الجنس : العمر : 38 طيبة الطيبة التسجيل : 16/01/2012عدد المساهمات : 15
موضوع: ۞۩۞ تحذير السلف من تتبع الرخص ۞۩۞ السبت 17 مارس 2012, 7:08 pm
◙◙◙◙◙◙◙◙◙
۞۩۞ تحذير السلف من تتبع الرخص ۞۩۞
◙◙◙◙◙◙◙◙◙
◙ المراد بتتبع الرخص ◙
1 - الإطلاق اللغوي : تطلق الرُّخْصَة (بإسكان الخاء وضمها) في اللغة، ويراد بها: التخفيف والتسهيل والتيسير، وأصل الكلمة كما يقول ابن فارس "يدلّ على لينٍ وخلاف شدة" .
2- الإطلاق الاصطلاحي : يظهر من خلال تتبّع استعمالات أهل العلم لكلمة (الرخصة) أن لها في عُرفهم معنيين: الأول: الرخصة الشرعية ؛ وهي (ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح) ، وهي التي تطلق في مقابل (العزيمة). وهذا الاستعمال غير مراد في هذا البحث ؛ لأنه لا إشكال في الأخذ بها، بل دلّت النصوص الشرعية على مشروعية الأخذ بها، كما في قوله: "عليكم برخصة الله الذي رخص لكم" .
الثاني: الرخصة الفقهية، وهو المراد هنا، وقد جاء هذا المعنى وفق الاستعمال اللغوي ؛ فهو بمعنى التسهيل والتخفيف، وتتبع الرخص هو طلب التخفيف في الأحكام الشرعية.
وقد ذكر جمع من أهل العلم تعريفات لتتبع الرخص، أذكر منها ما وقفت عليه: 1- عرفه الزركشي بأنه: "اختيار المرء من كل مذهب ما هو الأهون عليه" . 2- وعرّفه الجلال المحلي بقوله: "إن يأخذ من كل مذهب ما هو الأهون فيما يقع من المسائل" . 3- وحكى الدسوقي وغيره من المالكية تعريفين: الأول: "رفع مشقة التكليف باتباع كل سهل". الثاني:"ما يُنقض به حكمُ الحاكم من مخالفِ النص وجلي القياس" . 4- وعرّفه المجمع الفقهي بأنه: "ما جاء من الاجتهادات المذهبية مبيحاً لأمرٍ في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره" . 5- وعرّفه بعض الباحثين بأنه: "تطلّب السهولة واليسر في الأحكام، فمتى ما رأى المتتبع للرخص الحكم سهلاً في مذهب سلكه وقلّده فيه، وإن كان مخالفاً لمذهبه هو الذي يلتزم تقليده" .
المطلب الثاني: الفرق بين تتبع الرخص والتلفيق.
يمكن إيضاح الفروق بين الأمرين في الآتي :
1- أن تتبع الرخص يكون بأخذ القول الأخف والأسهل، وأما التلفيق فحقيقته الجمع بين قولين، وبناء على ذلك ؛ فإنه قد يكون بأخذ القول الأخف والأسهل، وقد يكون بأخذ القول الأثقل.
2- أن تتبع الرخص يكون في الحكم، ويكون في أجزائه، وأما التلفيق فإنه لا يكون إلا في أجزاء الحكم الواحد لا في جزئيات المسائل.
3- تتبع الرخص ليس فيه إحداث قول جديد في المسألة، وإنما يتّبع الإنسان رخصة قال بها بعض العلماء، وأما التلفيق فإن القول الناتج عنه لم يقل به أحد من العلماء، وإنما هو جمعٌ أو تصرّفٌ في أقوال العلماء.
والأدلة على ذلك من القرآن الكريم
1- يقول الله تعالى : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج:78] .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا " [ رواه البخاري 69 ، ومسلم 1734] .
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لم أبعث باليهودية و لا بالنصرانية ، و لكني بعثت بالحنيفية السمحة ، والذي نفسي بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا و ما فيها ، و لمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة " [ أخرجه أحمد ( 5 / 266 ) وصححه الألباني في الصحيحة 2924 ] .
عن بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته " [رواه أحمد في المسند 5866 وقال شعيب الأرنؤوط : صحيح ] .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً، ينتزعه من العباد. ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضّلوا وأضلوا " [ متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان، 1712] .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه و من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه ".[ حسن. صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني: 6068].
