من فتوحات الصديق : فتح العراق
لم يكد ينتهي سيدنا أبو بكر رضي الله عنه من حروب الردة وجمع كلمة العرب على الإسلام حتى قام بهمته العلياء يجيش الجيوش وينازل جبابرة الملوك في عقر دارهم ؛ وثوقاً بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستفتح عليكم فارس والروم ؛ حاملاً إليهم الدعوة إلى الإسلام ، دين الحق ، دين الحرية الحقيقية ، دين الفطرة ، دين العدل والمساواة ؛ ليخلص تلك الأمم التي كان أمراؤها يسومونها سوء العذاب ويعدون نفوسهم آلهة وأممهم عبيداً ؛ لينزع عن تلك الأمم الأغلال التي كانت عليها ، ويبعدها عن جور الحكام وخسف الظلام ، فتعيش آمنة مطمئنة لا تعبد إلا الله ، ولا تخاف إلا إياه ..
ولم تكن الدعوة إلى الإسلام أمراً حتماً حتى تكون بمثابة الإكراه ، بل كان يخيرها بينه وبين الجزية ، وهي أن تدفع في كل سنة مالاً قليلاً ، وتكون حرة في عباداتها وتقاليدها على شروط مقررة في الشرع الشريف ، وهي في ذمة الله ورسوله ، لها ما للمسلمين وعليها ما عليهم ، فإن لم تقبل أحد الأمرين كان السيف هو الحكم الفصل ؛ لأنها لم يبقَ لها عذر تعتذر به ...
فانتدب أبو بكر رضي الله عنه البطل المغوار سيف الله خالد بن الوليد المخزومي وأمره أن يسير إلى العراق ويبدأ بالأبله ، وكتب إلى عياض بن غنم أن يقصد العراق أيضاً ويدخل من أعلاه ويسير حتى يلقى خالداً ، وكان المثنى بن حارثة الشيباني قدم على أبي بكر رضي الله عنه ورغب إليه أن يستعمله على من أسلم من قومه ليغزو بهم أطراف فارس ، فكتب له أبو بكر بذلك ، فكان يغزوهم قبل قدوم خالد ، وأوصى أبو بكر خالداً وعياضاً رضي الله عنهم أن لا يضرا بفلاحي العراق حرصاً على منابع الثروة ، وأن يستنفرا من قاتل أهل الردة ، وأن لا يغزون معهما مرتد حتى يرى رأيه لأنه كان يرى أن لا يستعان بمن ارتد على الغزو ..
وكتب أبو بكر على المثنى ومن معه أن يلحقا بخالد بالأبله فسار خالد حتى قارب الأبله والتقى بالمثنى ومن معه وكانوا ثمانية آلاف مقاتل ، وكان مع خالد عشرة آلاف مقاتل ، فكان الجيش ثمانية عشر ألفاً ، فقسمه على ثلاث فرق وسير الفرقتين أمامه ، وواعدهما الحفير ، وكان صاحبه عظيماً من عظماء الفرس اسمه هرمز ، فلما سمع بخبر خالد كتب إلى أزدشير ملك الفرس بالخبر ، وتعجل بأصحابه إلى الحفير ، فمال خالد بالناس على كاظمة ، فسبقه هرمز إليها ، وقرن جيشه بالسلاسل كي لا يفروا ، وقد خالد فنزل في جيشه وخرج هرمز ودعا خالداً إلى البراز واتفق مع أصحابه أن يغدروا به ، فبرز خالد ومشى نحوه راجلاً ،ونزل هرمز أيضاً، وتضاربا فاحتضنه خالد وهجم الفرس يريدون أن يغدروا به ، فلم يشغل ذلك خالداً عن قتله ، وحمل القعقاع بجيش المسلمين فأزال الفرس عن خالد ، وانهزم المشركون ، وكانت هذه أول موقعة بين المسلمين والفرس ، وبعث خالد بالأخماس والفتح على أبي بكر.
