مقدمة:
من مأثورات المهاتما غاندي " إنني لا أريد أن ترتفع الجدران من كل جانب حول بيتي، ولا أن يُحكم إغلاق نوافذي، إنني أريد أن تهب ثقافة كل أرض حول بيتي بأقصى قدر من الحرية، لكنني أرفض أن تقتلعني ريح أي منها من جذوري"
في العقد الأخير من القرن الماضي تنامي الوعي بقيمة الإنسان هدفاً ووسيلة في منظومة التنمية الشاملة، وبناء على ذلك كثرت الدراسات والبحوث والمؤتمرات التي عقدت لتحديد مفهوم التنمية البشرية وتحليل مكوناتها وأبعادها، كإشباع الحاجات الأساسية، والتنمية الاجتماعية، وتكوين رأس المال البشري، أو رفع مستوى المعيشة أو تحسين نوعية الحياة. وتستند قيمة الإنسان في ذاته وبذاته إلى منطلقات قررتها الديانات السماوية التي تنص على كرامة الإنسان والذي جعله الله خليفة في أرضه ليعمرها بالخير والصلاح. لقد ترسخ الاقتناع بأن المحور الرئيس في عملية التنمية هو الإنسان.
التنمية البشرية: فرض مصطلح التنمية البشرية نفسه في الخطاب الاقتصادي والسياسي على مستوى العالم بأسره وخاصة منذ التسعينات، كما لعب البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة وتقاريره السنوية عن التنمية البشرية دورا بارزا في نشر وترسيخ هذا المصطلح.
إن مصطلح التنمية البشرية يؤكد على أن الإنسان هو أداة وغاية التنمية حيث تعتبر التنمية البشرية النمو الاقتصادي وسيلة لضمان الرفاه للسكان، وما التنمية البشرية إلا عملية تنمية وتوسع للخيارات المتاحة أمام الإنسان باعتباره جوهر عملية التنمية ذاتها أي أنها تنمية الناس بالناس وللناس.
إن مفهوم التنمية البشرية هو مفهوم مركب من جملة من المعطيات والأوضاع و الديناميات. والتنمية البشرية هي عملية أو عمليات تحدث نتيجة لتفاعل مجموعة من العوامل و المدخلات المتعددة والمتنوعة من أجل الوصول إلى تحقيق تأثيرات وتشكيلات معينة في حياة الإنسان وفي سياقه المجتمعي وهي حركة متصلة تتواصل عبر الأجيال زمانا وعبر المواقع الجغرافية والبيئية على هذا الكوكب.
والتنمية البشرية المركبة تستدعي النظر إلى الإنسان هدفا في حد ذاته حين تتضمن كينونته والوفاء بحاجته الإنسانية في النمو والنضج والإعداد للحياة .إن الإنسان هو محرك الحياة في مجتمعه ومنظمها وقائدها ومطورها ومجددها. إن هدف التنمية تعنى تنمية الإنسان في مجتمع ما بكل أبعاده الاقتصادية والسياسية وطبقاته الاجتماعية، واتجاهاته الفكرية والعلمية والثقافية.
إن مفهوم التنمية البشرية مركب يشمل مجموعة من المكونات والمضامين تتداخل وتتفاعل في عملياته ونتائجه جملة من العوامل و المدخلات والسياقات المجتمعة وأهمها: عوامل الإنتاج، والسياسة الاقتصادية والمالية، مقومات التنظيم السياسي ومجالاته، علاقات التركيب المجتمعي بين مختلف شرائحه، مصادر السلطة والثروة ومعايير تملكها وتوزيعها، القيم الثقافية المرتبطة بالفكر الديني والاقتصادي، القيم الحافزة للعمل والإنماء والهوية والوعي بضرورة التطوير والتجديد أداةً للتقدم والتنمية.
وهكذا يمكن القول أن للتنمية البشرية بعدين، أولهما يهتم بمستوى النمو الإنساني في مختلف مراحل الحياة لتنمية قدرات الإنسان، طاقاته البدنية، العقلية، النفسية، الاجتماعية، المهارية، الروحية ....
