أما بعد: فالكلام عن محاسبة النفس يكون على النحو الآتي:
أولا: تعريف محاسبة النفس.
ثانياً: مشروعية محاسبة النفس.
ثالثاً: حكم محاسبة النفس.
رابعاً: من أقوال أهل العلم في محاسبة النفس.
خامساً: أهمية محاسبة النفس.
سادساً: أنواع محاسبة النفس.
سابعاً: كيف تكون محاسبة النفس.
أولا: تعريف محاسبة النفس:
1- تعريف المحاسبة في اللغة:
والحساب والمحاسبة: عَدك الشيءَ، وحَسَبَ الشيءَ يَحْسُبه بالضم حَسْباً وحساباً وحسابةً عَده، وحَسبْت الشيءَ أَحْسَبه حساباً، وحَسَبْت الشيءَ: أَحْسبه حسْباناً وحسْباناً، وقوله تعالى: ﴿وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [البقرة:202] أَي: حسابه واقعٌ لا مَحالَة، وكل واقعٍ فهو سَريعٌ وسرْعة حساب الله: أَنه لا يَشْغَله حساب واحد عَن محاسَبة الآخَر؛ لأَنه سبحانه لا يَشْغَله سَمْع عن سمع ولا شَأْنٌ عن شأْنٍ، وقوله جل وعز: ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ﴾ [الإسراء:14]أَي: كفَى بك لنَفْسكَ محاسباً، والحسْبان الحساب(1).
2- تعريف النفس لغة:
النَّفْس: الرُّوحُ، النَّفْس في كلام العرب يجري على ضربين: أَحدهما: قولك خَرَجَتْ نَفْس فلان أَي: رُوحُه، وفي نفس فلان أَن يفعل كذا وكذا أَي في رُوعِه.
والضَّرْب الآخر: مَعْنى النَّفْس فيه مَعْنى جُمْلَةِ الشيء وحقيقته تقول: قتَل فلانٌ نَفْسَه وأَهلك نفسه أَي أَوْقَتَ الإِهْلاك بذاته كلِّها، وحقيقتِه والجمع من كل ذلك أَنْفُس ونُفُوس، قال ابن خالويه: النَّفْس: الرُّوحُ، والنَّفْس: ما يكون به التمييز، والنَّفْس: الدم، والنَّفْس: الأَخ، والنَّفْس: بمعنى: عِنْد، أَما النَّفْس: الرُّوحُ، والنَّفْسُ: ما يكون به التمييز، فَشاهِدُهُما قوله سبحانه: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ﴾ [الزمر:42] فالنَّفْس الأُولى: هي التي تزول بزوال الحياة، والنَّفْس الثانية: التي تزول بزوال العقل، وأَما النَّفْس: الدم فشاهده قول السموأَل:
تَسِيلُ على حَدِّ الظُّبَّاتِ نُفُوسُنَا ولَيْسَتْ عَلى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ.
وإِنما سمي الدم نَفْساً؛ لأَن النَّفْس تخرج بخروجه، وأَما النَّفْس بمعنى الأَخ فشاهده قوله سبحانه: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ ﴾ [النور:61] وأَما التي بمعنى عِنْد: فشاهده قوله تعالى حكاية عن عيسى -على نبينا محمد وعليه الصلاة والسلام-: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ [المائدة:116] أَي: تعلم ما عندي، ولا أَعلم ما عندك، والأَجود في ذلك قول ابن الأَنباري: إِن النَّفْس هنا الغَيْبُ أَي تعلم غيبي؛ لأَن النَّفْس لما كانت غائبة أُوقِعَتْ على الغَيْبِ، ويشهد بصحة قوله في آخر الآية قوله: ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة:116]كأَنه قال تعلم: غَّيْبي يا عَلاَّم الغُيُوبِ.
والعرب قد تجعل النَّفْس التي يكون بها التمييز نَفْسَيْن، وذلك أَن النَّفْس قد تأْمره بالشيء وتنهى عنه، وذلك عند الإِقدام على أَمر مكروه فجعلوا التي تأْمره نَفْساً، وجعلوا التي تنهاه كأَنها نفس أُخرى.
والنَّفْسُ يعبَّر بها عن الإِنسان جميعه كقولهم: عندي ثلاثة أَنْفُسٍ وكقوله تعالى: ﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ ﴾ [الزمر:56] ، والنَّفْس الجَسَد(2).