وقعة الثنىّ
ولما وصل كتاب هرمز إلى أزدشير بخبر خالد أمده بجيش عظيم يقوده قارن بن قريانس ، فلقيه المنهزمون في الطريق ، فاجتمعوا ورجعوا معه ، ونزلوا بالثنى ، فسار إليه خالد ، ولما التقى الجيشان خرج قارن يريد البراز ليدرك ثأر هرمز ، فبرز إليه فارس من المسلمين فقتله ، وحمل المسلمون عليهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة تبلغ ثلاثين ألفاً سوى من غرق ، ومنعت المياه المسلمين من طلبهم ، ثم أخذ خالد الجزية من الفلاحين وصيرهم ذمة ، وبعث بالفتح والأخماس إلى أبي بكر.
وقعة الولجة
لما بلغ أزدشير ملك الفرس انهزام جيشه سير إلى المسلمين جيشاً آخر يقوده رجل يقال له الأندر زعز وفي أثره جيش آخر يقوده بهمن جاوذيه فعسكر الجيشان بمكان يقال له الولجة ، فسار إليهم خالد ، ووضع لهم كميناً ، ثم لقيهم فقاتلهم قتالاً شديداً حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ واستبطأ خالد كمينه ، ثم خرج الكمين ، وانهزمت الأعاجم ،وأخذ خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم ، وقتل منهم خلق كثير ، وفر الأندرزعز منهزماً ، فمات عطشاً ، وأصاب خالد أبناء من بكر بن وائل فقتلهم فغضب لهم قومهم من نصارى بكر وكاتبوا أزدشير ليساعدهم على قتال المسلمين ، فكتب إلى بهمن جاذويه المنهزم أن ينضم بمن معه إليهم ، فلما جاءته الرسالة قدم أمامه قائداً اسمه جابان وذهب هو إلى أزدشير ليستشيره فوجده مريضاً فبقي عنده.
وقعة اللبس
وأما جابان فاجتمع عليه نصارى بكر بالليس فسار إليهم خالد وكانوا على طعامهم فعاجلهم وهزمهم شر هزيمة.
فتح الحيرة
ثم سار خالد قاصداً الحيرة فخرج غليه مرز بأنها واسمه الزادية وعسكر بظاهرها ، وأرسل ابنه فقطع الماء عن سفن المسلمين ، فبقيت على الأرض ، فسار خالد على الخيل نحو ابن الأزادية فحاصر خالد قصورها ودعا أمراءها إلى الإسلام وأجلهم يوماً وليلة فأبوا فقاتلهم المسلمون وافتتحوا الديور ، وأكثروا القتل فنادى القسيسون والرهبان بأهل القصور ما يقتلنا غيركم ، فصاح أهل القصور قد قبلنا الجزية فصالحهم خالد عليها ، وقدرت بمائة ألف وتسعين ألفاً، واهدوا له هدايا فبعث بالفتح والهدايا إلى أبي بكر فلم يقبلها على أنها هدايا بل عدها لهم من الجزية.
فلله ما اسمي هذه النفوس وما أحرصها على العدل تساق لأبي بكر رضي الله عنه التحف العظيمة، والأموال الجسيمة، يهديها إليه هؤلاء الأعاجم عن طيب نفس واختيار من غير مشوق يشوقهم لها، ولا دافع يدفعهم إليها فلا يقبلها رضي الله عنه ، بل يعدها لهم من الجزية المرتبة عليهم، لئلا يتوهمون أنهم بمثل هذه الهدايا يكونون موضع نظره وأولى برأفته وعدله، فكان بذلك مبيناً لهم أن المسلمين لا تؤثر في نفوسهم أمثال هذه الهدايا ولا يعبأون بها، وأن من دخل تحت حكمهم لابد وأن تشمله العدالة الحقة، والحرية التامة، يحمونه في ماله وعرضه مادام طائعاً لهم، قائماً بشروطهم.
هكذا كان المسلمون أيام كانوا متمسكين بدينهم، عاملين بكتابهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم يتركون كون ما فيه شبهه، ويأخذون ما وضح حله وبذلك خضعت لهم الملوك العظيمة ودانت لهم الأمم التي لم يكن يخطر في خلدانهم أنهم يستولون عليها، فاللهم وفقنا للعمل بأوامر الدين والاقتداء بهؤلاء الأخيار الصادقين.