد مؤشراً على تحولات تعرفها الديمقراطية مفهوماً وممارسة يجب أن لا يخطئها أحد وخصوصاً في الدول المزمعة الأخذ بنهج الديمقراطية، مؤشر يحتاج إلى مقاربة جديدة للديمقراطية تأخذ بعين الاعتبار ما كان غير وارد كمكون من مكونات الديمقراطية وهو البعد الدولي أو العالم الخارجي كمحدد في رسم السياسات الوطنية.
فما حدث في النمسا بداية عام 2002 ،هو أن الشعب النمساوي وفي إطار ممارسته لحقه في حكم نفسه حسب آليات الممارسة الديمقراطية الغربية الأصلية أعطى نسبة 27 في المائة من الأصوات لحزب الحرية اليميني بزعامة يورغ هايدر مما جعل لا خيار أمام مستشار النمسا من إعطاء الضوء الأخضر لتشكيل حكومة ائتلافية يشارك فيها حزب الحرية حسب مقتضيات الدستور، ولكن الصهيونية العالمية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية تحركوا بقوة مهددين باتخاذ عقوبات ضد النمسا إذ ما شارك حزب الحرية في الحكومة، وبالفعل نفذت العقوبات بعد قيام الحكومة الائتلافية.
القراءة العابرة والمبنية على موقف مسبق من إسرائيل والغرب سيفسر الأمر بأنه شكل من أشكال السيطرة والتأثير الصهيوني على سياسات الدول من حيث محاولة الصهيونية العالمية اعتبار معاداة السامية شرطاً نافياً للديمقراطية ومتناقضاً معها، هذا التفسير صحيح ولا شك ولكن نسبياً، لأنه من المعروف أن ليورغ هايدر مواقف وتصريحات وطنية متطرفة، ومن يتطرف وطنياً يصاب أحياناً بمرض معادة الأجانب بشكل عام مما يجعله يلتقي في بعض الأمور مع طروحات النازية، كما أن هايدر وحزبه لا يخفيان الاستياء من الممارسات الصهيونية ومواصلة إسرائيل ابتزاز النمسا وأوروبا بذريعة التكفير عما فعله هتلر بالهيود. إلا أن هذه القراءة للحدث تبقى ناقصة ولا تفسر الأمر بالشكل الذي يضعه في سياق التحولات العالمية لما بعد الثنائية القطبية، واستحقاقات العولمة الثقافية، وتحديداً في سياق التحولات التي بدأت تطرأ على الديمقراطية فكراً وممارسة.
نفس الأمر حدث في مناطق السلطة ،فضمن استحقاقات اتفاقية أوسلو تمت الدعوة لإجراء انتخابات في مناطق السلطة ،وبالفعل جرت انتخابات رئاسية وبرلمانية عام 1996 بأشراف مراقبين دوليين وتحت متابعة دقيقة من الولايات المتحدة،وحصل ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية على أغلبية الأصوات ،وبارك العالم هذه الانتخابات وتعاملت الولايات المتحدة مع الرئيس أبو عمار كرئيس منتخب وتم استقباله على هذا الأساس في البيت الأبيض أربعة عشر مرة ،ولكن عندما رفض أبو عمار الخضوع للشروط الأمريكية والإسرائيلية للتسوية ،تمت محاصرته وعزله ورفضت الولايات المتحدة التعامل معه بل شككت في شرعيته السياسية ،وهذا يطرح تساؤلات حول مصداقية الولايات المتحدة عندما تتحدث عن الديمقراطية ،وتساؤلات حول دور العوامل الخارجية في التحولات والممارسة الديمقراطية الداخلية .