◙◙◙◙◙◙◙◙◙
◙ حكم تتبع الرخص ◙
• تحرير محل النـزاع :
1- اتفق الفقهاء على أن الانتقال إذا كان للتلهي فهو حرام قطعاً ؛ لأن التلهي حرام بالنصوص القاطعة، وذلك كأن يعمل الحنفي بالشطرنج على رأي الشافعي قصداً للهوى .
2- نصّ الإمام أحمد وغيره أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجباً أو حراماً ثم يعتقده غير واجب أو غير حرام بمجرّد هواه، مثل أن يكون طالباً لشفعة الجوار فيعتقدها أنها حق له، ثم إذا طُلب
منه شفعة الجوار اعتقد أنها ليست ثابتة اتباعاً لقول عالم آخر، فهذا ممنوع من غير خلاف .
3- كما ينبغي أن يخرج من محل النـزاع أن المجتهد إذا أوصله اجتهاده إلى رأي في مسألة أنه لا يترك ما توصل إليه، بل عليه المصير إلى ما أدّاه إليه اجتهاده .
4- ما عدا ما سبق ؛ فقد اختلفوا فيه على أقوال، أشهرها ثلاثة :
القول الأول: منع تتبع الرخص مطلقاً، وإليه ذهب ابن حزم، والغزالي، والنووي، والسبكي، وابن القيم، والشاطبي ، ونقل ابن حزم وابن عبد البر الإجماع على ذلك.
واختلف أصحاب هذا القول في تفسيق متتبع الرخص على رأيين: الأول: أنه يفسق، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن القيم وغيره ، وهو رأي أبي إسحاق المروزي من الشافعية ، وخصّ القاضي أبو يعلى التفسيق بالمجتهد الذي أخذ بها خلافاً لما توصّل إليه اجتهاده، وبالعامي الذي أخذ بها دون تقليد .
الثاني: أنه لا يفسق، وهو رواية أخرى عن أحمد ، وقال بها ابن أبي هريرة من الشافعية .
واستدل أصحاب القول الأول بالآتي :
1- أن الله _تعالى_ أمر بالردّ إليه وإلى رسوله ، واختيار المقلّد بالهوى والتشهّي مضاد للرجوع إلى الله ورسوله .
2- أن تتبع الرخص مؤدٍ إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها ؛ لأن له أن يفعل ما يشاء ويختار ما يشاء، وهو عين إسقاط التكليف، فيُمنع سداً للذريعة .
3- أن القول بتتبع الرخص يترتب عليه مفاسد عظيمة، منها:
أ - الاستهانة بالدين، فلا يكون مانعاً للنفوس من هواها، ومن مقاصد الشرع إخراج الإنسان عن داعية هواه، والقول بإباحة تتبع الرخص فيه حث لإبقاء الإنسان فيما يحقق هواه.
ب- الانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، ثم إنه لا يوجد محرّم إلا وهناك من قال بإباحته إلا ما ندر من المسائل المجمع عليها، وهي نادرة جداً.
ج- انخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف، فتضيع الحقوق، وتعطّل الحدود، ويجترئ أهل الفساد.
د- إفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم .
ويعضد أصحاب هذا القول مذهبهم بالآثار المروية عن السلف في ذم تتبع الرخص، ومن ذلك: - قول الأوزاعي: "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام" . - وقوله أيضاً: "يُترك من قول أهل مكة المتعة والصرف، ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن، ومن قول أهل الشام الجبر والطاعة، ومن قول أهل الكوفة النبيذ والسحور" . - وعن إسماعيل بن إسحاق القاضي قال:" دخلت على المعتضد فدفع إلي كتاباً نظرت فيه وكان قد جمع له الرخص من زلل العلماء وما احتجّ به كلٌ منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين مصنف هذا الكتاب زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد فأحرق ذلك الكتاب" . - وعن سليمان التيمي قال: "لو أخذتَ برخصة كل عالِم اجتمع فيك الشرّ كله" .
القول الثاني:
جواز تتبع الرخص ، وقال به من الحنفية السرخسي وابن الهمام وابن عبد الشكور وأمير باد شاه .
واستدلوا بالآتي:
1- الأدلة الدالة على يسر الشريعة وسماحتها ؛ كقوله _تعالى_: "يريد الله بكم الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسر" ، وقوله: " مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ " ، قول عائشة _رضي الله عنها_: "ما خُيِّر النبي بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً " وغير ذلك من النصوص الواردة في التوسعة، والشريعة لم تَرِد لمقصد إلزام العباد المشاق، بل بتحصيل المصالح الخاصة، أو الراجحة وإن شقّت عليهم .
