تطلق تسمية اللغات البلطيقية Baltic Languages على أحد فروع اللغات الهندية-الأوروبية، وهي تشمل اللغات اللتوانية واللاتفية الحديثة التي تنطق بها شعوب الساحل الشرقي لبحر البلطيق، إضافة إلى لغات انقرضت وحلت محلها السلافية والألمانية كالبروسية القديمة واليَتفنغانية والكورونية والسميغالية والسلونّية. واللغات البلطيقية أقرب إلى اللغات السلافية والجرمانية والهندية ـ الإيرانية، منها إلى فروع اللغات الهندية-الأوربية الأخرى.
تعد اللغة اللتوانية Lithuanian من أقدم اللغات الهندية-الأوربية الحية. بلغ عدد الناطقين بها في الثمانينات من القرن العشرين 2.760.000 نسمة من سكان لتوانية، وبضعة آلاف شخص يقطنون روسية البيضاء وبولونية، ونحو700 ألف يعيشون في المهجر، معظمهم في الولايات المتحدة الأمريكية. تشمل اللغة اللتوانية عدداً كبيراً من اللهجات موزعة جغرافياً بين غربي لتوانية وشرقيها. ففي القسم الغربي المنخفض من لتوانية، هناك لهجتان أساسيتان تتفرع عنهما ثلاث لهجات، ينطق بها سكان المنطقة الغربية المحاذية لشواطئ البلطيق. وهناك ما يسمى باللتوانية الشرقية وفيها أربع لهجات فرعية يتكلمها سكان الأراضي المرتفعة. كان أول كتاب مطبوع باللغة اللتوانية لمارتيناس ماجفيداس Martynas Mazvydas ترجمة لكتاب الصلوات والابتهالات لمارتن لوثر[ر]، ونشر عام 1547. أما اللغة اللتوانية الفصحى فقد تشكلت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقامت أساساً على اللهجة اللتوانية الجنوبية الغربية العليا التي ينطق بها سكان بروسية الشرقية ولتوانية. وقد شارك آخرون في تبلور اللتوانية الفصحى لغة كتابة في منطقة شرق بروسية بين القرنين السادس والثامن عشر، ومن أهم هؤلاء النحوي دانيليوس كلاينَس Danielius Kleinas الذي وضع أول قواعد للغة اللتوانية (1653 و1654) وكريستيوناس دونيلايتيس (1714-1780) وهو أول كاتب لتواني ذاع صيته. وقد وضع كونستانتيناس سرفيداس Konstantinas Sirvydas أول قاموس في اللغة اللتوانية عام 1629 وأظهر فيه مقدار تأثر اللتوانية الفصحى باللهجات المحلية المختلفة.
أقرب اللغات البلطيقية إلى اللتوانية هي اللغة اللاتفية Latvian. بلغ عدد الناطقين بها في بداية الثمانينات 1.344.000 نسمة في لاتفية، ونحو 156.000 نسمة يعيشون في المهجر وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. واللاتفيّة لغة مقسمة إلى عدة لهجات أهمها اللهجة الوسطى واللّفونية، وتسمى أيضاً التاميّة أو اللاتفيّة الغربية، واللاتفيّة العليا أو الشرقية. ويرجع أول نص كتب باللغة اللاتفية إلى عام 1585 وهو كتاب صلوات وتراتيل. ويعود أول قاموس لاتفي-ألماني إلى عام 1638 لمؤلفه غورغيوس مانشيليوس. أما أول مؤلف في قواعد اللاتفية فيعود الفضل فيه إلى يوهان غيورغ ريهاوزن (1644). وكان لأعمال كل من يوريس ألونانس (1832-1864) وأتيس كرونفالد (1837- 1875) أكبر الأثر في تطور اللغة اللاتفية الفصحى التي نشأت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وقامت بصورة أساسية على العامية الوسطى.
لا تتوافر لدى الباحثين معلومات وثيقة عن اللغات البلطيقية المنقرضة، فمع حلول القرن السادس عشر، فقد السلونيّون والسميغاليّون والكورونيّون الذين عاشوا في مناطق لاتفية ولتوانية هويتهم الوطنية، إذ اندمجوا اندماجاً تاماً باللاتفيين واللتوانيين، ولم يخلفوا أي أثر مكتوب. كذلك كان حال اليتفنغيين الذين قطنوا جنوب غرب لتوانية في ما يعرف اليوم ببولونية، الذين مالبثوا أن انصهروا تماماً مع بداية القرن السابع عشر باللتوانيين شمالاً، وبالسلافيين جنوباً. من بين كل لغات البلطيق المنقرضة، خلّفت البروسية القديمة وحدها آثاراً مكتوبة. وقد عاش البروسيون في بروسية الشرقية واندثرت لغتهم في بداية القرن الثامن عشر بعد ضم الألمان لهم وانصهارهم بهم. وترتبط اللغتان اللتوانية واللاتفية في ما بينهما بصلات أوثق من تلك التي تربطهما باللغة البروسية القديمة.
