الجنس : العمر : 41 المدينة المنورة التسجيل : 30/09/2011عدد المساهمات : 239
موضوع: ₪♥₪ الأدب الشعبي من منظور النقد الثقافي ₪♥₪ الإثنين 07 نوفمبر 2011, 9:32 am
₪♥₪ الأدب الشعبي من منظور النقد الثقافي ₪♥₪
اكتسبت بعض الأحكام الخاطئة بالتواتر ثباتًا تاريخيًا، لكن البحث العلمي المنصف يستطيع إعادة التقييم بالنقد الذي يتغذى على فلسفة السؤال، والسؤال نفسه يكبر بإعادة بناء النقد، وقضيتنا عن الأدب الشعبي ليست جوابًا عن سؤال، وإنما هي سؤال عن جواب لم يطرح بعد.
والأدب الشعبي المضطهد تاريخيًا. وحتى يومنا هذا… بدأ تجاهله وعدم إدراك قيمته منذ حماقة اليونانييين القدماء الذين استجابوا للتقسيم الطبقي الحاد في مجتمعهم آنذاك، وقسموا الأدب إلى أدب رسمي للطبقة الأرستقراطية ومثلوا له بالمسرح التراجيدي، وإلى أدب شعبي ومثلوا له بالمسرح الكوميدي، واعتبروه ممثلًا لأدب العوام.
وأتصور أن العرب القدماء كانوا أكثر حصافة؛ لأنهم لم يفصلوا فصلاً حادًا بين الأدبين الشعبي والرسمي الفصيح مما مكنهم من الاحتفاظ بحكاياتهم الشعبية وسيرهم الشعبية وأمثالهم وأساطيرهم المحدودة،
حتى أن (ألف ليلة وليلة) قد تم تحريرها في العصر العباسي، وعندما ترجم (جالان) الليالي العربية 1704 استشعر الأوربيون حجم حماقتهم … وبدأوا الانتباه لأهمية حفظ ودرس الأدب الشعبي، وزاد اهتمامهم بالأدب الشعبي مع انتشار فكرة القوميات في أوربا أوائل القرن 19.
وقد اتسع مفهوم الأدب عند بعض الكتاب العرب ليصل إلى معنى الثقافة التي اتسعت للأدبين الشعبي والرسمي، جاء في (خزانة الأدب) أن الأدب (هو جملة المعارف التي تسمو بالذهن، والتي تبدو أكثر صلاحية في تحسين العلاقات الاجتماعية، وبخاصة اللغة والشعر وما يتصل بهما وأخبار الجاهلية([1])، وفي(رسائل إخوان الصفا)([2]) وسعوا لمفهوم الأدب ليستوعب الأدب الشعبي…، وأعتقد أن التقارب الشديد بين الأدبين الرسمي والشعبي قد وصل إلى أقصى درجاته مع الأدب المملوكي وأدب فترة الدويلات بعد سقوط بغداد 656 هـ.
وعلى الرغم من عدم الاتفاق على تعريف محدد للأدب الشعبي حتى الآن، إلا أن متطلبات النقد الثقافي تستوقفنا مع تصور عام يؤطر الأدب الشعبي حتى يمكننا بالنقد الثقافي التوغل في أحشاء التاريخ والحضارة والثقافة التي سنعالج من خلالها قضية تجاهلنا للأدب الشعبي عند بعض المثقفين، وبعض المجتمعات العربية حتى الآن فضلاً عن بعض الجامعات.
وأستطيع أن أحدد الآراء الثوالث الأشهر في تعريف الأدب الشعبي:
التعريف الأول يركز على الفارق اللغوي: (هو أدب العامية سواء كان شفاهيًا أو تحريريًا… وسواء كان مجهول المؤاف أو معروفه).
والرأي الثاني يقدر الشفوية والتأليف الجمعي (هو أدب عاميتها الشفاهي مجهول المؤلف والمتوارث).