لقرون والديمقراطية فكراً وممارسة تُعرف وتُمارس كنظام حكم يقوم بمقتضاه المحكومون – الشعب – باختيار الحكام بحرية، وبالرغم من كل ما عرفته الديمقراطية فكر وممارسة من تنقيحات وتطورات ومن بعض الخصوصيات حسب ظروف المكان والزمان، إلا أنها بقيت أمينة على جوهرها ، تجسيد إرادة الأمة، وإرادة الأمة تتموقع سياسياً ونظامياً عندما يختار الشعب حكامه بحرية دون أي تدخل أو ضغط. والحرية المتضمنة في الديمقراطية ليست فقط حرية المواطنين كأفراد في اختيار الحكام وفي مراقبتهم ومحاسبتهم، بل تعني أيضاً حرية الأمة بكاملها في اختيار حكامها ونظامها السياسي، وهذه الحرية الأخيرة نصت عليها المواثيق الدولية التي اعتبرتها ركن أساسي من أركان مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها.
لا شك أن مبدأ الحرية المتضمن في الديمقراطية لا يعني الحرية المطلقة التي هي رديف لشريعة الغاب أو الفوضى، بل هي الحرية التي تقوم على ثوابت وأسس وهي المرجعية التي منها تُستمد الحرية وتُمارس، ومنها تسن القوانين وتقام المؤسسات، إلا أن هذه الثوابت أو المرجعيات يضعها الشعب من خلال مؤسساته ودساتيره ويغيرها متى تقتضي الضرورة، وتأسيس المرجعيات ومراجعتها أو تعديلها يتم أيضاً بالطرق الديمقراطية وعبر تاريخ الديمقراطية وهي نظام حكم لا يخضع إلا لمحددات وطنية، وكان أي تدخل خارجي أو ضغط للتأثير على حرية الشعب في اختيار حكامه يعد تدخلاً خارجياً يستحق الإدانة والشجب.
لا غرو إذن أن الغرب كان لعقود وهو يتعايش مع نظم غير ديمقراطية: شيوعية كانت أو عسكرية أو دكتاتورية، حيث كان يعتبر طبيعة نظام الحكم هو شأن داخلي لكل دولة وأمر من أمور السيادة، وذروة ما كان يفعله هو التحرك محتجاً إذا حدث ما يعتبره انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، وحتى في هذه الحالة كانت المصالح تلعب دوراً في تحديد مفهوم الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان. لا شك أن الدول الغربية حاولت منذ بداية الحرب الباردة وظهور فكرة الوحدة الأوروبية ومباشرة صيرورتها واقعاً، أن توجد معايير أو قيم مشتركة ما بين القوى السياسية التي تتقاسم فضاء التنظير والممارسة السياسية. حدث هذا على مستوى البلد الواحد، في ألمانيا الغربية في منتصف الخمسينات وفي الولايات المتحدة في العهد المكارثي، حيث تم حظر أو التضييق على الأحزاب الشيوعية واليسارية المتطرفة باسم الحفاظ على قيم المجتمع الليبرالي، كما حدث على مستوى دول الحلف الأطلسي كمجموعة عندما تكتلت دول الحلف لمواجهة ما سمته أممية الإرهاب وخطر المد الشيوعي المهدد للديمقراطيات الغربية أو العالم الحر، إلا ان هذه السياسات كانت محدودة وتجد كثيراً من التحديات.
لم يكن سقوط نظام الثنائية القطبية مجرد سقوط لقوة الاتحاد السوفييتي العسكرية التي كانت تواجه قوة حلف الأطلسي، بل كان أيضاً سقوطاً لخطوط دفاعية ومقاومات ذات طبيعة فكرية وسياسية وقانونية كانت تحول دون أن تصبح الديمقراطية بنموذجها الغربي نظاماً عالمياً. لقد شرع سقوط المعسكر الاشتراكي وتوابعه الباب نحو العولمة بكل أبعادها بما فيها الثقافية والسياسية، وكان نشر الديمقراطية بثوابتها الغربية على رأس فتوحات العولمة كثيرة كانت مؤشرات عولمة الديمقراطية الغربية، منها تزايد حالات التدخل الإنساني، واستعمال المؤسسات المالية الدولية كأداة ترهيب وترغيب على الدول لفرض قيم الغرب السياسية والاقتصادية، وحصار ومعاقبة الدول التي ترى الدول الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة أنها تخرج عن قواعد الممارسة الديمقراطية.