أما البعد الثاني فهو أن التنمية البشرية عملية تتصل باستثمار الموارد و المدخلات والأنشطة الاقتصادية التي تولد الثروة والإنتاج لتنمية القدرات البشرية عن طريق الاهتمام بتطوير الهياكل و البنى المؤسسية التي تتيح المشاركة والانتفاع بمختلف القدرات لدى كل الناس.
دور التربية في التنمية البشرية :
يقول الدكتور/ محمد الرشيد: "وراء كل أمـــــــة عظيمة ... تربيـــة عظيمـة":
يعتبر قطاع التعليم من أكبر قطاعات الخدمات التي تديرها السلطة الوطنية الفلسطينية ممثلة في وزارة التربية والتعليم العالي، حيث بلغ عدد الأطفال الذين يجلسون على مقاعد الدراسة بما فيهم رياض الأطفال مليون طالب وطالبة ونسبتهم حوالي 35% من مجموع السكان.ولقد سارت الوزارة في خطى حثيثة لتطوير التعليم وإعادة بناء ما أحدثته سلطات الاحتلال من تخلف ودمار في حقل التربية والتعليم، فقامت بإعداد الخطة الوطنية الخمسية لتطوير التعليم، ولقد سعت المناهج الفلسطينية الجديدة التي كانت من أول اهتمامات الوزارة على التركيز على أنها جزء لا يتجزأ من العملية التنموية بحيث تكون الموضوعات المطروحة تحتوي على مادة عصرية ملمة بكل التطورات التكنولوجية والحياتية الحديثة ولتمكن الإنسان الفلسطيني من التعامل البناء مع متطلبات العصر. كما وحملت المناهج الفلسطينية التي مازالت تجد طريقها إلى النور رسالة في أن تحيي وتعزز روح الخلق والإبداع لدى الطلبة الفلسطينيين ومعالجة القضايا المعاصرة بشكل يعزز المساواة بين الرجل والمرأة والاهتمام بالديمقراطية وحقوق الإنسان والبيئة، ودمج ذوي الاحتياجات الخاصة وتكريس روح المواطنة ونبذ التعصب والقبلية والتفرقة والتمييز العنصري.
مكونات دليل التنمية البشرية ( برنامج دراسات التنمية/ جامعة بيرزيت إبريل/2000 ).
يتكون دليل التنمية البشرية، كما يطرحها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، من ثلاثة مكونات أساسية وهي: طول العمر (مقاسا بتوقع العمر عند الولادة)، والمعرفة (مقاسا بنسبة معرفة القراءة والكتابة عند الكبار، ومتوسط سنوات الدراسة) ومستوى المعيشة ( مقاسا بالقدرة الشرائية بالاستناد إلى معدل الدخل المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد)".
وحيث أن التربية لها دور أساسي في عملية التنمية البشرية فلابد من إتاحة الفرصة أمام كل إنسان لتنمية قدراته التربوية، ومن أهم الشروط الضرورية لإتاحة حق الإنسان في الثقافة والتعليم:
1 - حق التعليم للجميع لأنه من حقوق الإنسان الأساسية في الحياة ،وإتاحة الفرصة لكل فرد في تنمية طاقاته من خلال مؤسسات الثقافة والتعليم .
2 - إشاعة الحرية في المؤسسات الثقافية والتعليمية وترسيخ أسس الحوار الديمقراطي،ضماناً لرفع الكفاءة في العمل وتجديده وتطويره.
3 - القضاء على الأمية، لأن الأمية تعتبر عائقاً من عوائق التنمية والتجديد فهي ميدان للتفكير المتعصب والخرافي والسلطوي .
4 - التأكيد على سنوات التعليم الأساسي للجميع والتوسع والتنوع في مؤسسات التعليم الثانوي والجامعي والعالي لمواجهة مطالب سوق العمل .
5 - التركيز على مبدأ التعليم المستمر مدى الحياة والإعداد للتعلم الذاتي مما يساعد الإنسان على التكيف مع واقعه حيث يصبح فاعلاً لا مجرد تابع أو مستقبِل فقط .
6 - ترسيخ المساواة والتقدير لكل فروع المعرفة الإنسانية وخبراتها سواء كان عملا ذهنيا، عمليا، تنظيميا، فنيا، إنتاجيا، تعليميا أو جماليا.
