لما كانت هذه الأمة هي خاتم الأمم، وكان القرآن الكريم هو كتابها الذي أنزله الله على نبيها خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين، وكان هذا الكتاب هو خاتم الكتب والمهيمن عليها، كان لزامًا أن يكون حبل النجاة لها مما يعصف بها من الفتن، وأن يكون قائدها لسعادة الدارين، وأن يكون هو هداها الذي آتاها الله إياه، فهو أحق ما ينطبق عليه قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}
إن عز هذه الأمة ونهضتها ومجدها، بل إن وجودها وبقاءها كأمة، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بإقبالها على كتاب الله، لا بتلاوته وحفظه فحسب، بل بتدبره بالمعنى الواسع للتدبر الذي بينه العلاَّمة السعدي -رحمه الله- بقوله: "التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك"؛ وإن من لوازمه الأكيدة العمل بما فيه وتحكيمه في كل شئون الحياة، كما قال الحسن البصري رحمه الله: "قال الله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ}، وما تدبر آياته إلا اتباعه، والله يعلم، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده. حتى إن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله فما أُسقِطُ منه حرفًا، وقد والله أسقطه كله، ما ترى القرآن له من خلق ولا عمل"
ولو بدأ المرء في التدبر مع فاتحة هذا الكتاب العظيم لقاده تدبره إلى التسليم لهذه الحقيقة، فقد دل قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} ، على أن الشقاء والدمار والهلاك -وهي من لوازم الغضب والضلال- تكون في تنَكُّبِ الصراط المستقيم، أما السعادة والنهضة والهناء والنعيم ففي التزام المنهج القويم الذي جاء به خاتم النبيين، وإلى ذلك أشار قوله تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى}
إن مما يشبه المسلمات بين الناس أن من صنع شيئًا وأتقن صنعه كان من أعلم الناس بما يَصلح له هذا الشيء، وما يُصلحه في ذاته وما يُعطبه؛ ولله المثل الأعلى، فهو I خالق كل شيء، خلق الإنسان وخلق ما يحيط به من أكوان، وكل ذلك منه على أكمل وجوه الإتقان، كما قال: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، فهو أعلم بما يصلح له الإنسان وما يصلحه وما يفسده، فمحال أن يعمل أحد بهذا القرآن فيشقى، بل إن كل صورة من صور الشقاء على مستوى الفرد أو الجماعة أو الأمة لا يمكن أن تكون إلا بسبب مخالفته، وترك العمل به وتحكيمه.
فإذا كان كل ما نراه في بلاد المسلمين اليوم من ضعف وذل وهوان وتأخر ومشكلات إنما هو بسبب البعد عن تدبُّر هذا الكتاب والعمل به، فعلينا إذا أردنا الخروج من كل ذلك والنهضة بأمتنا من كبوتها أن نتدبر القرآن، فإن من تدبره وجد فيه حلاًّ لجميع المشكلات العامة والخاصة، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} ، وليس هذا كلام أي أحد حتى يكون موضع تجربة واختبار، لكنه كلام رب العالمين، فلا بد أن يعتقد ما فيه كل المسلمين بيقين.
أما من كان في شك من أمره، فعليه أن يتعظ بحال من سبقنا من الأمم، قال عز من قائل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} ، فبيَّن الله أن أهل الكتاب لو أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم لسعدوا في الدنيا والآخرة، فلما لم يقيموه ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، وأضل فريقًا وغضب على فريق.
إذا تقرر ما سبق، فلا يعقل ألا يكون القرآن الكريم كفيلاً بتحقيق سيادة الأمة وعزها ونهضتها، فمن كان صادقًا في طلب النهضة فقد تبينت له السبيل، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .