من نظر في سيرتهم - رضي الله عنهم - منصفاً علم عظيم قدرهم وكمال حبهم لله ورسوله، وبذلك طاب عيشهم، وكملت هدايتهم، وتمت سعادتهم، فأثنى الله عليهم، ونوه بما أعده لهم من الجزاء العظيم، ونصرهم على أعدائهم، فمن وصل قلبه بالله تعالى في هذه الحياة، بأن اتبع كتابه، فإنه يطمئن قلبه، ويحصل له برد اليقين، ويذوق طعم الإيمان وحلاوته، ويفرح قلبه ويتنعم ويسر بذلك، أعظم من تنعم البدن بأنواع الملذات، ويصير قلبه بالإيمان مستنيراً به، قوياً مقبلاً على الله متعلقاً به، فينال بذلك غذاءه، وريه، وشفاءه وحياته، ونوره، ولذته، ونعيمه، وهذا أجل أنواع النعيم، وأعظم اللذات، والطيبات، وقد قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، فكل مؤمن عامل للصالحات له حظ من هذه الحياة الطيبة بقدر إيمانه وعمله.
وليست الحياة في الحقيقة ما يظن كثير من الناس أنها التنعم بأنواع المأكولات والمشروبات والملابس، والنساء، أو لذة الرئاسة والمال، والعمائر، والمراكب والتفنن بأنواع المشتهيات، فإن هذه مشتركة بين بني آدم والبهائم، بل قد تكون البهائم أكثر حظاً في ذلك من الإنسان، وإنما اللذة الحقيقية والحياة هي اللذة والحياة التي إذا خالطت القلب أنسته الأبناء والنساء والأوطان والأموال، والمساكن والإخوان، ورضي عن ذلك كله وخرج مهاجراً إلى ربه مستغنياً بهداه، وعرض نفسه في سبيل ذلك لأنواع المكاره والمشقات، وهو طيب العيش ناعم البال، مستلذاً لما يصيبه في ذلك منشرحاً له صدره.
لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ((والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة)) قال عمير بن الحمام – وكان بيده تمرات يأكلهن –: بخ بخ ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم رمى بالتمرات من يده، وأخذ سيفه فأقبل يقاتل وهو يقول:
ركضاً إلى الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
حتى قُتل رضي الله عنه.
والمسلمون اليوم بأشد الحاجة إلى معرفة فضائل الصحابة، وكريم معدنهم، وأثر تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وما كانوا عليه من علو المنزلة، التي نالوا بها ثناء الله تعالى عليهم، ومن المؤسف أن أخبار أولئك الأخيار قد طرأ عليها من التحريف، والبتر، والزيادة، وسوء التأويل والأغراض، من قلوب قد شحنت بالغل على أفضل هذه الأمة، فأنكرت عليهم حتى نعمة الإسلام، وقد أصبح من الفرض على كل من يستطيع تصحيح تاريخ صدر الإسلام على طريقة المحدثين، ووضع ذلك بين يدي شباب هذه الأمة حتى يكون ذلك قدوة لهم، ودافعاًَ إلى النهوض بالأمة إلى ما فيه عزتها ورفعتها.
ومن المعلوم ما عليه المسلمون اليوم في أنحاء المعمورة من الضعف أمام الكفار، وتسلط أعدائهم على التحكم فيهم، ولو أنهم تمسكوا بدينهم، واقتفوا أثر نبيهم واهتدوا بهديه لنصرهم الله على جميع من ناوأهم، على ما بهم من ضعف في الاستعداد وآلات الحرب التي يمتلكها أعداؤهم.
وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم ذلك، ووثقوا بالله تعالى واعتمدوا عليه، لأنهم قد تعلموه من نبيهم صلى الله عليه وسلم فنصرهم الله في كل موطن نصراً مؤزراً.
فيوم الخندق قد أحاط عدو المسلمين بالمدينة من كل جانب، وأحكموا حصارها، وظنوا أنهم يقضون على المسلمين نهائياً كما قال الله تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11]، ابتلو بهذه الشدائد والكرب، حيث أحاط بهم أعداؤهم من الخارج ومن الداخل، فمن خارج المدينة جاءتهم قريش بقضها وقضيضها بعشرة آلاف مقاتل، من غطفان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني طريف بن سحمة وغيرهم من المشركين، ومن داخلها اليهود، وهم المرادون بقوله تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ [الأحزاب: 10]، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف، فهزم الله أعداءهم جميعاً شر هزيمة لم ينالوا خيراً، لما ظهر ثبات المؤمنين، وصدقهم وثقتهم بوعد الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب: 22]، بخلاف المنافقين، فإن الخوف والهلع، وسوء الظن بالله ورسوله جعلهم يظهرون ما كانوا يبطنونه في حالة الرخاء، وهذا شأن كل منافق.
قال الله تعالى ممتناً على المؤمنين بصبرهم وثباتهم وتصديقهم وعد الله ورسوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ﴾ [الأحزاب: 9]، إلى قوله تعالى: ﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 25 - 27].
ولا يقال هذا النصر بالريح والجنود غير المرئية خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، فكل من اهتدى بهديه وسار على نهجه لا بد أن يحصل له من النصر والتأييد بحسب تمسكه بكتاب الله وسنة نبيه، كما حصل لصحابته بعده من النصر والظفر الذي لم يعرف له نظير في الدنيا مع قلة عددهم وعُدَدِهم بالنسبة لأعدائهم.