7 - التقدير المتكافئ لمختلف الأنشطة المجتمعية وتكاملها، لأن الإنسان كائن مركب من طاقات مختلفة : بدنية،عقلية، اجتماعية، روحية،وجدانية وتنمية هذه الطاقات يتطلب الوفاء باحتياجاتها البيولوجية والجسمية والمعنوية.وواقع تعليمنا يركز على الإنسان الجزئي عن طريق تلقين وحشو الأذهان بالمعلومات .
عقبات توظيف التربية في التنمية البشرية: ويمكن تلخيصها فيما يلي :
1 - التعليم البنكي الذي يرتكز على إيداع المعلومات في ذاكرة الطلاب ليستردها كما هي في الامتحانات، دون التركيز على تنمية أنماط مختلفة من التفكير تساعد على تفتح المواهب والقدرات الخاصة وتحقيق الذات. لاشك أن تفجير الطاقات الذهنية تعتبر من ضرورات التنمية البشرية.
2 - إشكالية التوظيف الاجتماعي لإسهامات التعليم والثقافة وعلاقتها بالتجديد في مسيرة التنمية البشرية. والمشكلة تتراوح بين استخدام السلطة السياسية للإسهامات التربوية كقنوات للمحافظة أو عوامل للتجديد.
3 - إغراق التعليم في اللفظية بعيدا عن تطبيقاته في الحياة العامة والخاصة للمتعلمين، وبذا يصبح التعليم بلا معنى، ويزول مع امتداد الفترة الزمنية أو حتى بعد استظهاره للامتحانات.
4 - التنافس بين الهدف الاقتصادي والاجتماعي للتربية ولمن تكون الأولوية وأين تقع مراكز الثقل في عمليات التعليم والتعلم.
5 - تعدد مؤسسات التعليم والثقافة، الرسمية والخاصة، والقلق حول دور التعليم والثقافة في توثيق أواصر التماسك الاجتماعي .
6 - الاضطراب بين القيم الفردية والفئوية من ناحية والقيم المجتمعية العامة من ناحية أخرى ولقد غدا جمع الثروة بأي أسلوب وبأقصر الطرق دافعاً ملحاً للأمن والأمان وأبرز صورها "الدروس الخصوصية" الذي بدت تتفشى في مجتمعنا.
7 - عدم تكافؤ الفرص بين الجنسين هي من أكبر إشكاليات التنمية البشرية وبروز الثقافة الذكورية الأبوية واعتبارها ظاهرة مقنعة في كثير من السياسات و الممارسات والرؤى الفكرية وفرص الحياة العملية.
الشباب والتنمية البشرية :
إن الشباب هي أغلى فترة في حياة الإنسان ، وهم أغلى ثروة وقيمة في حياة المجتمع و لهم المكانة الكبرى في حياة الأمة.إن أهمية الشباب في الحاضر والمستقبل نابعة من أهميته على الدوام لما له من أثر في حياة الإنسان فهو القوة والحيوية والحماسة.
تطلعات الشباب:
إن أبسط مطالب الشاب أن يحيا حياة كريمة وآمنة، بحيث يجد سبل العيش الكريم وأن يجد المناخ الآمن لإقامة حياة أسرية كخلية أساسية في بناء المجتمع من أجل تحقيق الذات والمكانة الاجتماعية المرموقة.
ويرى (الجو ير،1994) أن أهم حاجات الشباب هي :
1 . الحاجة إلى الشعور بالأمان.
2 . الحاجة للتعبير الإبتكاري.
3 . الحاجة إلي الانتماء.
4 . الحاجة إلي المنافسة.
5 . الحاجة إلي خدمة الآخرين.
6 . الحاجة إلي الحرية والنشاط.
7 . الحاجة إلي الشعور بالأهمية.
8 . الحاجة إلي ممارسة خبرات جديدة و الشعور بالمخاطرة .
دور الشباب في التنمية: يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 . المشاركة في تحديد احتياجات المجتمع المختلفة وإعداد الخطط اللازمة تبعا لقدراته.
2 . المشاركة الفعلية في بناء أمن المجتمع واستقراره من خلال المؤسسات المختلفة.
3 . إسهام الشباب في الخدمات الاجتماعية والتطوعية.
4 . المشاركة في البرامج التعليمية التربوية مثل محو الأمية، ودورات التثقيف والتوعية........الخ .