انتصار الغرب – نصر دون حرب – على المعسكر الاشتراكي أعطاه الحق لأن يصيغ قيم وثوابت لديمقراطية أرادها أن تسود العالم، قيم وثوابت تنبع من قيم الغرب ذاته وما يتفق مع مصالحه، كما أن هذا الانتصار أعطاه الحق بالتدخل إذا ما حاد نظام ما عن هذه الثوابت حتى وإن كان نظاماً ديمقراطياً بالمفهوم "التقليدي" – ونحن هنا نقصد بالتقليدي ما قبل انهيار المعسكر الاشتراكي – أي حتى وأن كان الشعب هو الذي انتخب حكامه. هكذا أصبحت العلمانية من ثوابت الديمقراطية، وإذا ما انتخب الناس بطرائق الديمقراطية أناساً غير علمانيين – كما جرى في الجزائر وفي تركيا – فالأولوية وبالتالي الغلبة يجب أن تكون لثوابت ديمقراطية/ العولمة على ديمقراطية/ إرادة الأمة، نفس الأمر مع المفاهيم الغربية الأخرى مثل معاداة السامية وحقوق الإنسان والإرهاب، كل هذه المفاهيم أصبحت لها صياغات ودلالات غربية تشكل جزءاً من ثوابت الديمقراطية، وانتهاكها يعطي للغرب وخصوصاً زعيمة النظام الدولي الجديد الحق بالتدخل.
إن ما جرى في النمسا وفلسطين والعراق، إنما هو مؤشر على صيرورة المحددات الخارجية مكوناً رئيسياً من مكوناتها، فالديمقراطية لم تعد مجرد نظام حكم، مبدأه إرادة الأمة وحق المحكومين باختيار حكامهم، بل أصبحت نظاماً كونياً يتطلب تطبيقه محلياً تطويع المحددات الداخلية للمحددات الدولية وخصوصا في الدول الضعيفة، وإذا جرى ما جرى للنمسا الدولة الأوروبية الغربية، فماذا سيكون حال الديمقراطيات في دول العالم الثالث وفي مجتمعاتنا العربية على وجهه التحديد؟.
قبل الإجابة على هذا السؤال نثير إشكالية تطرح في كثير من الحالات عند التحول الديمقراطي، وهي: ألا يمكن للعنف الشعبي أن يكون الحاضنة التي منها ينطلق المسلسل الديمقراطي وبالتالي جزء من النظرية الديمقراطية؟ بمعنى إذا كان النظام القائم لا يؤمن بالديمقراطية ويمانع كل تحول ديمقراطي ويقاوم كل تغيير ألا تصبح عملية إسقاط النظام القائم بالعنف الشعبي والمسلح أمراً لا مندوحة عنه؟. وبالتالي يصبح العنف الشعبي أو الثورة مدخلاً للديمقراطية؟. لا توجد إجابة قاطعة في الموضوع ولا تسعفنا التجارب التاريخية في تأكيد وجود تلازم بين النهجين، ذلك أن الثورات التي عرفتها المجتمعات الغربية كالثورة الفرنسية والثورة الإنجليزية والثورة الأمريكية لم تكن على نفس الدرجة في فتحها الأبواب أمام التحول الديمقراطي، وإن كان بشكل عام فإن هذه الثورات بما جاءت به من قيم المساواة والحرية خدمت الديمقراطية ولو بعد حين، بل يمكننا القول إن هذه الثورات وكل إشكال العصيان والإضرابات العمالية هي جزء من بناء صرح الديمقراطية مادامت تعبر عن مطالب شريحة واسعة من الناس ولا تتناقض في مبادئها وأهدافها مع الديمقراطية. ومع ذلك فإن النظرية الديمقراطية التقليدية لا تؤمن إلا بالعمل السلمي وتقصي العنف من مجال اهتماماتها.