وليعلم أنه لا بد من العمل الجاد، ولا بد من النصب والكد، ولا بد من الأهبة والاستعداد فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف الخلق وأحبهم إلى الله تعالى يشارك أصحابه في حفر الخندق، وحمل التراب حتى يواري التراب جلد بطنه، ويجوع معهم ولا بد من قوة الإيمان بالله تعالى والثقة بوعده، مع ثبات العزائم، والصبر على الشدائد، والتأسي بخير أسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن طالع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة صحابته بعده، علم أن تلك الطلائع التي أقام الله بها شوامخ صروح هذا الدين إنما قامت على الصبر على المحن، والنضال المتواصل المضني.
وقوة العزائم، ووزن الدنيا في واقعها بميزانها الحقيقي، فلم يركنوا إليها، ولا كان أملهم الترأس، وطلب السلطة، والحصول على الوظائف التي يترفعون بها على الخلق، أو يجنوا ثمارها، فقد عرفوا الدنيا وعرفوا سرعة زوالها فلم يغبنوا أنفسهم بها، كما أنهم عرفوا الآخرة وجعلوها نصب أعينهم، فلخلودها يعملون وعليها يحرصون،ولذلك هان عليهم بذل نفوسهم وأموالهم في سبيلها راغبين بها عن الدنيا بديلاً فكان أحدهم يخرج عن ماله لله ولرسوله، وكانوا يتسابقون إلى ما يرضي الله ورسوله.
فلا بد لمن يريد ترسم خطاهم بنشر رسالة الحق بين الخلق، والوقوف في وجه الباطل والشر والفساد، أن يهيئ نفسه لتحمل المكاره، والصبر على ما يناله في سبيل الله كما صبر المؤمنون على البلايا والمحن، ولا بد من بذل النفوس في سبيل إقامة الحق ونشر دين الله في الأرض، إنقاذاً للناس من أوضار الشرك ورجس الوثنية وضلال الأفكار التي نبتت على أرض الإلحاد والزندقة، وانحراف الفطر عن سنن الله تعالى إلى سنن الجاهلية وتراثها المرذول،وعبادة الشهوات، والأموال ومظاهر الدنيا.
ومع ذلك لا بد من إعداد العناصر السباقة إلى ما يطلب منها في سبيل دين الله تعالى في كل ما يقوي الحق ويظهره، ويعز أهله وينصرهم، ويضعف الباطل وحزبه ويقهره، مثل بث العيون ومعرفة ما لدى العدو من قوة واستعداد، وكذلك محاربة العدو بما يسمونه اليوم بالحرب النفسية، كما فعل نعيم بن مسعود الأشجعي يوم الخندق.
وعلى كل فما أصاب المسلمين من ذلة ومهانة وتسليط الأعداء عليهم؛ كله بسبب عصيانهم وتركهم تعاليم دينهم، وإعراضهم عن خالقهم، وإقبالهم على الدنيا، والتكالب عليها.
ولما حصل من أفضل هذه الأمة بعد نبيها، وهم الصحابة مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يكونوا يرونه معصية، سلط عليهم العدو فقتل منهم سبعين وشج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت البيضة على رأسه، وكسرت ثنيته وقتل عمه صلوات الله وسلامه عليه، ولما شق ذلك على الصحابة، وأشكل عليهم، كيف يدال عليهم وهم المؤمنون ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله قوله: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران: 165]، أي بسبب عصيانكم، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ﴾ [آل عمران: 152]، فلا بد من طاعة الله وطاعة رسوله، والتمسك بذلك والحذر من المخالفة والمعصية، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يوصي بعضهم بعضاً بالحذر من المعصية فإنها سبب تسليط العدو، ثم إعداد العدة والتوكل على الله تعالى والتوسل إليه ببذل النفوس في طاعته بأن ينزل نصره وتأييده، فإذا صدق العبد مع ربه فهو تعالى معه بنصره وحفظه وتأييده.
وأما تفرق المسلمين واختلاف قلوبهم الذي أصيبوا به في هذا الوقت فهو بسبب عدم اهتمامهم بدينهم وعدم تطبيقهم تعاليمه، وضعف إيمانهم، فترى المسلمين اليوم عددهم كثير لكنهم غثاء كغثاء السيل نزعت من قلوبهم المهابة وقذف فيها الوهن، الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت، وأحاطت بهم الأعادي كإحاطة الأكلة على مأكولهم.
وذلك لأنهم تنازعوا فتفرقت قلوبهم ففشلوا وذهبت ريحهم، فخالفوا أمر الله وارتكبوا ما نهاهم عنه. قال تعالى: ﴿ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46]، أي قوتكم وهيبتكم، وهذا هو الداء الذي إذا حل بقوم أصبحوا نهبة لعدوهم، كما هو واقع المسلمين اليوم حتى ذهبوا يطلبون النصر والنصف من عدوهم.
ومن العجب قرب دوائهم وما فيه نصرهم وهم عنه معرضون، ولن يحصل لهم نصر وعز إلا بعودتهم إلى دينهم واتباع كتاب ربهم الذي جاءهم به نبيهم، والذي فيه حياتهم والنور الذي يكشف لهم عن الحق والباطل، فيريهم الحق حقاً، والباطل باطلاً، قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257]، ومن أخرجه الله من الظلمات إلى النور، أبصر الحق واهتدى به وأبصر الباطل وجانبه وحاربه، بخلاف ما عليه المسلمون اليوم من الجهل بما يحاك لهم من مؤامرات ومخططات رهيبة تحدق بهم من جميع الجوانب وهم في غفلة عنها، فهناك مخططات يهودية ونصرانية وإلحادية باطنية، وشيوعية، تعد ويدبر لها للقضاء على المسلمين، وهم غافلون.