إنه من الصعب أن يعترف شخص ما في بيئة العمل بأنه غيور. والغيرة في العمل إإيجابية ومحفزة وتؤدي للمنافسة الشريفة، أو سلبية وضارة ويطلق عليها الغيرة المرضية. وتعرف الغيرة المهنية المرضية بأنها عبارة عن مرض فكري ناجما عن فيروس «الحسد» بسبب فقد مناعة العقل السليم، وتتولد منه سلوكيات وأدلة ضالة يؤمن بها الشخص الغيور ويبني تصرفاته وسلوكه عليها. والإنسان الغيور يميل إلى تقمص الشخصية الاضطهادية والتى أيضا تضخم الأمور وتبالغ فيها وتغير مفاهيم الكلمات والمواقف إلى معان سلبية.
لذا فالغيرة المهنية تنحرف في الغالب إلى غيرة مرضية تؤدي إلى حقد وكراهية نتيجة للحسد، وهو أول معصية عصى بها إبليس ربه. وقد أوصى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالتحصن من هذا الداء والتطعيم ضده بمصل (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). وهذا المقال يتناول فقط الجانب السلبي من الغيرة المهنية لأنه الأكثر شيوعا.
والغيرة المهنية ظاهرة سلوكية يتعرض لها عادة بعض الموظفين المتميزين في الأداء أو الأفكار أو الآراء والتي قد تتعارض تلك الآراء مع القرارات والسياسات العشوائية في بيئة العمل. فنتيجة للغيرة المهنية قد تمارس على الموظف المتميز بعض المضايقات تحت مصطلح اسمه « مصلحة العمل «. وقد ينقل الموظف من موقع عمله إلى مكان آخر أو قد يرأسه من هو أقل منه خبرة ومؤهلا وأصغر سنا. وقد يحرم أيضا من بعض الحقوق كالترقية والانتداب ونحو ذلك.
وهنالك أساليب وممارسات عديدة للغيرة المهنية. فمنها الوشاية والسعي بالنميمة والفتنة لدى المدير وخصوصا إذا كان المدير يشجع ذلك. ومن الأساليب الأخرى محاولة التقليل من جهود الآخرين ونجاحاتهم وانجازاتهم. وأيضا المعارضة المستمرة لوجهات نظرهم بدون موضوعية. ومحاولة إخفاء بعض المعلومات عنهم وعدم تقديم يد العون لهم. ومن أساليب ومظاهر الغيرة أيضا الإحساس بالسرور بإخفاق المتميزين والإحساس بالألم والضيق عند الإشادة بهم. وللأسف قد يلاحظ في بعض المؤسسات أن أناسا غيورين همهم الوحيد الانشغال بالموظفين وخصصوصا المتميزين منهم. وقد يكون لدى هؤلاء الناس الغيورين مهارات متميزة لكنها تختفي بسبب سيطرة الغيرة على سلوكهم وينصرف تفكيرهم عن العمل الأساسي بالانشغال باستخدام الأساليب الدنيئة للحد من تقدم الآخرين.
والغيرة المهنية كظاهرة في أغلب مواقع العمل لها أسباب كثيرة، ومن أهمها ضعف الوازع الديني. لأن المؤمن حقا لا يضيق إذا تميز الآخرون والعاقل لا ينظر إلى نجاح الآخرين بأنه يقتطع من نجاحه هو. لذا فالخواء الديني يهيئ لبعض الناس أن ينشغل بالموظفين الآخرين – من باب الغيرة - لمحاولة تجميع الأكاذيب ونقلها للمدير لتشويه صورتهم. ونتيجة للغيرة الشديدة فهم يحورون اجتهادات وانجازات هؤلاء الموظفين المتميزين إلى مواقف سلبية. ومن أسباب اشتعال نار الغيرة فقدان العدالة نتيجة لسوء الإدارة وضعف الوازع الديني لدى المدير. وقد يمارس الغيرة المهنية المدير نفسة من خلال اتباعه سياسة «فرِّق تسُد»، والكيل بمكيالين (أبو وجهين). والمدير هو مفتاح النجاح في أي منظمة وهو الذي يفترض أن يسند كل عضو في فريق عمله للوصول لتحقيق الهدف النهائي، مستثمرا كل الطاقات وتوحيدها للعمل بروح الفريق الواحد. وانعدام العدالة لدى الإدارة بشتى معانيها وتطبيقاتها تولد الغيرة بين الموظفين.
كما إن إهمال الإدارة لعنصر المتابعة الفعّالة والتوجيه يساعد على تفشي ظاهرة الغيرة بين الموظفين. لأن المتابعة تكشف أسباب الانحراف المهني وتهيئ للموظفين التعرف على أنفسهم ومهاراتهم بشكل دقيق. والتوجيه يثقف الموظفين على احترام اختلاف وجهات النظر وعلى تقبل النقد البناء. لأن أساليب النقد المغرضة تساهم بشكل كبير في تنمية الغيرة المهنية بين الموظفين. فإذا كان النقد قاسياً فإن كل موظف سيحاول أن يتجنبه بالعمل بأسلوب فردي.