ونوقش/ بأن السماح واليسر في الشريعة مقيّد بما هو جارٍ على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها، بل هو مما نُهي عنه في الشريعة ؛ لأنه ميلٌ مع أهواء النفوس، والشرع قد نهى عن اتباع الهوى .
2- أنه لا يمنع منه مانع شرعي، فللإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان إليه سبيل . ونوقش بعدم التسليم ؛ لأن تتبع الرخص عملٌ بالهوى والتشهّي، وقد نهي عنه.
3- أنه يلزم من عدم الجواز استفتاء مفتٍ بعينه، وهذا باطل . ونوقش بأن اللازم باطل، بل هو مأمور بتقليد من يثق بدينه وورعه دون الاختيار المبني على الهوى.
4- أن الخلاف رحمة، فمن أخذ بأحد الأقوال فهو في رحمة وسعة(36).
ونوقش بأن الخلاف ليس في ذاته رحمة بل هو شر وفرقة، ولكن مراد من أطلق الخلاف رحمة: أن فتح باب الخلاف والنظر والاجتهاد رحمة بالأمة بحيث يكون التكليف مربوطاً بما يراه المجتهد بعد النظر في الأدلة.
القول الثالث: جواز الأخذ بالرخص بشروط، واختلف المشترطون:
1- فقيّد العز بن عبد السلام الجواز بألا يترتب عليه ما يُنقَض به حكم الحاكم ؛ وهو ما خالف النص الذي لا يحتمل التأويل، أو الإجماع، أو القواعد الكلية، أو القياس الجلي . 2- وتبعه القرافي وزاد: شرط ألاّ يجمع بين المذاهب على وجهٍ يخرق به الإجماع . 3- وزاد العطار على شرط القرافي شرطين،هما : أ- أن يكون التتبع في المسائل المدونة للمجتهدين الذين استقرّ الإجماع عليهم، دون من انقرضت مذاهبهم. ب- ألا يترك العزائم رأساً بحيث يخرج عن ربقة التكليف الذي هو إلزام ما فيه كلفة. 4- وقيد ابن تيمية الجواز بأن يكون على سبيل اتباع الأرجح بدليله، وفي ذلك يقول: " من التزم مذهباً معيناً ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله، فإنه يكون متبعاً لهواه، وعاملاً بغير اجتهاد ولا تقليد، فاعلاً للمحرم بغير عذر شرعي، فهذا منكر. وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول، إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها، وإما بأن يرى أحد رجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا، فهذا يجوز بل يجب وقد نص الإمام أحمد على ذلك". 5- أما مجمع الفقه الإسلامي، فقد نصّ على أن الرخص في القضايا العامة تُعامل معاملة المسائل الفقهية الأصلية إذا كانت محقّقة لمصلحة معتبرة شرعاً، وصادرة عن اجتهاد جماعي ممن تتوافر فيهم أهلية الاختيار، ويتصفون بالتقوى والأمانة العلمية.
ونصّوا على أنه لا يجوز الأخذ برخص الفقهاء لمجرد الهوى ؛ لأن ذلك يؤدي إلى التحلّل من التكليف، وإنما يجوز الأخذ بالرخص وفق الضوابط الآتية : • أن تكون أقوال الفقهاء التي يُترخّص بها معتبرة شرعاً، ولم توصف بأنها من شواذ الأقوال. • أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة دفعاً للمشقة، سواء أكانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية. • أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك.
ألا يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع. • ألا يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع. • أن تطمئن نفس المترخّص للأخذ بالرخصة. وهذا الأخير هو ما يظهر رجحانه – والله أعلم- فلا ينبغي إطلاق القول بالمنع ولا بالجواز، بل الظاهر أن القائلين بالمنع يبيحون الترخص بالضوابط المذكورة ولو لم يصرّحوا بذلك، وكذا المجيزون لا يجيزون إلا بمراعاة الضوابط المذكورة، فتكون المسألة – مع مراعاة تحرير محل النـزاع- قريبة لأن تكون محل اتفاق، وأن حقيقة الخلاف إنما هي فيما بُنيت عليه مسألة تتبع الرخص، وهي مسالة التزام العامي مذهباً معيناً.
◙◙◙◙◙◙◙◙◙
◙ بعض الآثار والأقوال الواردة عن السلف في ذم (تتبع الرخص) ◙
1- قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: " إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون " [ الآداب الشرعية، 2/155 ] .
2- قال محمد بن المنكدر: " العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم " [الآداب الشرعية، 2/ 159] .