3- تعريف المحاسبة اصطلاحاً:
قال المناوي- رحمه الله-: «المحاسبة مفاعلة من الحساب وهو استيفاء الأعداد فيما للمرء وعليه»(3).
4- تعريف محاسبة النفس اصطلاحاً:
قال ابن الحاج: فالمحاسبة: «حبس الأنفاس، وضبط الحواس، ورعاية الأوقات، وإيثار المهمات»(4).
قال الشنقيطي: «ويكون النظر بمعنى المحاسبة والتأمل .... فإذا ما نظر في الماضي, وحاسب نفسه وعلم ما كان من تقصير أو وقوع في محظور جاءه الأمر الثاني بتقوى الله لما يستقبل من عمل جديد ومراقبة الله تعالى عليه ﴿وَالله بِمَا تَعْمَلونَ خَبِيرٌ ﴾ فلا يكون هناك تكرار ولا يكون توزيع بل بحسب مدلول عموم ما وصيغة الماضي قدمت والنظر للمحاسبة.
تنبيه: مجيء: ﴿قدمت ﴾ بصيغة الماضي حث على الإسراع في العمل وعدم التأخير؛ لأنه لم يملك إلا ما قدم في الماضي والمستقبل ليس بيده ولا يدري ما يكون فيه»(5).
«قال سعيد بن جبير وعكرمة في النفس اللوامة: أي تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء والضراء، قال قتادة اللوامة: الفاجرة قال مجاهد تندم على ما فات وتقول لو فعلت ولو لم أفعل، قال الفراء: ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا قالت: هلا ازددت وإن عملت شرا قالت: ليتني لم أفعل، قال الحسن: هي النفس المؤمنة قال إن المؤمن والله ما تارة إلا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلتي وإن الفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه ولا يعاتبها، قال مقاتل: هي النفس الكافرة تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا»(6).
2- من السنة النبوية:
عن ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله"(7).
ثالثاً: حكم محاسبة النفس:
قال ابن الجوزي- رحمه الله-: «وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى: ﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنوا اتقوا اللهَ وَلْتَنظرْ نَفْسٌ ما قَدمَتْ لِغَدٍ وَاتقوا اللهَ إِن اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلونَ ﴾[الحشر : 18] يقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصالحات التي تنجيه أم السيئات التي توبقه.
قال قتادة: ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد، والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس وفساده بإهمالها والاسترسال معه»(.
قال الثعالبي في تفسيره: « قال عز الدين بن عبدا لسلام في اختصاره: اجمع العلماء على وجوب محاسبة النفس فيما سلف من الأعمال وفيما يستقبل منها »(9).
رابعاً: من أقوال أهل العلم في محاسبة النفس:
قال إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي: يا نفس أي شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قلت: فأنت في الأمنية فاعملي.
وقال مالك بن دينار: سمعت الحجاج يخطب وهو يقول: رحم الله امرأ حاسب نفسه قبل أن يصير الحساب إلى غيره، رحم الله امرأً أخذ بعنان عمله فنظر ماذا يريد به، رحم الله امرأً نظر في مكياله، رحم الله امرأً نظر في ميزانه فما زال يقول حتى أبكاني.
وحكى صاحب للأحنف ابن قيس قال: كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل الدعاء، وكان يجئ إلى المصباح فيضع أصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه: يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا، ما حملك على ما صنعت يوم كذا(10).
قال أحمد بن حضرويه: أصل التقوى: محاسبة النفس، واصل محاسبة النفس: الخوف والرجاء(11).
وعن علي بن عبد الحميد قال سمعت السري السقطي يقول: من حاسب نفسه استحيا الله من حسابه(12).
فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحسن منقلبه ومآبه ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته(13).
عن يحيى بن المختار عن الحسن قال: إن المؤمن قوامٌ على نفسه يحاسب نفسه لله -عز وجل-، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك هيهات، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول ما أردت إلى هذا مالي ولهذا والله لا أعود لهذا أبداً- إن شاء الله-، إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله -عز وجل- يعلم أنه مأخوذٌ عليه في سمعه وبصره ولسانه وجوراحه»(14).
قال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، حتى يعلم من أين مطعمه و من أين ملبسه ومن أين مشربه، أمن حل ذلك أم من حرام(15).
