►〖〗◄ المتنبي ورحلة مع الذات ►〖〗◄
كلُّ ما يعْرف عن المتنبي تلك الولادةُ البائسةُ في أسرةٍ فقيرة نبت فيها، وترعْرَعَ في الفقر دون أن ينقطع رجاءُ الأملِ والطموح، فإذا به يحمِلُ على كتفه همومَ الواقع المرِّ ويأمَلُ بالهدفِ المنشودِ، يحدوه الأمل وتحيط به إرادةٌ وعزيمة صلْبة.
إنَّ سرَّ مكانة المتنبي يكمن في تلك الروح الوثابة والنفس الأبية التي رضعتِ العظمةَ وحبَّ المجد ، وسَعَتْ إلى الرفعةِ، فوجدت ضالَّتها في شخص سيف الدولة الحمداني حامي حصون العرب ودافع كيد الروم، فالدخول إلى عالم المتنبي بحرٌ متلاطِمُ الأمواج عميق الأغوار، لا نستطيع الغورَ فيه إلا بمعرفة أسرارِ شعره والتعمُّقِ في معانيه وفهم المرادِ منه، فأشعاره ترسم صورةً عن شخصيته وتبرز حكمته وموقفه من الحياة والناس، فالشعر مرآة لصاحبه ومرآةٌ للعصرِ، وشعر المتنبي يرسم أبعادَ شخصيته وهذا ما يهمُّنا ونسعى إليه.
لا تُخْفى الحقيقةُ عن أحدٍ بأن شخصية المتنبي كإنسان وسلوكٍ وحكمَته متلاحمتان دون انفصام، فنادرًا ما نجد بيتًا من حكمه دون أن يدلَّ على سلوكه الشخصي ومبدئه في الحياة. لقد رسم المتنبي أبعادَ شخصيته من خلال معايشته للناس وخبرته في الحياة، فإذا به يستنبط نظراتٍ ومواقفَ خاصةً في حياته. أليس هو القائلُ في الذي تطبَّعَ على الأذى والكره:
ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ * يجدْ مرًَّا بهِ الماءَ الزلالا
وهو القائل عن مصائب الدنيا وتقلباتها المفاجئة على الإنسان:
ومن صَحِبَ الدنيا طويلاً تقلَّبتْ على * عينه حتى يرى صدقَها كذبا
إنها نظرة الحكيم والمجرِّب، خبرَ الحياةَ وكشف سرَّها وهي التي قلبَتْ سعادته في بلاط سيف الدولة إلى شقاء بعد أن ترك بلاطه، وخرج حزينًا دون أن يفقد كرامته وهذا أغلى ما يملكه المتنبي ويدافع عنه:
إذا كنتَ ترضى أن تعيش بذلَّةٍ فلا * تَسْعِدَّنَّ الحسامَ اليمانيا
لله ما أحكم هذا الإنسان ! حيثُ لسانُهُ يرتبط بعقله، وترتبط حواسُهُ بالرؤية الصادقة للحياة التي لا تلين إلاَّ لقويّ، ولا تخضع إلاَّ لشجاعٍ مؤمن بهدفهِ:
ومن طلبَ الفتح الجليلَ فإنّما * مفاتيحُهُ البيض الخفافُ الصوارم
هذه نظرةُ المتنبي للحياة وطريقه للمجدِ المرسوم أمام عينيه، لا يفارقه لحظة، وهذا ما ترك خصومه يقلقونه ويتَتَبَّعونَهُ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ وهو لا ينظر إليهم ولا يكترثُ بهم، فكانت علاقته مع الناسِ محاطةً بالحذر والجدِّيَّة ولا يعرفُ سوى طريق واحدة للمجدِ؛ طريقِ البطولةِ والرجولةِ وليس عن طريق اللهو والمجون:
ولا تحسبَنَّ المجدَ زقاًّ وقينةً فما * المجد إلَّا السيف والفتكة البكرُ
وهو القائل:
على قدر أهلِ العزم تأتي العزائم * وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارِم
فالمعادلة واضحةٌ وجليَّةٌ لديه، فطريق المجد مصحوب بالعزيمة، وسبيلُ السؤددِ عملٌ ودأبٌ دون مللٍ وتجنُّبٍ للموبقات، مَنْ أخذ بهذهِ المعادلة وصل إلى المجد والسيادة.