3- قال سفيان: " أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا، حتى لا يجدوا بدا من أن يفتوا. وقال: أعلم الناس بالفتيا أسكتهم عنها، واجهلهم بها أنطقهم فيها " [ الآداب الشرعية، 2/160 ] .
4- عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: " أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول. وفي رواية: ما منهم من يحدّث بحديث إلاَّ ودّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتى عن شيء إلاَّ ودّ أن أخاه كفاه الفتيا ".[ المجموع شرح، المهذب، 1/72-73؛ الآداب الشرعية، 2/158] .
5- عن محمد بن سيرين، قال: " إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم " [صحيح مسلم بشرح النووي، 1/119] .
6- قال الإمام أحمد رضي الله عنه قال: " لو أن رجلاً عمل بكل رخصة: يعمل بمذهب أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع ( يعني الغناء )، وأهل مكة في المتعة، لكان فاسقاً "[ لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية، للعلامة محمد السفاريني، 2/466] .
7- قال سليمان التيمي: " لو أخذت برخصة كل عالم، أو قال: زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله " [ لوامع الأنوار البهية، 2/466] .
8- وقال الأوزاعي : " من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام " تاريخ الإسلام للذهبي 9/ص491
9- وقال الأوزاعي: " من أخذ بنوادر العلماء فبفيه الحجر " شعب الإيمان رقم ( 1923 ) 2 / 315
10- وقال الشاطبي : " فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه فقد خلع ربقة التقوى وتمادى في متابعة الهوى ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه " . الموافقات للشاطبي 2 / 386 – 387 .
سئل محمد بن القاسم عن شيء، فقال: إني لا أحسنه. فقال له السائل: إني جئتك لا أعرف غيرك. فقال له القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه! فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها! فوالله ما رأيناك في مجلس أنبل منك اليوم!! فقال القاسم: والله لأن يُقطع لساني أحب إليّ من أن أتكلم بما لا علم لي به. [ إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/201] .
رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: اُستفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. ثم قال: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السُراق. قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام من علم عنده على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب، ولا يبدي جوابا بإحسان.[ إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/190 ] .
قال ابن سريج: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: :" دخلت على المعتضد، فدفع إليّ كتاباً نظرت فيه وكان قد جمع فيه الرخص من زَلَلِ العلماء، وما احتج به كل منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين ! مؤلف هذا الكتاب زنديق، فقال : لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت: الأحاديث على ما رويت ، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر المعتضد فأحرق ذلك الكتاب " [ السنن الكبرى للبيهقي، 10 : 356-357،ح: 20921 ] .
قال أبو عمر بن عبد البر: :ا " لاختلاف ليس بحجة عند أحد علمتُهُ من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجة في قوله " [ جامع بيان العلم وفضله (ص359) ] .
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله " إذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه فقد خلع ربقة التقوى وتمادى في متابعة الهوى ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه " .[ الموفقات للشاطبي3/123] .
قال ابن القيم رحمه الله : " وقولهم : إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح ؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل . أما الأول :فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً ؛ وإنما دخل هذااللَّبْس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم ؛ والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه . والمسائلُ التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنَّا صحة أحد القولين فيها كثيرةٌ " [ إعلام الموقعين ، ج 3/ 288 ].
قال ابن القيم أيضاً: " من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى، فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا. قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم! وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟!!" [ إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/199-200 ] .
قال العلامة ابن جماعة : " وإذا سئل - أي العالم - عن ما لم يعلمه قال: لا أعلمه، أو لا أدري، فمن العلم أن يقول: لا أعلم. وعن بعضهم: لا أدري نصف العلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أغفل العالم " لا أدري " أصيبت مقاتله. وقيل: ينبغي للعالم أن يورث أصحابه لا أدري لكثرة ما يقولها. قال محمد بن عبد الحكم: سألت الشافعي رضي الله عنه عن المتعة أكان فيها طلاق أو ميراث أو نفقة تجب أو شهادة؟ فقال: والله ما ندري" [ تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، ص: 49] .
قال الشافعي: " ما رأيت أحدا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة، أسكت منه عن الفتيا. وقال أبو حنيفة: لولا الفَرَق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت، يكون لهم المهنأ وعليّ الوزر".[ المجموع شرح المهذب، 1/73. والفَرَق: الخوف] .
