◄▓▒░ تنازع القانون من حيث الزمان ░▒▓►
قلنا في السابق أن القاعدة القانونية تصبح في حيّز النفاذ عند نشرها في الجريدة الرسمية أو عندما يحدد المشرع نفاذها بعد تاريخ معيّن وفي تلك الحالتين يعتبر القاعدة القانونية سارية وينتهي العمل بها عند إلغاء حكمها والذي يكون عادة بإصدار قاعدة قانونية تحل محلها…غير أن تطبيق القانون في حيز الزمان على أساس تحديد بدايته وانتهائه قد لا تنتقضي فيه وقائع قانونية ممكن أن تستمر آثارها إلى ما بعد انتهائه وحلول قانون آخر محله تختلف فيه النتائج المترتبة عند إعمال حكمه عن سابقه…فما هي المبادئ التي تحكم هذا التنازع الزماني ؟؟
(للإجابة على هذا السؤال ولحلول هذه الإشكالية دعونا نتعرف جميعاً على تلك المبادئ) .
أولا : مبدأ عدم رجعية القوانين :
يقصد به : انعدام سريان أحكام قواعد القانون الجديد على الماضي..بحيث لا يكون هناك أثر رجعي للقانون على وقائع ومراكز قانونية ترتبت في شتى مراحلها في ظل قانون قديم…بمعنى آخر قواعد القانون السابق ستكون هي الحاكمة لكل ما تم من أفعال وتصرفات قبل نفاذ القانون الجديد.
مثال: لو صدر قانون بتاريخ 6/2/2006 ينظم عقود بيع المركبات الأجنبية في السعودية مثلاً بحيث لا يعتبر عقد البيع صحيح ومنتج لأثاره ما لم يتم تسجيله لدى قسم التسجيل في إدارة المرور …(أي أن التسجيل شرط انعقاد وإلا اعتبر عقد البيع باطل في هذه الحالة) …فأن هذا القانون الجديد لا يسري على تصرفات قد تمت في الماضي (بمعنى بيوع المركبات الأجنبية في الماضي جميعها صحيحة حتى ولو لم يتم تسجيلها في إدارة المرور) .
مثال آخر :لو فرضنا انه في عام 2005 ( لا يعد استخدام الجوال إثناء قيادة السائق لمركبته مخالفه يعاقب عليها في السعودية)..وكان صاحبنا خالد (لا يهدأ جرس جواله من الرنين في ال24 ساعة ،،ساعةً واحده ) وكثيراً ما يتسبب في حوادث ومع هذا لا يتعظ إلا انه في 1/1/2006 ..صدر قانون يجرم استخدام الجوال أثناء القيادة …فهل يمكن لنا معاقبة خالد على استخدامه للجوال في العام الماضي ؟؟ الإجابة (لا) ..لا يعتبر خالد مرتكباً لفعل مجرم لأن في هذا تطبيقاً للقانون على الماضي وإعمالاً لأثره على حوادث تمت قبل سريانه وهذا يتنافي مع مبدأ عدم رجعية القوانين.
ومما لاشك فيه أن عدم انسحاب أثار القانون على ما قد تم في الماضي أمر تحتمه اعتبارات متعددة تتوافق مع المنطق القانوني في العلاقات التي تتم بين أفراد المجتمع ومن هذا الاعتبارات ما يلي :-
1-المنطق القانوني الذي فيه ينظر إلى القاعدة القانونية على اعتبارها خطاباً تكليفي لأفراد المجتمع يتضمن أمراً بأتباع عمل محدد أو النهي عنه لا يمكن تصوره إلا في أمور مستقبلية والقول بغير ذلك يعني أن القانون سيأمر شخصاً للقيام بعمل في زمن ماضي وهو ما يستحيله الواقع.
2-العدالة واعتباراتها وبالخصوص منها ما يتعلق بتجريم أفعال …فمن المعلوم أن الأصل في الإنسان براءة ذمته كما أن الأصل في الأشياء الإباحة فلا يتصور ولا يستسيغ مفهوم العدالة أن يطالب الشخص بالخضوع لقانون يعاقبه على فعلا مباحاً في الماضي وجرّم في الحاضر بقانون لاحق.
3-يعد مبدأ عدم رجعية القوانين ضماناً أساسيا لحقوق الأفراد وأداة رئيسية لدعم الاستقرار الاجتماعي والثقة في المعاملات بين أفراد المجتمع …والسبب أن انسحاب القانون بحكمه على الماضي سيقود إلى الإخلال والاضطراب قد يهدم فيه ثقة أفراد المجتمع بالقانون .
