لقد أعطت هذه الأزمة الإقتصادية العالمية برهاناً ساطعاً على خطر الربا، وهو دليل واقعي يراه الانسان بعينه، وهي من الدلائل التي يستأنس بها لايقاظ من لم تردعه النصوص الشرعية، والتحذيرات الإيمانية من هذا "الوباء الاقتصادي" فالله تعالى يقول :{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}. (سورة البقرة 276)
وقد نهى الرسول عن الربا وهو في مجتمع قروي صغير, فبانت آثاره الآن في المجتمعات الصناعية المعقّدة، كما أنه حذّر من التوسع في الدين المباح فكيف بالديون المحرمة؟
ولهذا جاء في صحيح مسلم: " يغفر للشهيد كل ذنب إلاّ الدين", ولم يصلّ على من مات وعليه دين تعظيماً لخطره.
صعود "النظام الاقتصادي الاسلامي"
لقد كشفت أزمة "وول ستريت" عن عقم النظم الاقتصادية الغربية, التي خرجت من عقول بشرية لا تهتدي بهدي الله تعالى، ولا تعظم دينه، وهذا ما دعى كثيراً من الكتّاب والمفكرين الغربيين إلى المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية في المجال الاقتصادي والمالي, لوضع حدّ لهذه الأزمة التي تعصف بأسواق المال العالمية من جراء الربا والائتمان (الديون) والمضاربات الوهمية وغيرها .
وهذه الأزمة سوف تغيّر الفكر الاقتصادي الغربي، وقد أثبتت الأزمات السابقة أن الفكر الغربي كلّما وقعت له كارثة بسبب أفكاره المادية المتطرفة, قام بتعديل أفكاره وتحويرها وتخفيف العمل بها أو يرتد عليها.
وهذه فرصة لإبراز"النظام الاقتصادي الإسلامي" بصورته الشاملة المتضمنه للإلتزام بالمنهج الرباني، والسلوك الأخلاقي، والتكامل البنائي، وليس المقصود من ذلك الدعوة إلى تطبيق آليات الاقتصاد الإسلامي في الغرب, وإنما دعوتهم إلى الله تعالى من خلال إبراز هذا المجال وتوافقه مع العقل والفطرة والسنة الجارية، وإظهار شمول الاسلام وعدله، واشتماله على مصالح الدين والدنيا، وهذا دليل قاطع على أن هذا الدين من عند الله تعالى.
انتهاء الهيمنة الأمريكية الاقتصادية
أنهت هذه الأزمة أماني الولايات المتحدة في السيطرة على الاقتصاد العالمي، تلك الأمنية التي من أجلها شنّت الحروب المتواصلة في الخليج والبلقان، وهذه النتيجة اعترف بها أصلب المدافعين عن "المحافظين الجدد"، والذين جعلوا (الليبرالية) نهاية التاريخ الإنساني ومن أبرزهم فرانسيس فوكوياما في مقاله "انهيار الإقتصاد الأمريكي" ، وقد اعترف فيه بانهيار الليبرالية وتراجع الدور الأمريكي، وفيه إعلان ضمني لسقوط نظريته المسماه (نهاية التاريخ).
وكذلك اعترف فريد زكريا بمضاضة بانتهاء الهيمنة الأمريكية حيث يقول "فتاريخ الرأسمالية حافل بأزمات الائتمان وحالات الهلع، والانهيارات المالية والركود، هذا لا يعني نهاية الرأسمالية لكنه قد يعني من ناحية ما, نهاية سيطرة الولايات المتحدة على الأسواق العالمية" , ويقول: "ستكون التداعيات الحقيقيّة للأزمة المالية فقدان النفوذ الأمريكي لشرعيته" .
وهذا يعني التغيّر في المعادلة الدولية، وانتهاء عصر القطب الواحد، وهو بدوره سيؤثر على المجموعات التغريبيّة في البلاد العربية والإسلامية, التي ربطت مصيرها بمصير أمريكا، وتطاولت على الثوابت الإسلامية والاجتماعية، وظنت أن الهيمنة الأمريكية فرصة سانحة لتغيير عقائد الناس وأخلاقهم وقيمهم -ولو بالقوة-، والاعتماد على الضغوط الأمريكية على الحكومات العربية الهزيلة في فرض أنماط التغريب على المجتمع, من خلال قرارات سيادية في المجتمع الإسلامي, مثل إلغاء التحاكم إلى الشريعة الإسلامية، وتغريب المرأة، وتغيير المناهج، ومحاصرة العمل الخيري وغير ذلك.
{وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}
إن هذه الأزمات من الآثار المعَجَّلة للذنوب، فالذنب له آثاره الدنيوية مثل الهلاك العام، والأمراض، ونقص الأموال والثمرات كما قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (سورة طه 124)، وجاء في مسند الإمام أحمد: "إن أحدكم ليحرم الرزق بالذنب يصيبه", وعندما يهتدي الانسان بهدي الله تعالى يحصل له الخير والفلاح والرزق الواسع، يقول تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (سورة الجن 16).
وقد وصلت الجاهلية الغربية إلى مستوى خطير من الإلحاد ومحاربة الله تعالى ودينه، وجمعت كل مالدى الجاهليات القديمة من المحادة لله تعالى، ومن الطبيعي أن تحصل لهم مثل هذه العقوبات، {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (سورة طه 127).
هذه بعض الدلالات المأخوذة من تداعيات هذه الأزمة الكبرى، ولا يزال هناك الكثير.