إنه قاسٍ على نفسه، فلا تهاون ولا تخاذل، فعلاقته مع المرأة لم تأخذ القسطَ الأعظمَ من حياته بل حدَّدَ علاقته بشرطٍ دون أن يتقاعَسَ عن واجبه، وينسى حقوقه وطموحاتِه:
وللخودِ منِّي ساعةٌ ثمَّ بيننا * فلاةٌ إلى غيرِ اللقاءِ تُجابُ
وما العشق إلَّا غرَّةٌ وطماعةٌ * يُعرِّضُ قلبٌ نَفْسَهُ فتصابُ
ويأتينا السؤال: هل كان المتنبي ضعيف الصلة بالنساء؟ هل له نظرةٌ معيَّنَةٌ لعلاقته بهنَّ؟ إنَّ المتنبي يرغب في ذلك كغيره من الرجال، ولكن لا يستطيعُ أمام صورةِ المجدِ والطموحِ بالإضافة إلى تلك النفس التي لا تعرف التنازلات والتهاون، وهو الذي يملك من العظمة والإباء ما لا نجدهما في غيره، هذه العظمة ونظرةُ الاستعلاء على الآخرين أكثرتِ الخصوم والأعداء عليه فتعرَّضوا له في كلِّ مجلس في حياته وبعد رحيله و مماته حتى سمّي (مالئ الدنيا وشاغلَ الناس) فالاعتزاز في شعره يكثر ويتلون فَيَمْنَحُنا صورةً عن نفسه وعن طباعه، فهو كاتم للأسرار وجوَّاب للآفاق، فشعر المتنبي نهرٌ متدفِّقٌ لا ينضب عطاؤه، وهذا سرُّ خلود المتنبي وكأنه بيننا وقد أعدَّ عُدَّتَهُ للسفر والترحال وراء المجد والشهرة، ولسان شعره يقول: هاتوا شاعرًا نسجَ شعرَهُ فلسفةً وسلوكًا وحياةً وخلودًا:
أين فضلي إذا قنعتُ من الدهرِ * بعيشٍ مُـعَجَّل التنكيد
ضاق صدري وطال في طلب الرزق * قيامي وقلَّ عنه قعودي
أبدًا أقطع البلادَ ونجمي * في نحوسٍ وهمَّتي في سعود
عشْ عزيزاً أو متْ وأنت كريمٌ * بين طعن القنا وخفق البنودِ
هذا لون من نسيج المتنبي يجمع الغربة والعِفَّةَ والإباء والتحدي خلال معركةِ إثباتِ الذاتِ في معركة الحياة الصاخبة، فتعلو نبرة صوته معِّبرةً عن خلجاتِ نفسه وعن بوح أحاسيسه:
فاطلبِ العزَّ في لظىً وذرِ الذ * لَّ ولو كان في جنانِ الخلودِ
لا بقومي شرفْتُ بل شرفوا بي * وبنفسي فخرتُ لا بجدودي
لم يعد خافيًا على أحدٍ موقفُ المتنبي من الحياةِ ومن الناسِ فهو إنسانٌ لا يعرف سوى السعي نحو هدف رسمه لنفسه معتمدًا على ذاته، تحدوه إليه نفسٌ مُتَفَرِّدةٌ بنسيجها وتكوينها في عصرٍ ذابت فيه النفوس واضمَحلَّتِ الأهواء، فصوت المتنبي لا يزال يطرق مسامِعَنا وبعنف، علَّهُ يجد فينا ما تمنَّاهُ لنفسه! فماذا ترك المتنبي للأمراءِ والملوك وأولي الشأن؟ وهل هم أقلَّ شأنًا منه؟:
الخيلُ والليلُ والبيداء تعرفني * والسيف والرمح والقرطاس والقلم