(هذا ما يتعلق بمبدأ عدم رجعية القوانين انتهينا منه ؟؟ لكن هل انتهينا حقاً ؟؟ طبعا لا! لدينا استثناءين مهمين على مبدأ عدم رجعية القوانين يسابقنا الوقت شوقاً للتعرف عليهما) !!!
الإستثناء الأول : هو ذلك الاستثناء الوارد بنص صريح على رجعية القوانين:
قلنا فيما مضى أن مبدأ عدم رجعية القوانين هو الأصل الذي يلتزم به القاضي وواضع القانون ….إلا انه في حق القاضي يكون بشكل مطلق (أي أن القاضي ملزم بتطبيق ذلك المبدأ) ..على عكس واضع القانون (أي المشرع) فأن لا يتقيّد به إلا في حالة النصوص الجنائية ومثالها (ما نصت عليه المادة 38 من النظام الأساسي للحكم بقولها : العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص شرعي أو نظامي ولا عقاب إلا على الأعمال اللاحقة للعمل بالنص النظامي) …هنا المشرع قد نص بشكل صريح على شمول الأحكام الجديدة وإعمالها في وقائع ومراكز قانونيه سابقة وان كانت داخله في نطاق سريان قانون قديم.
والعلة في ذلك هو اختلاف وظيفة كل من القاضي والمشرع …فالقاضي مكلف بتنفيذ وتطبيق القانون فتنحصر مهمته بشكل أساسي في الاعتراف بحالة قانونية سابقه والبحث في آثارها وهو أمر لا يمكن تحققه إلا بناء على القانون الجديد حينما يرتب تلك الآثار القانونية.
بينما يكون للمشرع على سبيل الاستثناء الخروج على هذا المبدأ عندما تحتم عليه المصلحة العامة للمجتمع وبناء على ذلك فإن اللجوء إلى الاستثناء ينحصر في الحالات التي تصبح معها إعمال الأثر الرجعي للقانون مغلبه على المصلحة المترتبة من ضرورة استقرار المعاملات.
الإستثناء الثاني : استثناء القوانين الجنائية الأصلح للمتهم من مبدأ عدم رجعية القوانين:
يقصد بالقانون الأصلح للمتهم هو ذلك القانون الجديد الذي يصدر بعد ارتكاب الفعل الجرمي (والذي عادة ما تكون العقوبة فيه مشدده في ظل قانون قديم) …فهنا ولاعتبارات إنسانية بحته لا يعد انسحاب القوانين الجنائية الأصلح للمتهم على ما مضى من أفعال وحوادث انتهاكاً لحريات الأفراد …بل انه يستفيد المتهم بتخفيف العقوبة عنه في القانون الجديد إلى حد اقل مما كان عليه في القانون القديم ..كما ان هذا الاستثناء يراعي فيه اعتبارات العدالة فمن غير العدل الإصرار على تلك العقوبة بعد صدور قانون يرى إباحتها أو يخفف من شدة العقوبة فيها.
مثاله : لو فرضنا مثلاً … في تاريخ 1/ 1 / 2005 أودع صاحبنا (مطلق) سجن الحائر وحكم عليه بالسجن لمدة 6 شهور مع الجلد وذلك بتهمة احتسائه النبيذ المحرم شرعاً وكانت هذه هي المرة الأولى التي أقدم بها مطلق على أم الكبائر !!! إلا انه بعد مكوثه قرابة الشهرين من مدة الحكم …آتت البشائر تزفها الأقدار وصدر قانون بتاريخ 1/ 3/ 2005 ينص على أن عقوبة احتساء النبيذ بكافة أنواعه لأول مره يعاقب مرتكبها …فقط بكتابة تعهد وتوبة إلى الله على أن لا يعود إليها …هنا كما تلاحظون في مثالنا صدر قانون أصلح للمتهم (مطلق) فعليه لا نركن إلى مبدأ عدم رجعية القوانين…. ونقول لا بل القانون الجديد طالما انه فيه صلاح للمتهم فأنه يعود عليه بأثر رجعي .
ملاحظه هامه:
بعض الفقهاء القانونيين يميلون في أرائهم إلى القول بوجود استثناء ثالث على مبدأ عدم رجعية القوانين وذلك في حالة إثبات رجعية القوانين التفسيرية وذلك عندما يصدر قانون جديد يفسر فيه غموض قاعدة قانونيه في قانون قديم ويكون بشرحه لتلك الأحكام قد أظهرت المقصود منه والتي قد يفهم منها إمكانية انسحاب القانون الجديد بتفسيراته للقانون القديم على آثاره السابقة …..إلا أن هذا الرأي يخالفه الواقع والسبب أن القانون المفسر لا يحتوي على أحكام جديدة وإنما يقتصر فقط على الإفصاح عن المعنى المراد من التشريع الأصلي.