أيضا افتقاد النظرة الشمولية أحد أسباب الغيرة المهنية، لأن النظرة الفردية من جانب واحد تكون ناقصة مهما كانت. لذا فإن تنمية العمل الفردي وتشجيع كل فرد من أفراد المنظمة لإنجاز المطلوب منه بأسلوب تنافسي غير شريف، سيؤدي بالتأكيد إلى إشعال فتنة الغيرة المهنية والتي تنحرف إلى حسد وأنانية. وسيحاول كل موظف إبعاد الموظفين الآخرين من طريقه بصورة مشروعة أو غير مشروعة، لأن كل واحد من الموظفين يشعر بأنه يعمل في بيئة غير مستقرة، ولا فيها أمان من التهديد التعسفي، ولا فيها استقرار وظيفي. لذا لا بد من تثقيف الموظفين وتدريبهم على العمل الجماعي. وأن نجاح أي مؤسسة حكومية أو تجارية يعتبر نجاحا كليا، وليس نجاحا محددا لقسم أو فرد.
ومن المعلوم أن الله لم يخلق البشر في قالب واحد ولكن وهب لكل شخص قدرات تختلف عن غيره. لذا لابد من مراعاة الفروق الفردية بين الموظفين وتشجيع كل موظف من أعضاء فريق العمل على تميّزه في مهارات معينة ، وأنها هي التي تميزه عن بقية الفريق. وبالتالي يستثمر هذا التميز ويوجهه ليكون نافعا ومتكاملا مع جهود أعضاء الفريق.
ومن الآثار والنتائج السلبية للغيرة المهنية هو انعدام العمل بروح الفريق الواحد، وهو يعتبر أهم ضحايا الغيرة المهنية. لأن كل موظف يتطلع للصدارة والظهور مما يفقده التركيز والإخلاص في العمل. وأيضا يلاحظ في البيئة التي تشيع فيها ظاهرة العمل الفردي أن كل موظف يقضي وقته في كيفية تجنب المشاكل والتهديدات التي قد تعترضه بسبب الغيرة. وعندما تلاحظ تضخيم أي مشكلة صغيرة في بيئة العمل فهذا دليل واضح للغيرة لأن الآخرين يقضون وقتهم لتصيد الهفوات البسيطة وتضخيمها بينما يتجاهلون معضلات وأخطاء مهنية واضحة يقعون هم فيها. وبانعدام العمل بروح الفريق الواحد فإنه عند حدوث أزمة أو مشكلة فإن كل شخص يتبرأ منها ويلقي بالمسئولية على الآخرين.
أما الخسارة التي تسببها الغيرة المهنية فهي ابتعاد الموظفين المبدعبن تجنبا للمشاكل. لأن هؤلاء الموظفين لا يستطيعون أن يعملوا إلا في جو ومناخ مهني وثقافي نقي. ويتم ذلك الابتعاد بالانتقال إلى مكان آخر خارج المؤسسة، أو بالابتعاد النفسي وهم داخل المؤسسة، فتخسر المؤسسة طاقات مهنية مخلصة ومبدعة كان بإمكانها أن تغير وتطور لو أعطيت الفرصة ووفرت لها الإمكانيات وحصلت على دعم ومساندة من الإدارة بكل مستوياتها.
ويرى كاتب هذا المقال أن هنالك بعض الأساليب التي قد تساعد في الحد من ظاهرة الغيرة المهنية والتغلب عليها. ومنها تمكين كل موظف من أداء نوع العمل الذي يتناسب مع مؤهلاته وقدراته وخبراته ومهاراته. وأيضا تحقيق العدالة بين الموظفين، وتحقيق أسباب الرضا الوظيفي لهم كالرواتب وتناسبها مع طبيعة مسئوليات الوظيفة، وتوفر نظام الترقية، واستقرار أنظمة العمل وساعاته. كما لابد من تشجيع الشخص الغيور أن يكون صريحا مع نفسه وأن يفصح عن شكوكه الخفية بمناقشته باسلوب الحوار الهادىء.
كما أن إلمام القائد الإداري بثقافة السلوك التنظيمي للموظفين أمر ضروري، حتى يتعرف على سلوك وطاقات هؤلاء الموظفين ويوجههم نحو العمل الجماعي مشجعا كل فرد منهم حسب التميز والإبداع المناسب له. لأنه من البديهي أن توجد فروق فردية بين الموظفين في مختلف النواحي الدينية والعقلية والثقافية والاجتماعية.
وأيضا التنظيم والتشكيل غير المنطقي للمؤسسة كتعيين رؤساء الأقسام وتوزيع المهام على أسس غير عادلة يكون له أثر على إشعال فتيل الغيرة بين الموظفين. وأيضا زيادة عدد الموظفين عن حاجة العمل الفعلية تعتبر عبئا على الإدارة، لأنهم لا يجدون ما يشغلهم. فقد يلاحظ بعض الموظفين يتنقلون بين المكاتب لتبادل النكت ومقاطع فيديو الجوال وتسمع قهقهتهم من مكان بعيد! وهم بهذا السلوك يزعجون ويعطلون الآخرين عن العمل، وهذا أحد الأمراض المهنية والأخلاقية.
وختام القول (اللهم إنا نسالك أن تعافيهم ولا تبتلينا)
والله الهادي إلى سواء السبيل