5 . الإسهام في ترسيخ الحضارة والتراث الشعبي والوطني.
6 . توصيل ونقل خبرات وعلوم ومعارف وثقافات الشعوب الأخرى وانتقاء الأفضل والصالح لخدمة المجتمع.
7 . المشاركة في حماية أمن وسيادة الوطن. (الجوير، 1994) .
التنمية البشرية في المجتمع الفلسطيني:
إن التنمية البشرية للإنسان الفلسطيني طغت عليها القضايا السياسية التي تسعى لتحرير الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني. إن تقارير المنظمات الدولية، ومنظمة اليونسكو، والصحة العالمية، و الاونروا، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، كلها تُجمع على الأحوال المعيشية المتدنية التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت وطأة الاحتلال الذي يعد من أبشع صور الاحتلال التي عرفتها البشرية. إن هناك العديد من قرارات مجلس الأمن والجمعية العمومية والمنظمات الإنسانية التي تدين انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان الفلسطيني وتندد بجرائم الاغتيال، والطرد والحصار وهدم البيوت والمؤسسات الاقتصادية، والاعتقال، والعقاب الجماعي, وحصار المدن الفلسطينية ..........الخ.
ومع ذلك فقد مرت التنمية في فلسطين بعدة مراحل كما يراها (لبد،2001):
1 . مرحله ما قبل اتفاق أوسلو: شكلت التجربة الفلسطينية تحت الاحتلال تجربة فريدة، ففي بداية الثمانينات ظهر شعار "التنمية من أجل الصمود" حيث لعبت مبادرات الأحزاب السياسية والاتحادات والجمعيات والمعاهدات الذاتية دورا أساسيا في بناء المؤسسات الوطنية. وذلك من أجل الصمود، والتنمية المقاومة، والاقتصاد المنزلي، والعمل التطوعي والتنمية المحلية.وكانت هناك المبادرات التنموية الخارجية عبر نشاطاتها المتعددة والتي اعتمدت في تحويلها على مصادر حكومية أو غير حكومية وكانت مدفوعة للعمل في فلسطين بدوافع إنسانية، عقائدية ......الخ.
2 . ما بعد اتفاقية أوسلو: بإشراف البروفيسور يوسف الصايغ ومجموعة من الأكاديميين والمؤسسات الفلسطينية (1993) تم وضع خطة إنمائية طموحة بهدف إعادة بناء المجتمع الفلسطيني وتصحيح التشوهات التي سببها الاحتلال. وخلق فرص عمل وتطوير البنية التحتية وتشجيع قطاع التصدير والإسكان، وتنمية الموارد البشرية وتحسين الأوضاع الاجتماعية، إلا أن تطبيق هذا البرنامج اصطدم بعقبة التمويل، وبعد ذلك كانت هناك خطط تنموية أخرى ركزت على التنمية الاقتصادية والريفية، تطوير المؤسسات المختلفة، تنمية الموارد البشرية، تحسين الأوضاع الاجتماعية وترسيخ مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ولكن اصطدمت تلك الخطط بالممارسات اليومية للاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة التي انعكست آثارها السلبية بشكل مباشر على المجتمع الفلسطيني من كافة النواحي.
3 . انتفاضة الأقصى: تعجز الأرقام عن تحديد ما ألحق ببنية المجتمع الفلسطيني المؤسساتية، الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية من دمار نتيجة السياسة المنهجية التي يمارسها الجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، لقد دمر ما تحقق من تنمية بشرية خلال السبع سنوات الماضية، ومما لاشك فيه أن أثار هذا الدمار ستؤثر على خطط التنمية البشرية المستقبلية، إن تدني مستوى المعيشة نتيجة الحصار وتقطيع أواصر الوطن إلى كنتونات وانخفاض الدخل لأدنى مستوى والتراجع الملموس في الخدمات وخاصة الصحية منها، والقهر النفسي والإذلال الذي يتعرض له المواطن الفلسطيني ستؤثر سلبا على خطط التنمية البشرية التي نطمح لها. إن تحقيق تنمية بشرية حقيقية في فلسطين يتطلب العمل بشكل حاسم لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وسيطرته على إمكانيات الشعب الفلسطيني وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية التي تتمتع بكامل السيادة.