والرأي الثالث يعتمد على تقدير محتوى الأدب لا شكله .. (هو المعبر عن ذاتية الشعب المستهدف تقدمه الحضاري… يستوي فيه أدب الفصحى وأدب العامية… والأثر المجهول المؤلف… والأثر المعروف المؤلف) ([3]).
إن صمود الأدب الشعبي … وصوله إلينا على الرغم من ندرة العناية به قياسًا بالأدب الفصيح سيدل على أنه أدب مزود برؤى وحشية تمكنه من الخلود والبقاء؛ لأنه ما زال يحفظ لنا في أحشائه أسرار التحولات الحضارية والتغييرات السياسية لشعوبنا العربية.
والخلاف حول جدوى الأدب الشعبي ظهر متأخرًا – نسبيًا- وقد عبر عنه (ابن خلدون) بقوله: (إن جمهور المشتغلين بالأدب كانوا ينكرون العامية لبنوها على قواعد النحو والصرف، وينكرون آدابها لأن معانيها عادية لا ابتداع فيها)([4]).
وبدأت القضية تعيد طرح نفسها بشكل أكثر حدة في العصر الحديث وبسبب مهاجمة الاستعمار للغة الفصحى والعقيدة الإسلامية… وجاء الأدب الشعبي في سياق الترويج للعامية على حساب الفصحى، وقد توافد على هذه القضية عدد غير قليل أذكر منهم: «طه حسين – يحيى حقي – أحمد أرحيم هبو- مراد كامل- أحمد ضيف- أحمد الشايب- ساطع الحصري».
أحمد الشايب: يهاجم الأدب الشعبي من كتابه (الأسلوب) يقول: (… إن العامية ليست لغة، ولا يعد أدبهًا أدبًا رسميًّا لشيوع الخطأ اللفظي والخروج على قواعد النحو… ولما غلب على معانيها من التفاهة..).
أحمد ضيف: يناصر الاهتمام بالأدب الشعبي وقال: (… ونسى هؤلاء أن للعامية أخيلة وآراء وعبارات تدل على حياتهم الاجتماعية العامة للشعوب، كما تدل على آراء الخاصة وأخيلتهم على تلك المعاني المملوءة بالثقافة الخاصة) ([5]).
أن العناية بالأدب الشعبي ترويج للعامية مما يمثل خطورة مركبة على الفصحى وقواعدها.
أن أكثر مضامين منتوج الأدب الشعبي ضعيفقة، ولا أهمية لها إذا ما قيست بالأدب الرسمي الفصيح.
وللرد على هذه المخاوف والمحاذير نستعين بآليات النقد الثقافي لنتمكن من التوغل الحر داخل معطيات الحضارة والتراث والتاريخ..
أولاً:
إن القاعدة التأسيسية للبناء الحضاري تعتمد على الإفادة الإيجابية من التراث([6])، ولن نبلغ من الدقة منتهاها إذا أسقطنا الأدب الشعبي من مفهوم التراث وهو أقدم من الأدب الرسمي، وهو الذي يجسد التاريخ الحقيقي للشعوب، والذي يمثل توظيفه في الأدب الفصيح تيارًا رئيسيًا كشفت عنه دراسات التناص الحديثة التي أكدت الامتداد المؤثر للأدب الشعبي في أصلاب الأدب الرسمي بكل أجناسه قديمًا وحديثًا.
ثانيًا:
اللهجات العامية ليست ذريعة لاستناب تعددية لغوية داخل الفصحى، لأن الفكرة تنفي نفسها بنفسها إذ إن اللهجة تتفرع من الفصحى في ضعف، وتنتمي إليها بقوة، فالفصحى إذن قادرة –عبر تاريخها- على الاحتفاظ بالتعددية اللهجية والارتفاع فوقها لتمارس فاعلية التوحيد لشعوبنا العربية.
ثالثًا:
التخوف من أن تنسرب اللهجة لتستقل بلغة داخل اللغة كما حدث مع اللغة اللاتينيةـ هو تخوف قائم على قياس غير صحيح، لأن:
اللغة العربية الفصحى لغة عقيدة وثقافة، أما اللاتينية فهي لغة ثقافة فقط.