قال ابن القيم: " لا يجوز للمفتي تتبع الرخص لمن أراد نفعه ... فإن حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك، بل استُحبّ، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث: بأن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به المرأة ضربة واحدة ... فأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم " [ إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/205] .
قال النووي: " يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه. فمن التساهل ألا يتثبت، ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر. فإن تقدمت معرفته بالمسئول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة. ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلبا للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره. وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها، لتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسن جميل. وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا، كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد " [ المجموع شرح المهذب، 1/79-80] .
قال الشاطبي: " المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يَحمِل الناس على الوسط المعهود فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال. والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ... بلا إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين ... وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم ( على عثمان بن مظعون رضي اللّه عنه ) التبتل. [ متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان، 886. من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ] وقال لمعاذ رضي اللّه عنه لما أطال بالناس الصلاة: أفتّان أنت يا معاذ ؟ [ متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان، 266. من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.]... ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا ... ولأنه إذا ذهب بالمستفتي مذهب العنت والحرج بُغّض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة ... وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة " [الموافقات في أصول الشريعة، 4/607-608] .
قال ابن القيم: " لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله ... ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو فليتركها " [ متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان، 1114. من حديث أم سلمة رضي الله عنها.]، [ إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/236-237] .
قال الإمام أحمد: " لا ينبغى للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أولها أن تكون له نية فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور، والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، الثالثة: أن يكون قويا على ماهو فيه وعلى معرفته ، الرابعة: الكفايه وإلا مضغه الناس ، الخامسة: معرفة الناس" [ إعلام الموقعين لابن القيم 4 /199] .
قال النووي أيضًا: " وينبغي أن يكونَ المفتي ظاهرَ الوَرَع، مشهورًا بالدِّيانة الظاهرة، والصِّيانة الباهرة. وكان مالكٌ رحمه الله يعمل بما لا يُلْزِمُهُ الناسَ، ويقول: لا يكونُ عالمًا حتى يعملَ في خاصَّةِ نفسِهِ بما لا يُلزمه الناسَ ؛ مما لو تَرَكَهُ لم يأثمْ، وكان يحكي نحوَهُ عن شيخِه ربيعةَ " [ آداب الفتوى (ص17)] .
قال عبد الله بكر ابو زيد:" والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه ... سواء تردّد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقييده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرُّخص المخالفة للسُّنة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها. فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي، يسأل ثانياً وثالثاً حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة " [ عبد الله بكر أبو زيد، التعالم وأثره على الفكر والكتاب، 50]
◙◙◙◙◙◙◙◙◙
◙ ثمرة الخلاف ◙
ذكر الزركشي أن من فروع المسألة: هل يجوز للشافعي مثلاً أن يشهد على الخط عند المالكي الذي يرى العمل به أم لا ؟ صرّح ابن الصبّاغ بأنه لا يجوز، وهو ظاهر كلام الشافعية، فإنهم قالوا: ليس له أن يشهد على خط نفسه، والظاهر الجواز إذا وثق به وقلد المخالف، ويدل عليه: تصحيح النووي قبولَ شهادة الشاهد على ما لا يعتقده ؛ كالشافعي يشهد بشفعة الجوار. وذكر من الفروع: أن الحنفي إذا حكم للشافعي بشفعة الجوار، هل يجوز له أم لا ؟ فيه وجهان أصحهما: الحِلّ وهذه المسألة تشكل على قاعدتهم في كتاب الصلاة أن الاعتبار بعقيدة الإمام لا المأموم .
◙◙◙◙◙◙◙◙◙
◙ سبب الخلاف ◙
لعل الخلاف في المسألة عائد إلى أمرين: الأول: التلفيق ؛ فعلى القول بمنع التلفيق يُمنع من تتبع الرخص، وعلى القول بجواز التلفيق يتخرّج الخلاف في تتبع الرخص.
الثاني: - وهو الأقرب- هل يجب على العامي التزام مذهب معيّن ؟ فمن قال بوجوب ذلك: منع تتبّع الرخص، ومن قال بعدم وجوب التزام مذهب معين، وأنه يجوز مخالفة إمامه في بعض المسائل: أجرى الخلاف في تتبّع الرخص . وكذا تتبّع المجتهد للرخص، يمكن أن تُبنى على مسألة تقليد العالِم للعالِم ؛ فمن منع: منع تتبع الرخص، ومن أجاز: أجرى الخلاف فيه، والله أعلم،،
هذا ما تيسر جمعه وتحريره، وأسأل الله أن يجعله خالصاً صواباً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.