جاء رجل إلى يونس بن عبيد فقال له: أنت يونس بن عبيد، قال: نعم، قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك، قال: وما حاجتك، قال: أريد أن أسألك عن مسألةٍ، قال: سل عما بدا لك، قال: أخبرني ما غاية الورع؟ قال: محاسبة النفس مع كل طرفة والخروج من كل شبهة، قال فأخبرني ما غاية الزهد؟ قال: ترك الراحة.
قال الحسن بن علي الدقاق: أصل الطاعة الورع، وأصل الورع التقى، وأصل التقى محاسبة النفس، ومحاسبة النفس من الخوف والرجاء، والخوف والرجاء من المعرفة، وأصل المعرفة لسان العلم والتفكر(16).
خامساً: أهمية محاسبة النفس:
1- معرفة عيوب النفس، وإدراك آفاتها، ومن ثم فإن يمقت نفسه، ويسعى لإصلاحها، قال ابن الجوزي- رحمه الله-: « وفي محاسبة النفس عدة مصالح منها : الاطلاع على عيوبها ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله –تعالى-.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا.
وقال مطرف بن عبد الله: لولا ما أعلم من نفسي لقليت الناس.
وقال مصرف في دعائه بعرفة: اللهم لا ترد الناس لأجلي.
وقال بكر بن عبدالله المزني: لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم.
وقال أيوب السختياني: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل.
ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة فقال له حماد: يا أبا عبدا لله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين فقال: يا أبا سلمه أتطمع لمثلي أن ينجو من النار قال: إي والله إني لأرجو لك ذلك.
وقال يونس بن عبيد: إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة.
وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إلي»(17).
وليس يعني هذا أن من يحاسب نفسه ثم يعود عليها باللوم أنه قد فرط في جنب الله، وغرق في معصية الله ، وإنما قد يكون منه ذلك مع ما هو عليه من الخير والصلاح، وكثر التقرب إلى الله والفلاح، وإليك هذا المثل:
قال مسلم بن سعيد الواسطي: أخبرني حماد بن جعفر بن زيد : أن أباه أخبره قال: خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش : صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقن عمله فالتمس غفلة الناس حتى إذا قلت: هدأت العيون وثب فدخل غيضة قريبا منا فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي، وجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت أوعده جروا فلما سجد قلت: الآن يفترسه فجلس ثم سلم ثم قال: أيها السبع طلب الرزق من مكان آخر فولى وإن له لزئيرا أقول: تصدع الجبال منه قال: فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ومثلي يصغر أن يجترئ أن يسألك الجنة قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عالم(18).
2- لا يسلم الإنسان من الوقوع في الخطأ، واقتراف اللمم من المعاصي، فبالمحاسبة يوقف شر تلك النفس الأمارة بالسوء، ويمنعها من أن تسترسل في المعاصي، فتطهر نفسه وتنمو.
قال ابن القيم- رحمه الله-: «محاسبة النفس حتى تعرف ما لها وما عليها ولا يدعها تسترسل في الحقوق استرسالاً فيضيعها ويهملها، وأيضاً فإن زكاتها وطهارتها موقوف على محاسبتها فلا تزكو ولا تطهر ولا تصلح ألبتة إلا بمحاسبتها.
قال الحسن رضي الله عنه: إن المؤمن والله لا تراه إلا قائماً على نفسه : ما أردت بكلمة كذا ما أردت بأكلة ما أردت بمدخل كذا ومخرج كذا ما أردت بهذا مالي ولهذا والله لا أعود إلى هذا ونحو هذا من الكلام فبمحاسبتها يطلع على عيوبها ونقائصها فيمكنه السعي في إصلاحها»(19).
3- بمحاسبة النفس ينجو المسلم من عذاب الله – عز وجل- سواءً في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة.
يقول ابن القيم- رحمه الله-: «الأسباب المنجية من عذاب القبر جوابها أيضا من وجهين
مجمل ومفصل. أما المجمل: فهو تجنب تلك الأسباب التي تقتضي عذاب القبر ومن أنفعها أن يجلس الرجل عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة،فإن مات من ليلته مات على توبة وإن استيقظ استيقظ مستقبلاً للعمل مسروراً بتأخير أجله حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند النوم حتى يغلبه النوم فمن أراد الله به خيرا وفقه لذلك ولا قوة إلا بالله»(20).