بدأت اللغات البلطيقية بالتطور في بداية الألف الثاني ق.م ضمن مجموعة لسانية متميزة، لكنها أخذت تدريجياً بالانقسام والتمايز. ولاشك في أن اتساع الرقعة الجغرافية التي انتشرت فيها تلك اللغات وتباعد المسافات بين مختلف الناطقين بها قلل الاحتكاك بين اللهجات. ثم مالبثت المساحات التي يقطنها الناطقون باللغات البلطيقية أن أخذت بالتقلص منذ منتصف الألف الأولى للميلاد، إذ إن المهاجرين السلاف القادمين من الجنوب استقروا في الجزء الأكبر من منطقة البلطيق، فانصهر البلطيقيون بهم تدريجياً إلى أن أصبح الاندماج كلياً نحو القرن الرابع عشر. أما اللغة الأولية لما يدعى بالبلطيقيين الشرقيين فقد انقسمت نحو القرن السابع إلى اللتوانية واللاتفية، وتفرعت اللغات الأخرى في الحقبة نفسها. ولعل اللغتين البلطيقيتين المنقرضتين السلونية selonian والسميغالية semigallian كانتا لغتين مرحليتين تولّدت عنهما اللتوانية واللاتفية.
تشترك اللغات البلطيقية، مع اللغات السلافية والجرمانية بعدد من خطوط التماثل اللغوي، ويمكن، من ثم، عدّها تابعة لمنطقة اللّهجات الهندية-الأوربية الشمالية. ويتجلى هذا الأمر في عدة أمور أبرزها التشابه في المفردات. فاللغات السلافية والبلطيقية تشترك في ما بينها بأكثر من مئة مفردة متماثلة من حيث الشكل والمعنى. كما أننا نجد فيها تقابلاً في السمات الصرفية وفي معالم النغم والنبر، مما يدل على وجود صلات تاريخية وثيقة بينها.
تعد هذه اللغات كلها لغات تصريفية، إذ يُعبر عن العلاقات النحوية فيها بالتصريف وبدمج الزوائد بجذور الكلمات. وتحتوي كل من اللتوانية واللاتفية على التأنيث والتذكير والإفراد والجمع، وتحوي بعض اللهجات اللتوانية أيضاً صيغة التثنية. وهناك في كل من اللتوانية واللاتفية سبع حالات إعرابية هي حالات الرفع والنصب والمفعولية غير المباشرة والجر بحرف الجر والوسيلة وظرف المكان والمنادى. وفي اللتوانية الفصحى خمسة تصاريف للأسماء تتبع اثني عشر نموذجاً تصريفياً. في حين تقتصر اللاتفية على ستة تصاريف للأسماء وفق ثمانية نماذج تصريفية. وتصرّف الصفات في اللتوانية وفق ثلاثة أنماط، في حين يقتصر تصريفها في اللاتفية على نمط واحد، مع صيغتي التعريف والتنكير. وتصرّف الأفعال في اللغتين في صيغ الحاضر والماضي والمستقبل بحسب صيغ المتكلم والمخاطب والغائب، علماً بأن صيغة الغائب واحدة في حالتي الإفراد والجمع في كل من اللغتين. وتلجأ اللغتان إلى كثير من صيغ الأزمنة المركبة والمؤلفة من الفعل الناقص المساعد وصيغ اسم الفاعل أو المفعول، وهي صيغ تتشابه في كلتا اللغتين، وثمة اختلاف بينهما في صيغ الفعل الدلالية (كصيغة التمني والاحتمال). وتشترك اللغتان كذلك في أن ترتيب الكلمات في الجملة حر بعض الشيء، بسبب نظامهما الصرفي الغني. كما أن خصائصهما التركيبية متشابهة.
تتولد الألفاظ في اللغتين وفق نظام اشتقاقي يقوم على الزوائد واللواحق والتركيب. وقد استعارت اللغات البلطيقية من اللغات السلافية العديد من المفردات، وفيها بضع كلمات مستعارة من القوطية (لغة القوطيين الجرمانية الشرقية) وربما من الاسكندنافية القديمة، وعدد من الألفاظ المستعارة من اللغة الجرمانية القديمة، خاصة في اللغة البروسية القديمة واللاتفية، بسبب السيطرة الألمانية على المنطقة في القرن الثالث عشر.