ولكن الموضوع يثار بالنسبة لدول العالم الثالث فهذه المجتمعات لم تعرف تطوراً طبيعياً، وأن تحديث المجتمع يواجه أحياناً بمعوقات تفرض عملاً عنيفاً لأزالتها، ومن هنا نلمس تعدد الثورات والانقلابات وأعمال العنف السياسي التي كثيراً ما تأخذ طابعاً قبلياً أو دينياً، وكلها تزعم أنها تقوم باسم الشعب ولمصلحته؟. وعليه يمكن القول أن من الممكن أن تكون الثورة أو الانقلاب العسكري مدخلاً للديمقراطية إذا كان قادة الثورة أو الانقلاب يؤمنون بها، ومستعدين للتخلي عن الحكم بعد إسقاط النظام السابق المرفوض شعبياً . ولكن شرط الاعتراف بالثورة كمدخل للتحول الديمقراطي ، أن تكون ثورة وطنية وليس مجرد انقلاب مدعوم بقوى خارجية، وأمامنا نموذج أفغانستان ثم العراق ، حيث بررت الولايات المتحدة حربها في هذين البلدين ، بمحاربة الإرهاب والقضاء على أنظمة مستبدة وغير ديمقراطية ، وأن هدفها هو إقامة أنظمة ديمقراطية ،ووجدت الولايات المتحدة دعما من قوى المعارضة في هذين البلدين الذين برروا مساندتهم للحرب ضد بلدانهم ، بان الحرب هي الطريق الوحيد للقضاء على الاستبداد وإقامة الديمقراطية . ولكن أثبتت الأيام أن أمريكا غير حريصة على مصلحة الشعوب وغير معنية بإقامة أنظمة ديمقراطية بقدر اهتمامها بمصالحها في تلك البلدان .
والحالة الفلسطينية المشار إليها سابقا نموذج أخر ، فقد جاء أبو عمار كرئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية عبر انتخابات ديمقراطية أشرف عليها مراقبون من الولايات المتحدة وأوروبا ودول أخرى، إلا أن هذا الرئيس المنتخب تمت محاصرته داخل وطنه من قِبل إسرائيل ومحاربته سياسيا من الولايات المتحدة التي رفضت التعامل معه ،وهذا يطرح تساؤلا عميقا وهو : ما معنى الديمقراطية إن لم يكن حرية الشعب في اختيار حكامه ، وحرية الرئيس المنتخب في قيادة شعبة بطريقة ديمقراطية لما فيه مصلحة الشعب ، حتى وإن تناقضت هذه المصلحة مع مصالح الدول الأخرى، لأن السياسة هي صراع مصالح ؟.ولكن خصوصية الحالة الفلسطينية تكمن في أن القضية تمر بمنعطف وحالة من عدم الوضوح من جانب، ما بين مرحلة التحرير وما تتطلبه من مناهج تفكير وآليات ممارسة ، ومع مرحلة الدولة وما تتطلبه من مؤسسات ديمقراطية ومناهج للتفكير وأساليب للممارسة ،غير تلك المعروفة في مرحلة الثورة .وبشكل أخر هل يمكن تعايش عقلية الثورة بما تتطلبه من حكم الزعيم الأوحد ومن عمليات مقاومة مسلحة قد تصل لمرحلة القيام بعمليات استشهادية ، مع عقلية واستحقاقات الديمقراطية في عصر العولمة والهيمنة الأمريكية ؟
غياب نموذج مثالي للحكم الديمقراطي وصعوبة إعطاء تعريف محدد ودقيق للديمقراطية وكذا لاعتبارها مجموعة من المبادئ والقواعد، يجعلنا نتوصل إلى خلاصة مفادها أن الديمقراطية ليست إلا أقل الأنظمة سوءا "كما قال تشرشل" وهذا ما يمكن فهمه من خلال المقارنة التي نقيمها مع الأنظمة النقيض، أي الأنظمة الاستبدادية والتسلطية الديكتاتوية، بل إن عملية تحديد مدلول النظم الديمقراطية قد يتم من خلال الأنظمة النقيض.
