في هذا الحديث فائدة عظيمة قلَّما يَعِيَها الناس ألا وهي أنَّ هذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة في الرزق لمن يُبَكِّر إلى طلبه، وكما هو معلوم أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب ولا يرد. لذلك ينبغي على الإنسان المسلم أن يسعى ليس إلى رزقه فحسب، بل إلى طلب العلم أو أية حاجة كانت له بعد صلاة الفجر كما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين.
شكا طالب علم الى شيخه سرعه انقضاء الوقت دون انجاز عمل فكان تعليق الشيخ : ( لعلك تؤخر صلاه الصبح الى ما بعد شروق الشمس فالوقت يبارك فيه بطاعه الله وتمحق بركته بمعصيه الله )
وليس فيما قاله الشيخ رجما بالغيب ولكنه وجد لهذه الظاهره وهى عدم بركه الوقت تفسيرا أو تعليلا فى سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال للسيده عائشه رضى الله عنها لما رأها نامت حتى شروق الشمس دون أن تصلى الصبح : ( قومى اشهدى رزق ربك ولا تكونى من الغافلين فان الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس )
وهنا بيان لقاعده عامه وهى ربط الطاعه بالانتفاع بالوقت وربط المعصيه بعدم الانتفاع بالوقت وذلك فى اطار حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعه حتى يتقارب الزمان فتكون السنه كالشهر والشهر كالجمعه وتكون الجمعه كاليوم واليوم كالساعه وتكون الساعه كالضرمه من الناس - أى كل سريه الاشتعال - ) وهى من نبوءات الرسول حيث تمحق بركه الوقت بسبب كثره المعاصى والحرص على الوقت من صفات المؤمن لان الوقت هو عمره الذى سوف يسأل عنه يوم القيامه
وعلى مستوَى العالم الإسلامي يَفخَر المسلمون في الأرْض قاطبةً بالصحوة الإسلاميَّة الشاملة في الوقتِ الذي يَصحو فيه كثيرٌ منهم بعدَ الساعة العاشِرة صباحًا، وقدْ أضاعوا وقتَ السَّحَر بالسَّمَر، والبُكور في الخُدور!
في حين أنَّ نبيَّهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان حَريصًا على جلبِ الخير كلِّه لهم، كما كان حريصًا على إبعادِ أيِّ شرٍّ عنهم؛ لذا كان أمرُه ونهيه هو المصلحةَ التامَّة، ومِن المصلحة التي أمرنا بها - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن ننام باكرًا، ونصحو باكرًا، ومِن الشرِّ الذي نهانا عنه السهرُ لوقتٍ متأخِّر من الليل.
وإنَّه مِن دواعي الأسَى والحسْرة على المجتمَع العربي المسلِم أن نراه ساهرًا وسامرًا بالليلِ، حتى إذا ما طلَع الفجر نام حتى منتصف النهار، وهو في أمَسِّ الحاجةِ للعمل والإنتاج والجهد الجهيد؛ مِن أجلِ بناء حضارته التي تنتظرها الدنيا، ولكنَّ الواضحَ أنَّ الدنيا سوف تنتظر طويلاً!
ففي ظلِّ الحياة المعاصِرة التي تسير بنا وَفق منهاجِ الغرب، فقدْنا هُويَّتنا في الاستيقاظ والنوم، فهناك شرائحُ كبيرةٌ من المجتمع ينامون في أعمالهم ومصالحهم، فالموظَّف ينام في عمله، والطالب ينام في مدرستِه، والسائق ينامُ على عجلةِ القيادة، ناهيك عن كثرةِ التثاؤب مِن شريحة أُخرى كبيرة في المجتمع، والتي تُصيب الملتزمين بسُنة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالكآبةِ واليأس.
والعجيب أنْ نرَى دولَ الغرب تنبَّهت لذلك، فأصبحوا وقدْ جعلوا طريقةَ الإسلام في هذه الجزئية منهجًا لهم، وبخاصَّة ألمانيا وفرنسا وإنجلترا؛ حيث يبدؤون الدوامَ في أعمالهم بجدٍّ ونشاط مِن الساعة السادسة صباحًا.