* الرأي القانوني الراجح (لا يعتبر القانون المفسر لغموض في تشريع أصلي سابق استثناء على مبدأ عدم رجعية القوانين وعليه نقول لا يوجد استثناءً ثالث) .
ثانياً :مبدأ الأثر المباشر أو الفوري للقانون:
هذا المبدأ لا يحتاج إلى عقلية نيوتن ولا لإقدام عنترة وشجاعته ولا حتى لفصاحة سيبويه لفهمه !!! …فهو بكل بساطه ذلك المبدأ الذي يمكن للقانون الجديد سلطان مباشر على الأحكام والمراكز القانونية التي تقع منذٌ نفاذه ..وعليه تكون كل واقعة أو حالة بعد سريانه محكومة بما تقرره قواعده حتى ولو كانت بعض الوقائع فيه متولدة في كنف قانون قديم وذلك لأن سريانه لا يكون تطبيقاً رجعياً لأحكامه بل ينظر إليه على اعتباره تطبيق فوري له.
ويستند هذا المبدأ على اعتبارات عده منها ما يلي :-
1-يمنع الازدواجية التي سوف تحكم المراكز والأوضاع القانونية المتماثلة حينا نكون بصدد تطبيق للقانون الجديد وذلك لأن القانون الجديد ستنبسط ولايته على كافة المراكز القانونية والوقائع القانونية المتشابهة .
2-هناك حكمة من إقرار مبدأ الأثر الفوري للقانون تكون واضحة في المصلحة التي تقتضي نبذ اثر القانون القديم لقصوره وعدم صلاحيته لمعالجة مسألة من المسائل.
ملاحظه مهمة :
تطبيق مبدأ الأثر الفوري للقانون بصورة مطلقة قد تنتج عنه مساوئ وخاصة في بعض الأحيان التي ينعدم فيها تحقيق مصلحة اجتماعية عند تطبيق ذلك المبدأ وعندما ينجم عنه في ذات الوقت الإضرار بمصالح الافراد ويكون ذلك في الروابط القانونية التي أجريت بين الأفراد قبل إصدار القانون الجديد وكانت أثارها مستقبلية متحققة كلها أو بعضها بعد سريان القانون الجديد .
مثاله لتقريب الفهم :
لو افترضنا تعاقد المطرب ذو الحنجرة الذهبية مناحي ! مع شركة (يا ليل يا عين للإنتاج والتوزيع الفني) على أن تقوم بتوزيع أعمالة الغنائية إلى كافة مناطق المملكة دون الخليج والدول العربية (حفاظاً على سمعة الفن السعودي) !! …وكان العقد ينص على أن تقوم الشركة في كل شهر بتوزيع (200 شريط) على كل مدن المملكة الكبرى ومضت الشركة في تنفيذ التزامها ولم يتبقى إلا أربع مدن لم يصلها أشرطة الفنان مناحي …وفي أثناء ذلك صدر قانون يشترط أن يكون التوزيع بأذن مسبق من قبل وزارة الإعلام …هنا لا يمكن لنا الأخذ بمبدأ الأثر الفوري بل يحق لكلاً من مناحي والشركة الفنية المضي قدماً على ما تعاقد عليه …والعلة من تقرير الخروج على مبدأ الأثر الفوري للقانون هنا تكمن في احترام إرادة الأطراف المتعاقدة عندما أقدمت على إبرام تلك العقود على أساس اعتبارات وحسابات كانت في تقديرها لأحكام القانون الساري وقت التعاقد. ولو طبق مبدأ الأثر المباشر أو الفوري بحذافيره لكان أدى ذلك إلى اختلال التوازن العقدي بين الأطراف وهو ما قد يفضي إلى إجحاف بحقوق الأفراد.
ملاحظه أخرى على ما سبق :
قلنا إن هناك إمكانية للخروج على مبدأ الأثر المباشر أو الفوري ..وضربنا مثلاً لذلك العقد المبرم بين (المطرب مناحي وشركة يا ليل يا عين للإنتاج والتوزيع الفني) …وقلنا أيضا أن إمكانية الخروج على المبدأ تكمن في العلاقات التعاقدية إلا أن هذا الخروج يرد عليه شرط مهم …دونه لا يمكن لنا الخروج عن المبدأ وذلك الشرط هو ((إلا تكون قواعد القانون الجديد من القواعد الآمرة والمتعلقة بالنظام العام والآداب العامة)) ..حيث هنا يتعطل أثار القانون السابق ويعمل الأثر المباشر للقانون الجديد متى ما كانت نصوصه آمره متصلة بالنظام العام والآداب العامة.