فإذا كان الفكر السياسي قد ظل يبحث عن تصور شامل للديمقراطية وأن هذا التصور قد اصطدم بواقع المجتمعات فإن صعوبة التماثل بين النظرية الديمقراطية والتطبيق الديمقراطي يجعل هذا الأخير يبتعد عن أن يكون نظاماً مثالياً للحكم ويبقى بالتالي أقل الأنظمة سوءا كما رأينا، وهذا الأمر لا يقتصر على الديمقراطية فقط بل يهم كل المثل والقيم السامية بما فيها الديانات، فما بين المثال والواقع فجوة، وهو أمر إيجابي لأن وجود هذه الفجوة يشعر الإنسان بوجود نقص مما يجعله دائم العمل على ملئ الفجوة وإتمام النقص وهو ما لا يتم، وبالتالي تصبح الحياة سعي متواصل نحو الكمال، وحيث أن الكمال لله وحده، فالحياة تبقى نضال متواصل إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
وقبل الانتقال إلى محطة أخرى من هذا البحث لابد من إثارة موضوع لا يقل أهمية عما سبق، وهو أن كثيراً من المعجبين بالديمقراطية من شعوب العالم الثالث لم ينبهروا بها لأنها مجرد نظام حكم سياسي يتيح من الحرية أكثر من غيره من الأنظمة، إن الإعجاب بالديمقراطية الغربية تداخل فيه السياسي مع الاقتصادي مع العلمي، وكثير من المعجبين بالديمقراطية الغربية لم يروا فيها الجانب السياسي فقط بل رأوا أكثر من ذلك وأهم وهو الرفاهية التي يعيشها الإنسان الغربي والمستوى الثقافي المرتفع، أو بمعنى آخر أنهم لم ينبهروا بالنظرية بل بما ينسب إليها من منجزات.
لقد اعتقد البعض أن الديمقراطية هي التي تجلب تلقائياً الرفاهية والثقافة والعلم والتحضر. مما لا شكل فيه أن من خصائص الديمقراطية في الغرب ومما ساعد على نجاحها هو أنها تصاحبت مع ثورات صناعية ودينية وعلمية وأيضا مع استعمار نهب خيرات دول العالم الثالثً، مما ولد اعتقاداً بتلازم هذه الأمور، فيما الواقع يقول بأن الديمقراطية بما هي الوسيلة لإيصال الأفضل من الشعب لسدة الحكم قد تساعد على خلق شروط الإقلاع الاقتصادي وتحديث بنيات المجتمع، ولكن يجب تبديد الوهم بأنها البلسم الشافي الذي سيحل كل مشاكل التخلف بمجرد اتخاذ قرار التحول الديمقراطي.
لقد أبانت حالات معاصرة بأن الديمقراطية ليست مطلباً ملحاً عند بعض الشعوب، لا عند الحكام ولا عند المحكومين، وهذا يظهر في الدول الغنية النفطية مثلاً، فحالة الرفاهية التي تعيشها هذه المجتمعات جعلتها تقصي من سلم اهتمامها الديمقراطية وهموم المشاركة السياسية. ومن جهة أخرى أبانت تجربة الاتحاد السوفيتي والصين أن التقدم العلمي والتكنولوجي يمكنه أن يتحقق بدون ديمقراطية. أما بالنسبة لعلاقة العلمانية بالديمقراطية فلا نعتقد أن من الصحيح القول بتناقض الدين مع الديمقراطية، وما جرى في الغرب المسيحي خلال القرون الوسطى من تصادم عنيف ما بين الديني والدنيوي لا يعود إلى أن المسيحية كديانة كانت متناقضة مع النهضة والديمقراطية، بل الخلل كان في ممارسات لرجال دين فسروا المسيحية بما يخدم مصالحهم كطبقة . وواقع الكيان الصهيوني اليوم يعطينا دليلاً على ما نذهب إليه، فهذا الكيان هو من أكثر أنظمة العالم أصولية وتطرفاً دينياً، هو الدولة الوحيدة التي تعطي جنسيتها على أساس الدين، ومع ذلك فاليهودية تتعايش مع تجربة ديمقراطية متميزة. واليابان تعطينا نموذجاً لتجربة ديمقراطية كيفت مبادئ الديمقراطية مع الثقافة اليابانية، فالديمقراطية والتحديث لم يلغيا الخصوصية الثقافية بل على العكس أخضعها لها.