وجولدا مائير حينما سُئِلت : متى سينتصر المسلمون علينا ؟ أجابتْ : إذا رأيتَ المسلمين في صلاةِ الفجر كما هم في صلاةِ الجُمعة، فهذا يوم هزيمتنا وانتصارهم.
لذا وجَب علينا أن نراجعَ أسلوب حياتنا ومعيشتنا أفرادًا وجماعات؛ أي: لا بدَّ مِن قراراتٍ حاسمة للفرْد في تغيير أسلوب حياته، فالمسلمُ الحقُّ هو الذي يُكيِّف حياته ونظامه وَفقَ تعاليم الإسلام؛ بحيث لا يَدَع نشاطًا مِن أنشطة حياته إلاَّ ويجعله سائرًا على منهج الله.
ولا بدَّ للجماعة المتمثِّلة في الدول وحكوماتها أنْ تُوفِّر الثقافةَ اللازمة لهذا المنهاج الربَّاني، فدولةُ الإسلام الحق هي التي تَصبُغ حياةَ رعاياها كلها وَفقَ منهاج القرآن والسُّنة، وتيسِّرُ لهم سلوكَ سبيلِ الإسلام بلا إفراطٍ ولا تفريط.
ومِن رحمة الله - تبارك وتعالى - بالبشَر جميعًا أنْ جعَل الليلَ للنوم والراحة والدَّعة والسكون، وجعَل النهار للعملِ والكدِّ والسعي على الرِّزق؛ فهل مِن شاكر لله تعالى على نعمائة ؟! وهل مِن حريصٍ على تطبيقِ منهاج الله في هذا الكون ؟!
بعدَ هذا كلِّه تجِد كثيرًا مِن الناس لا يَفهمون هذه الحقيقةَ، ويتحدون السُّنن الكونية بالسَّهر ليلاً والنوم نهارًا، بل لا يَهتدون بهَدي نبيِّهم - صلَّى الله عليه وسلَّم.
فقدْ كان مِن هَدْيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن ينامَ بعدَ العشاءِ؛ ليستطيع قيامَ الليل والنهوض مبكرًا لصلاةِ الفجر، فقدْ حدَّث أبو بَرْزةَ الأسلميُّ أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كانَ يَكْرَهُ النَّومَ قَبْلَ العِشاء والحديثَ بَعْدَها))[1].
وكان مِن هديه أيضًا أنَّه إذا أراد إبرامَ أمر أو فعْل شيء ذا بال؛ كسفرٍ أو حرْب أو بعْث السرايا، فإنَّه يفعله مِن أوَّل النهار، ودعَا لأمَّته بالبرَكة في بُكورها؛ فعن صخرِ بن وَداعةَ قال: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللَّهُمَّ بارِكْ لأُمَّتي في بُكورِها))[2].
وقد نفّذ الصَّحابةُ أمرَ حبيب قلوبِهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - والذي كان حبُّه عندهم طاعةً وامتثالاً، فقدْ كان صخرٌ هذا صحابيًّا جليلاً تاجرًا، وكان على الهديِ الذي أمَر به - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكان يَبعث تجارتَه مِن أوَّل النَّهار، فأثْرى وكثُر ماله.
فالبُكور بركةٌ وزيادةٌ ونماء لخيري الدُّنيا والآخِرة، والسَّهر شقاءٌ وتعَب وقِلَّة في الدُّنيا والآخِرة، تلك البركة التي لم نعُدْ نجد لها أثرًا في حياتنا، وتناسينا الأخذَ بأسبابها، والتي كانت سببًا في رِفعةِ سلفنا الصالِح وقيادتهم للعالَم.
فها هو عمرُ - رضي الله عنه - يضرِب الناسَ على السَّمر بعدَ العشاء، ويقول مستنكرًا : أسُمَّرًا أولَ الليل ونوَّمًا آخِره ؟! أريحوا كُتَّابكم ؛ يعني : أريحوا الملائكةَ الذين يُحصون أعمالَكم ويَكتُبونَها في صحائفِكم.