4- غالباً ما ينظر العبد إلى حق نفسه، ويغفل عن حق الله –تعالى-، وعند المحاسبة فإنه يعرف نفسه حق الله –تعالى- عليه، ويدلها على ذلك الحق العظيم، فتستيقظ النفس من سباتها العقيم، وحول هذا المعنى يبين ابن الجوزي- رحمه الله- ذلك في كتابه إغاثة اللهفان، قائلاً:
«ومن فوائد محاسبة النفس أنه يعرف بذلك حق الله تعالى ومن لم يعرف حق الله –تعالى- عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه وهي قليلة المنفعة جدا, وقد قال الإمام أحمد حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال: يا رب ارحمه فإني قد رحمته، فأوحى الله تعالى إليه لو دعاني حتى ينقطع قواه ما أستجيب له حتى ينظر في حقي عليه.
فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العباد فإن ذلك يورثه مقت نفسه والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر، فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه عَلِمَ علْم اليقين أنه غير مؤدٍ له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة وأنه إن أحيل على عمله هلك، فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله –تعالى- وبنفوسهم وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته، وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك ينظرون في حقهم على الله ولا ينظرون في حق الله عليهم ومن ههنا انقطعوا عن الله وحجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه»(21).
5- المؤمن يراقب الله في كل أحواله، ومن ثم فهو يراقب نفسه ويقومها ويدلها على الخير، ويروضها على البر والإحسان، ولن تستقيم المراقبة إلا بالمحاسبة.
قال الغرناطي: «واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة وتتأخر عنها المحاسبة والمعاقبة، فأما المشارطة: فهي اشتراط العبد على نفسه بالتزام الطاعة وترك المعاصي، وأما المرابطة: فهي معاهدة العبد لربه على ذلك ثم بعد المشارطة والمرابطة أول الأمر تكون المراقبة إلى آخره، وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه فإن وجد نفسه قد أوفى بما عهد عليه الله حمد الله، وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة ونقص عهد المرابطة عاقب النفس عقابا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة فهكذا يكون حتى يلقى الله تعالى»(22).
6- محاسبة النفس طريق إلى الورع، وقد ذكر ابن أبي الدنيا ذلك فقال: «حدثني عبد الرحيم بن يحيى قال حدثنا عثمان بن عمارة عن شيخ قال: خرجت من البصرة أريد عسقلان فصحبت قوماً حتى وردنا بيت المقدس فلما أردت أن أفارقهم قالوا لي: نوصيك بتقوى الله ولزوم درجة الورع، فإن الورع يبلغ بك إلى الزهد في الدنيا، وإن الزهد في الدنيا يبلغ بك حب الله، قلت لهم: فما الورع؟ فبكوا حتى تقطع قلبي رحمةً لهم، ثم قالوا: يا هذا الورع: محاسبة النفس، قلت: وكيف ذاك؟ قال: تحاسب نفسك مع كل طرفة وكل صباح ومساء، فإذا كان الرجل حذراً كيساً لم يخرج عليه الفضل، فإذا دخل في درجة الورع احتمل المشقة وتجرع الغيظ والمرار أعقبه الله روحاً وصبراً، واعلم أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وملاك هذا الأمر الصبر، وأما الزهد فهو أن يقيم الرجل على راحة تستر إليها نفسه وأما المحب لله فهو مستقل لعمله أبدا وان ضيق واحتبس عليه رزقه فهو في ضيق ذلك لا يزداد لله إلا حبا ومنه إلا دنوا وذكر الحديث بطوله»(23).
سادساً: أنواع محاسبة النفس:
محاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل ونوع بعده:
فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.
قال الحسن -رحمه الله-: رحم الله عبدا وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر.