الله وعد بحفظ القرآن: } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ{ وحفظ القرآن هو حفظ للغة القرآن.
الحصانة التقنية المستدثة الآن تجعلنا نستبعد كل المخاوف المفترضة حول اللغة العربية الفصحى.
رابعًا:
أستعير رأي (ابن خلدون) الذي يعيب على رفض الخواص لأدب العامة، ويرى أن هذا الأمر: (…. مرده فقدان الملكة في لغتهم، فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها.. وإلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة، وإنما البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال من الوجود سواء كان الرفع دالا على الفاعل والنصب دالا على المفعول أو العكس… فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة، فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحت الدلالة، وإذا طابقت الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحت البلاغة ولا عبرة لقوانين النحاة) ([7]).
خامسًا:
إن القراءة الواعية للخريطة الكونية الآنية – ونحن في مستهل الموجة الحضارية الثالثة للعالم- تفرض علينا إذابة الثنائيات الضدية (الأصالة- المعاصرة / الأدب الشعبي- الأدب الرسمي/ الفصحى- العامية/ العروبة- الإسلام) لأن هذه الثنائيات من بقايا التفكير المنغلق للأيدلوجيات الكبرى في القرن العشرين، فالأصالة والمعاصرة معًا للتقدم الحضاري، والعامية ليست مضادة للفصحى؛ لأنها جزء منها… ونحن نفكر بالعامية وإنكارها يمثل مركب نقص حضاري..
إن إذابة هذه الثنائيات الضدية وتحويلها إلى متواليات يدفع بعضها بعضًا سيمثل خطوة إيجابية تأسيسية للدفع الحضاري الآني…
سادسًا:
إن التسليم بهذه الثنائيات الضدية قد امتدت آثاره إلى تقسيم شعوبنا العربية بين النخبة والعوام، وقد أحدث هذا التقسيم فجوة سلبية أثرت على المفهوم الأمثل للتنمية، وهو أن التنمية الحقيقية (تحويل العلم إلى ثقافة، وهذا لن يتم إلا بتسديد مسافة التباعد بين النخبة والعوام في شعوبنا العربية… والتقريب بينهما هو تجريب لفكرة التفاعل الجمعي الأفقي كبديل عما هو قائم من تدرج رأسي نخبوي.. وقد فشل في تحقيق التنمية الثقافية لشعوبنا العربية، لأن كثيرًا من النخوبييين العرب حاولوا القفز الفاشل خارج الحراك الطبيعي لأمتنا العربية، وإذا بهم قد وقعوا في شرك التقليد للآخر، وأفكارهم التي حاولوا تبييأها لم تجد انسجامًا عند شعوبنا العربية حتى الآن.. وما زالت الفجوة أكثر اتساعًا!
سابعًا:
إن العناية بالأدب الشعبي لا تمثل خطورة على الفصحى؛ لأن الخطورة الحقيقية على الفصحى من داخل الفصحى نفسها بدءًا من قدمائنا العرب الذين صعبوا قواعدها بتفريع التفريعات التي أنستهم النهج الفطري لإنماء السليقة اللغوية بدون صنعة ولا تكلف، وقد عبر ابن خلدون عن هذا المعنى بقوله: «لما فارق العرب الحجاز لنشر الدعوة… وخالطوا العجم تغيرت تلك الملكة- يقصد الفصحى- وأن الشعوب لم تروض نفسها على حركات الإعراب فانصرفت عنها»([8]).