وكان ابنُ عمرَ يقول : مَن قرَض بيتَ شِعرٍ بعدَ العشاء لم تُقبلْ له صلاةٌ حتى يصبح.
ومرَّ عبدُالله بن عمرٍو على رجلٍ بعدَ صلاة الصبح وهو نائمٌ، فحرَّكه برجلِه حتى استيقظ، وقال له: أمَا علمت أنَّ الله يطَّلع هذه الساعة إلى خلقِه فيُدخِل ثُلَّةً منهم الجنة برحمته.
قال ابنُ القيِّم : " ونوم الصبحة يَمْنَع الرِّزق؛ لأنَّ ذلك وقتٌ تطلُب فيه الخليقة أرزاقها، وهو وقتُ قِسمة الأرزاق، فنومه حرمان إلاَّ لعارضٍ أو ضرورة، وهو مُضِرٌّ جدًّا بالبدن لإرخائِه البدنَ، وإفسادِه للفضلات التي يَنبغي تحليلُها بالرياضة، فيُحدِث تكسرًا وعِيًّا وضَعفًا، وإن كان قبلَ التبرُّز والحركة والرياضة وإشغال المَعِدة بشيءٍ، فذلك الداءُ العُضال المولِّد لأنواعٍ مِن الأدواء" .
فالنائِمُ إلى ما بعد صلاةِ الفجر يُصبح خبيثَ النَّفْس كسلان، ومَن استيقظَ ساعتها يُصبح نشيطًا، كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( يَعقِد الشيطانُ على قافيةِ رأس أحدِكم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقدٍ، يضرب كلَّ عقدةٍ: عليك ليل طويل فارقدْ، فإنِ استيقظَ فذكَر الله انحلَّتْ عُقدة، فإنْ توضَّأ انحلَّتْ عُقدة، فإنْ صلَّى انحلَّت عُقدة فأصبح نشيطًا طيِّبَ النفْس، وإلاَّ أصبحَ خبيثَ النَّفْس كسلان " .
كما أنَّ مَن قام في البُكور وصلَّى الفجرَ فهو في ذِمَّة الله، وكفَى بها نِعمة؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( مَن صلَّى الصُّبحَ فهو في ذِمَّةِ اللهِ )) ، فأيُّ فضلٍ وأيُّ خير أعظمُ مِن هذا الفضل.
بل تَعدَّى الأمرُ إلى الآخِرة ؛ أي : أمر الجنة والنار ؛ فقدْ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( لن يلجَ النارَ أحدٌ صلَّى قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غُروبِها )) ؛ يعني : الفجر والعصر، فهل بعدَ ذلك يُريد أحدٌ أن يسهرَ الليلَ وينام النهار، ويدخُل النارَ مع الداخلين؟!
ولا ننسَى في هذا المقام أن نُذكِّر بالفوائد العِلميَّة للاستيقاظ مبكرًا، فالجوُّ في ساعات الفجر الباكِر يكون ممتلئًا بأعلى نسبة مِن غاز الأوزون الذي يتناقَص تدريجيًّا حتى يضمحل عندَ طلوع الشمس، ويكون الكورتيزون في أعلى نِسبة في الدم وهو المادة التي تَزيد مِن فعالية الجسم حيث يُعيدُ الدورةَ الدموية والتنفُّسَ إلى نشاطهما كما كانا قبلَ النوم؛ أي: قبل تباطئهما، فغاز الأوزون الناتِج عن تكاثُف ثلاثِ ذرَّات من الأوكسجين في وقتِ البكور يُعتبر من المطهِّرات؛ إذ يعقِّم الجو وما لامَسَه، ومِن المعلوم أنَّ إحدى الطُّرق المتَّبعة لتعقيمِ المياه في مصافيها هي استعمال غاز الأوزون، وأكثر ما يكون الجوُّ الأرضي غنيًّا بهذا الغاز هو وقتُ البُكور وهو الساعةُ الأولى مِن الصباح، والتي تسبق شروقَ الشمس وهو الأنفاسُ الأولى التي تُطلقها رئتَا الصبحِ الوليد؛ قال تعالى: ﴿ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾[التكوير: 18]، فالله يُقسِم بالصبحِ وأنفاسِه الأولى، وفي آية أخرى: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1 - 2]، وهكذا فالبُكور وقتٌ مبارَك للعملِ والإبداع، وقد أثبَت العلم أنَّ هنالك طاقةً عظيمةً تهبِط مِن السماء إلى الأرض وتَدخُل عبر نُقرة الإنسانِ، وهي المكان المقعَّر كالمِرآة، والتي تستقطب وتركِّز الضوء وتجمعُه، وهي متواجدةٌ عندَ الْتِقاء الرأس مع العُنق في الخلْف.