هنا تظهر عظمة المتنبي، وفي اعتقادي أن المتنبي كان مصابًا بداء العظمة والشهرة التي طالما سعى إليها وأحبَّ أن يوجدَها ويزرعها في حياته، فها هو يفتخر بنفسه معتزًَّا وناسيًا دورَ قبيلته وحقَّ له ذلك طالما أنَّهُ وضيعُ النشأةِ والحسب، ولكن استطاع أن ينسج لنفسه ثويًا عفيفًا مطرَّزًا بالعزِّ والفخار، تصدر منه إشعاعاتٌ ساطعة توخز أولئك الناس الذين حاولوا الطعن به والتقليل من شأنه ومكانته:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي * وأسمعت كلماتي من به صَمَمُ
وكذلك قوله في بيته الرائع:
أنا ترب الندى وربُّ القوافي * وسمامُ العدا وغيظُ الحسودِ
أنا في أمةٍ تداركها الله * غريبٌ كصالحٍ في ثمود
إنَّها صيحة الاغتراب والإحساس بالغربة أينما ذهب وحلَّ وارتحل، غريبٌ بتصرُّفاته وبعلاقاته مع الناس ومع الأهل والأقربين. كم نهتزُّ طربًا أمام عمق هذه الأبيات! وكم نفتخر بمثل هذه الشخصية العربية التي التزمَتْ بمقومات الشباب من فتوة وحكمة وقوة مهما كبر السنُّ وظهر الشيبُّ في مفرقِ الرأسِ:
وفي الجسم نفسٌ لا تشيب بشيبه * ولو أنَّ في الوجه منه حراب
إنه الإنسان الذي لا يستريح لهدف، ولا يهدأ له بال دون أن يسعى ويكدَّ وراءَ المجدِ الشريف الذي يُؤْخذُ ولا يعطى:
ولا يدرك المجدَ إلَّا سيِّدٌ فطِنٌ * لما يشقُّ على الساداتِ فعَّالُ
ويطول الحديث عن المتنبي وهو الذي شغل من سبقنا بالدراسات والنقد، وأعتقد أنه لا يوجد أديب في العربية على مرِّ الزمان تعرَّضت له الدراسات الأدبية والنقدية بالدراسة والنقد كالمتنبي، ولا تزال الدراسات متواصلة أمام شخصية متجسِّدةً في الحاضر والماضي وأمام أدبٍ وشعرٍ خالدٍ لا يفقد قيمته بموت صاحبه أو بانتهاء عصره، وهذا سرُّ خلودِ الأدب والأديب وكأنَّ المتنبي استكشف خفايا النفس الإنسانية إلى يومِ تقوم الساعة، لِيسمَعْ بعض حكمه التي تختم بها رحلتنا:
ومن نكدِ الدنيا على الحرِّ أن يرى * عدوًّا له ما من صداقتِهِ بدُّ
وكذلك:
إذا أنْتَ أكرمْتَ الكريمَ ملكتَهُ * وإنْ أنْتَ أكرمْتَ اللئيمَ تمرَّدا
يالروعة هذه المعاني! نَسْتَشِفُّ منها نفسيَّةَ المتنبي وروحه، فلا أجد فيها إلا نظرة العقل الصائب والإحساس الصادق والتمعُّن في حياة الناس وطباعهم.
أبعد كلِّ هذا لا يحقّ له أن يتزعَّم مملكةَ الشعر العربي قديمِهِ وحديثه؟ فشعر المتنبي بحرٌ هائجٌ متلاطِمٌ منه يستمدُّ الشعراء وفي أعماقه يغوص النقاد، و من مجوهراته تُرَصَّعُ العقودُ مُزيِّنَةً النحور والألباب.
هذا ما خلصنا إليه وهو غيض من فيض وقطرةٌ من حوض ولكن تظهر الأبيات القلية التي استشهدنا بها شخصية المتنبي بسلوكها ونظرتها للحياة منقولةً حكمًا وآراء فاندَمجت هذه الحكم لتكون سلوكًا وعقيدةً وهذا عينُ الحقيقة عندما تفسَّرُ الأقوالُ إلى أفعالٍ.