عُرفت منطقة جبال القفقاس بالتنوع الكبير في لغاتها التي تُدرج جميعاً تحت اسم «اللغات القفقاسية» langues caucasiennes ou caucasiques. فقد تحدّث المؤرخون عن وجود سبعين لغة محكية في أبخازيا وحدها منذ القرن الأول قبل الميلاد، ويحكى أن الرومان استعانوا بمئة وثلاثين مترجماً للتفاهم مع أبناء تلك المنطقة، وقد أطلق الجغرافي العربي المسعودي على بلاد القفقاس لقب «جبل الألسن».
لم يبقَ من هذا العدد الكبير من اللغات إلا نحو خمسين لغة تنطق بها مجموعات بشرية كبيرة مستقرة في تلك المنطقة، كما تنطق بها أقوام أخرى خارجها. وترتبط اللغات القفقاسية لغوياً بصلات قربى مع عائلات لغوية يتجمع أصحابها في الخارج كاللغة الأرمنية ذات الأصول الهندية ـ الأوربية، أو اللغات التترية المتعددة ذات الصلة باللغة التركية، وأخيراً اللغات القفقاسية التي ينحصر استخدامها في منطقة جبال القفقاس ولا ترتبط بأي لغة معروفة في العالم.
نشأة اللغات القفقاسية وانتشارها
يبلغ عدد اللغات القفقاسية الأصلية المحلية 38لغة إضافة إلى بضع مئات من اللهجات تتوزع على فئات متميزة عدة يصعب أحياناً إيجاد صلة القربى فيما بينها. ينحصر معظمها شمال سلسلة جبال القفقاس بين البحر الأسود وبحر قزوين (الخزر)، وتنقسم إلى مجموعات عدة أهمها مجموعة اللغات القفقاسية التي ينطق بها سكان المنطقة الشمالية الغربية؛ وتتألف من خمس لغات أهمها الأبخازية Abkhaze إذ ينطق بها أكثر من مئة ألف نسمة، واللغات القفقاسية المتمركزة في الوسط والشمال وأهمها الشيشانية Tchétchène، ولغات الجنوب وأهمها الجورجية Géorgien. من بين كل هذه اللغات الثماني والثلاثين، وحدها اللغة الجورجية تملك نظاماً أبجدياً وأدباً مكتوباً تعود بداياته إلى النصف الأول من القرن الخامس، أما باقي اللغات القفقاسية الأصلية فقد اقتصرت على التواصل الشفوي ولم تنتج أي نصوص مكتوبة. فقط إحدى عشرة لغة من هذه اللغات تملك أبجدية خاصة تكتب بالحروف الكيريلية cyrillique. شُكِلت هذه الأبجديات واعتُمِدت رسمياً بين عامي 1918ـ1932 ثم طرأت عليها تعديلات عدة. إضافة إلى اللغة الجورجية، وحدها اللغة الأودية oudi التي ينطق بها نحو نصف مليون نسمة من الأذربيجانيين تمتلك أبجدية تعود بتاريخها إلى القرن الخامس.
خصائصها
تتميّز اللغات القفقاسية عموماً بغناها غير المعهود بالفونيمات phonèmes أي بالأصوات التي تختلف بعضها عن بعضها الآخر اختلافاً جوهرياً. ففي الأبخية 82oubykh فونيماً (وحدة صوتية)، وفي الأبخازية 67صوتاً مميزاً، وتحتوي لغات داغستان من 40 إلى 50صوتاً مختلفاً. أمّا اللغات القفقاسية الأقل غنى من الناحية الصوتية كالجورجية وغيرها من لغات الجنوب ففيها أكثر من 30صوتاً مميزاً، كما تتميّز بالغنى الكبير بالصوامت consonnes مقارنة بفقرها بالصوائت voyelles (في اللغة الأبخية مثلاً 80صامتاً مقابل صائتين فقط، وفي الأبخازية 58صامتاً مقابل صائتين فقط، وفي الشركسية 51صامتاً وصائتان فقط، الخ...). لكن السمة الصوتية الأساسية التي تميز غالبية اللغات القفقاسية تكمن في وجود مثلث من الصوامت الانسدادية consonnes occlusives أو الصوامت الرنّانة sonores (مثل الكاف في العربية وb بالفرنسية)، والصوامت المحبوسة المهتوتة sourdes aspirées (وهي الأصوات التي يصاحب نطقها نفس مسموع، مثل[كـ ه] و [Ph])، والمحبوسة المزمارية sourdes glottalisées (وهي الأصوات التي مخرجها الحنجرة، مثل [ق]). وهذا ينطبق أيضاً على الصوامت المعطّشة consonnes affriquées (والتعطيش هو نطق الجيم كما في اللهجات السورية، خلافاً لنطقها غير معطّشة كما في اللهجة القاهرية)، التي تحتوي على صوت ثالث وسط بين المعطّش وغير المعطّش.
تمتاز اللغات القفقاسية أيضاً بغنى كبير في نظامها الصرفي، وهذا ينطبق على الأسماء والأفعال على حد سواء. أمّا الأسماء فهي تحمل علامات إعراب تراوح بين اثنتين إلى عشر علامات تظهر في آخر الكلمة. وتشترك هذه اللغات في احتوائها جميعاً على أفعال توافقية verbes ergatifs أي على أفعال يصح أن تكون متعدية أو لازمة، وتظهر من ثم في تركيب توافقي structure ergative يحمل فيها الاسم - الذي يكون تارة فاعلاً لفعل لازم وتارة أخرى مفعولاً لفعل متعد ٍـ حالة الإعراب نفسها. ويميزها أيضاً نوع آخر من التراكيب وهو ما يسمى بالتراكيب «الوجدانية» constructions affectives أو «غير المباشرة» indirectes، حيث لا وجود في اللغة الجورجية مثلاً لكلمة مثل «أحبك»، وإنما «أنت عزيز على قلبي». وهذا ينطبق على الأفعال الوجدانية كافة وأفعال القلوب وأفعال المعرفة والإدراك.