كما أنَّ كثرةَ السهر وعدَم أخْذ القسط الكافي مِن النوم يؤدِّي إلى ظهورِ أعراض وأمراض أُخرى منها : التَّعَب والصُّداع والغثيان واحمرار العينين وانتفاخِهما والتوتُّر العصبي والقلَق وضَعْف الذاكرة والتركيز، وسُرعة الغضب والألَم في العضلات، وبعض المشكلات الجلديَّة كالبُثور وغيرها.
والأمَّة اليوم لم تُضيِّعِ البركة في وقتِ البكور فحسبُ، بل إنَّ الزمن كقيمةٍ مفقودٌ، فالمواعيد قابلةٌ للتمدد بلا حدود، في حين أنَّ رِسالته - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتعاليمه وسُنته كان مِن شأنها أن تجعلَ مِن المسلمين مالكين أقوياءَ لزِمام العصر بلُغته واختراعاته وأدواته وهو الجزاءُ الأوفى لكدحِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - طوالَ ثلاثة وعشرين عامًا أدَّى فيها الرسالةَ، ونصَح الأمَّة، وكشَف الغُمَّة، ودعا لها ببركةِ البُكور.
فللوقت - إجمالاً - قيمةٌ عظيمة لا تُضاهيها أيةُ قيمةٍ أُخرى في الإسلام؛ حيثُ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( لا تَزولُ قدمَا عبدٍ يومَ القيامة حتى يُسألَ عن عُمرِه فيمَ أفناه، وعن عِلمه فيمَ فعَل، وعن مالِه مِن أين اكتسبَه وفِيمَ أنفقَه، وعن جِسمه فيمَ أبلاه )) ، حيث ربَط بين العمر (الوقت) مِن جهة وبيْن العملِ مِن جهة أخرى كسِمةٍ من سمات الحياة الدنيا، والإنسان في تنافُسٍ خاسر أمامَ الوقت، فهو مهما ابتكَر واخترَع لن يستطيعَ أن يدفَع عقاربَ الساعة إلى الوراءِ ولو ثانية، وكل ما في الحياة قابلٌ للخسارة والرِّبح إلا في الوقت، فإنَّه خاسرٌ لا محالة، وسورة العصر في موجَز آياتها ومختصَر أحكامِها ومفرداتها المنتخبة تُعبِّر عن هذا الصِّراع بيْن الإنسان والوقت في هذه الحياةِ الموجزة؛ ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].
ومِن العجيب أن ترَى بلدًا مِثل اليابان يمتنع شعبُها عن أخذِ يومٍ إجازة إضافي قرَّرته الحكومةُ، ويأبون عليها ذلك، وفي حين أنَّ المتَّهم في بلادِنا يُعاقَب بالأشغال الشاقَّة تجد في اليابان (المنع مِن العمل) عقوبةً قصوى للمتَّهم!
إنَّ الانسجامَ والتوافقَ مع تعاليمِ الإسلام التي تَجعل الليلَ سكنًا وراحة، والنهار عملاً وسياحة، فيه الخيرُ للفرْد والمجتمع على السواءِ؛ لأنَّه النظام الذي رتَّبه الخالق - جل وعلا - ووضعَه بنفسه؛ ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].
ومِن العيبِ على الإنسانِ وقدْ علِم سبيلَ الهُدى مِن الله تعالى أن يُخالفَه أو يَتعلَّل بعِلل ليستْ مِن الفهم أو الفِقه في شيء.