وشرح هذا بعضهم فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهم به العبد وقف أولا ونظر: هل ذلك العمل مقدور له أو غير مقدور ولا مستطاع؟ فإن لم يكن مقدوراً لم يقدم عليه، وإن كان مقدوراً وقف وقفة أخرى ونظر: هل فعله خيرٌ له من تركه أو تركه خيرٌ له من فعله؟ فإن كان الثاني: تركه ولم يقدم عليه، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله -عز وجل- وثوابه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه لئلا تعتاد النفس الشرك ويخف عليها العمل لغير الله فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله –تعالى- حتى يصير أثقل شيء عليها، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر: هل هو معان عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجاً إلى ذلك أم لا؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبي -صلى الله عليه وسلم -عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده معاناً عليه فليقدم عليه فإنه منصور ولا يفوت النجاح إلا من فوت خصلة من هذه الخصال وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح، فهذه أربعة مقامات يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل العمل، فما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدوراً له، ولا كل ما يكون مقدوراً له يكون فعله خيراً له من تركه، ولا كل ما يكون فعله خيراً له من تركه يفعله لله، ولا كل ما يفعله لله يكون معاناً عليه، فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يقدم عليه وما يحجم عنه.
النوع الثاني : محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع :
أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله -تعالى- فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي, وحق الله –تعالى- في الطاعة ستة أمور تقدمت وهي: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله.
فيحاسب نفسه: هل وفى هذه المقامات حقها وهل أتى بها في هذه الطاعة
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً له من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لم فعله وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به(24).
وهذه المحاسبة تكون عند عمل الطاعة، ولا يعني ذلك عدم محاسبة النفس على التقصير والتفريط، والوقوع في المعاصي والآثام، بل محاسبة النفس على ذلك من أهم الأمور وأوكدها، والله المستعان، وعليه التكلان.
سابعاً: كيف تكون محاسبة النفس:
لا يشترط في المحاسبة كيفيةٌ معلومة ومحددة، بل كلما يؤدي إلى المحاسبة وتعريف النفس بتقصيرها فتلك وسيلتها، وقد أمر الله بالمحاسبة ولم يشرط الوسيلة، فقال: ﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنوا اتقوا اللهَ وَلْتَنظرْ نَفْسٌ ما قَدمَتْ لِغَدٍ وَاتقوا اللهَ إِن اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلونَ ﴾ [الحشر : 18] إلا أن هناك شرطاً معلوما ومعهوداً لأولى الألباب، وهو أن الغاية لا تبرر الوسيلة، فالغاية الشريفة، تكون بالوسيلة الكريمة الشريفة، إلا أن العلماء الأجلاء يرون طرقاً تكون عوناً للعبد على تحقيق المحاسبة، ومن ذلك ما قاله عز الدين السلمي: فأما المحاسبة في الماضي فبأن ينظر في التقوى المتعلقة بالقلب والجوارح والأعضاء فيعتبرها عضواً عضواً وطاعةً طاعةً فإن سلم جميع ذلك بأركانه وشرائطه وأوقاته وأسبابه، فليحمد الله --سبحانه وتعالى- على ذلك فإنه من أكمل نعمة الله تعالى على عباده .
والأولى به أن يحاسب نفسه من ليلٍ إلى ليلٍٍ، فما رآه من تقصير في يومه ذلك فليتداركه بالتوبة والاستغفار، وكذلك كان يصنع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه - وإن وجد في أعمال يومه ظلامه فليردها من وقته على أهلها إن أمكن ذلك، وإلا فليعزم على ردها على حسب إمكانه ، وأما المحاسبة في المستأنف فلينظر إذا خطر له إقدام على فعل أو إحجام عنه فإن كان ذلك الفعل سيئة أحجم عنه، وعن العزم عليه وليغيبه عن خاطره ما استطاع، فإن مالت إليه نفسه واشتدت شهوته فليجاهدها بصرفها عنه وخلاصها منه فإن غلبته وعزمت عليه فليجاهدها في الإقلاع عن عزيمتها والاستغفار منها، فإن غلبته نفسه العاصية الأمارة بالسوء ففعل ذلك فليبادر إلى التوبة وهي الندم على ما فاته من طاعة الله تعالى والعزم على أن لا يعود إلى مثل ذلك في المستقبل والإقلاع عن المعصية إن كان ملابسها في الحال، فإن أخر التوبة أثم بتأخيرها عن كل وقت يتسع لإيقاعها فيه، فإن أبت نفسه عن الإقلاع فليحذرها بما يفوتها من ثواب الله -سبحانه وتعالى- وبما تعرضت له من عقاب الله –تعالى- ويستمر على تخويفها بذلك إلى أن يحصل الخوف الموجب للتوبة والاستغفار من الحوبة(25)
هذا ما تيسر بيانه عن محاسبة النفس، والله الهادي إلى سواء السبيل، وإليه المرجع والمآب، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وإمام المرسلين.