وفي وقتنا المعاصر عمد فصحاء الأدب الحديث إلى بعض الظواهر اللغوية التي تضعف الفصحى مثل العناية بـ (التفتيت اللغوي) والإعلاء من شأن العلامات غير اللغوية –بتعبير دي سوسيير- وعمدية التعمية والإلغاز لقليل من الفهم وكثير من الدهشة، والإسراف في استخدام الصيغة الدائرية للمصدر على حساب الأفعال، فضلاً عن التلاعب بالتناسل العضوي للغة، والمبالغة في النمو الاستعاري لتفكيك المنسجم وانسجام المفكك. وكلها محاولات تضعف الفصحى من داخل الفصحى، وهي محاولات تذكرنا بأحقاد الزنوج في فرنسا ورغبتهم في تحطيم اللغة الفرنسية.
ثامنًا:
إن العناية بالأدب الشعبي ستساعدنا على كتابة التاريخ الحقيقي لشعوبنا العربية؛ لأن ما نملكه الآن هو تاريخ سلطوي اعتنى بالتأريخ لحاكم على حساب الشعب المحكوم، والأدب الشعبي التلقائي البعيد عن المحاذير السلطوية قد اكتنز الحقائق السياسية وحقيقة الممارسات العقدية والعادات والتقاليد، والاستعانة بالأدب الشعبي ستساعدنا على فك كثير من طلاسم الحياة الفكرية والعرقية لأسلافنا الأقدمين، وستساعدنا على تسكين أوجاع الخلافات الداخلية في بعض أفكارنا العربية كلبنان والعراق والسودان…، إذن فالعناية بالأدب الشعبي ستعرفنا بحقائق التاريخ ومن ثم ستمكننا من فلسفة التاريخ.
وبعد
فالأدب الشعبي الأسبق إبداعًا ووجودًا بخاصية التأليف الجمعي- وهي سمة الفنون البدائية- هو الأسبق إلى فكرة تراسل الفنون التي يلجأ إليها الأدب الرسمي الآن بحثُا عن التطور والذي انتج (المسراوية- القصيدة التشكيلية- رواية عين الكاميرا- الحلقة القصصية-…).
وبقي القول: إن المقارنة بين الأدب الشعبي والأدب الرسمي مقارنة غير علمية للخصوصية البنائية والمورفولوجية المتباينة بين الأدبين، فكما أننا لا نقارن بين المسرحية والقصيدة الشعرية فإنه لا يجوز لنا أن نقارن بين الأدب الرسمي والأدب الشعبي، والمدرك لنظرية الأدب سيعرف أن لكل جنس أدبي آلياته النقدية الخاصة والمخالفة لنقد جنس أدبي آخر، وإذا كانت مفردات الأدب الرسمي هي: الرواية / المسرحية/ الشعر/ القصة القصيرة/ المقال/…) أما مفردات الأدب الشعبي فهي مغايرة تمامًا: (المثل- الإسطوانة- الحكاية الشعبية- الشعر النبطي- الموال- السيرة الشعبية) إن مسافة التباعد بين أخبسهما هي التي تسقط حق المقارنة بينهما.
إن هذه القراءة الثقافية لإبراز أهمية الأدب الشعبي ستعيدنا إلى التقدير الحقيقي للمعطيات التاريخية والثقافية ومؤثرات القوى الإجتماعية في محاولة جادة لاستعادة القيمة الفنية والحضارية لمفردات أدبنا الشعبي، لأن التاريخ نفسه ليس نسقًا متجانسًا من الحقائق، ومن ثم فهو مفسر غير جيد للأدب لكن الأدب الشعبي والرسمي معًا هما المفسر الأمثل للتاريخ..
إن هذه القراءة لأهمية أدبنا الشعبي هي دعوة لاستكمال منظومة اهتمامنا بالتراث، واستعادة ما تناثر منه واستنطاق المسكوت عنه في الأدب الشعبي الذي يحمل الكثير من الحقائق التي ينبغي مواجهتها بصراحة وقوة.
وبعد …
فإنني اعترف بأن وجهة نظري هذه غير حيادية؛ لأن ذات الباحث جزء من تراث ثقافتنا العربية التي لم تفرق قديمًا بين الأدب الشعبي والأدب الرسمي..، وهو أمر يدفعني للتساؤل معكم عن مدى براءة الباحث وحيدته العلمية الواجب توافرها.