∫ΞৣΞ∫ الابتلاء.. تمحيص وارتقاء ∫ΞৣΞ∫
جرت سُنّة الله في عباده أن يمتحنهم ويبتليهم ليميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من الكافر أو المنافق، والصادق من الكاذب، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2-3].
فالمؤمن الصادق إذا أصابته المحنة صبر واحتسب، لا ينحني ولا ينثني ولا يَحيد، راضياً بقدر الله، مترفعاً على الآلام، مستسلماً لله، تؤدِّبه المحنة والمصائب تهذّبه وتَصهَره وتصقله، فتزيده إيماناً وثباتاً، وعزيمة ومضاءً، كالذهب الذي لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء وبهجة.
أما المنافق أو الكافر، فإذا ما نزلت به نازلة فزع واضطرب، وجزع وغضب، وانقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. ففي حديث لأبي أُمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله ليجرّب أحدَكم بالبلاء، وهو أعلم به، كما يجرّب أحدُكم ذهبَه بالنار... "؛ رواه الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي.
فلابد من تربية نفوس المؤمنين بالابتلاء، بالمخاوف والشدائد، بالجوع والعطش، بنقص الأموال والأنفس والثمرات، لتكون كفارة لذنوبهم، ماحية لخطاياهم وآثامهم، فمن مسّه الضُّرّ في فتنة من الفتن، أو في ابتلاء من الابتلاءات، فصبر ولم يجزع، وتشجع فلم يسخط، كان صبره رحمة له وبشرى من الله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]... وقد ورد في صحيح مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المؤمنَ من نَصَبٍ ولا وَصَب ولا هَمّ ولا حَزَن ولا غمٍّ حتى الشوكةُ يُشاكها، إلا كَفَّر اللهُ بها من خطاياه». ومن رحمة الله بعباده أن يعجّل لهم العقوبة على المعاصي في الدنيا حتى تزكُوَ نفوسهم وتعود إلى الله، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبدٍ الخير عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبدٍ الشرّ أمسك عنه بذنبه حتى يوافَى به يوم القيامة» رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
وقد يبتلي الله المسلم (أو المسلمة) لا عن ذنب اقترفه، ولا عن معصية ارتكبها، ولكن ليرتقي به وليرفع من درجاته ويزيد من حسناته، بل إن الابتلاء له دلالة على محبة الله تعالى لعبده المؤمن، فقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عِظَم الجزاءِ مع عِظَم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السُّخْط». حتى إنّ أهلَ البلاء يُغبَطون يوم القيامة لعظيم ثوابهم، يقول صلى الله عليه وسلم: "يودّ أهلُ العافية يوم القيامة حين يُعطَى أهل البلاء الثواب لو أنّ جلودَهم قُرضت في الدنيا في المقاريض» رواه الترمذي.
تَمُرُّ على الإنسان خلال حياته مواقِفُ كثيرةٌ، يَتَعَرَّض في بعضِها للأذى والضيق، وفي بعضها للرِّفعة والسَّعة، وقد يَتَّخِذ في بعضها القرارات التي يَعْتَقد أنها صائبة، فيفرح بتَحْصيل شيء، ويحزن على ضَياع شيء، وهو لا يعلم الخير والشر على وجه الحقيقة، فقد يجلب لنفسه شرًّا وهو لا يعلم، وقد يُبْعِد عن نفسه خيرًا وهو لا يعلم، وهذا من جرَّاء حُكمِه على المواقف والأحداث بالظاهر، ومن قلَّة علمه بالغيب والباطن، فالله هو المستأثِر بعلم الغيب -ولو علمه أحدٌ من البشر، لاستكْثَر من الخير، وأبعد عن نفسه الشر؛ قال تعالى على لسان نبيه: ﴿ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ﴾ [الأعراف: 188].
وقد علَّم الله - تعالى - المسلمين ألاَّ يحزنوا على ما فاتهم من متاع الدنيا الزائل، وألا يفرحوا بجلب هذا المتاع، وذلك في قوله - تعالى -: ﴿ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ﴾ [الحديد: 23]، وهذا لا يعني أن الإنسان لا يسعى، بل السعي في تحقيق المطالب المباحة للنفس مطلوبٌ، فهو لا يعلم في أي شيء يكون الخير، وفي أي شيء يكون الشرُّ، وبخاصةٍ الابتلاءات والأمور القدَريَّة، التي ليس للإنسان دخل فيها.
وكم مِن أُناسٍ رَزَقَهُم الله المال، فأَوْدَى بهم إلى الكِبْر، وكان سببًا في نِقْمَة الله عليهم؛ لأنهم لم يُرَاعوا حق الله فيه، فالعبرة ها هنا في أن الإنسان قد يحب الشيء، ويكون فيه هلاكه، وقد يَكْرَه الشيء ويكون فيه صحته وعافيته؛ قال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، فالإنسان بطبعه يُحِبُّ الزوجة والأولاد والتمتع بنِعَم الله في الحياة، ويكره الحرْبَ والدمار والموت، ولكنه - أي: الجهاد - يكون خيرًا في بعض الأحيان؛ للحِفاظ على الزوجة والأولاد وبلاد المسلمين من الضياع، وقال - أيضًا مؤكِّدًا لهذا المعنى -: ﴿ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
وهكذا كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَن قبله من الأنبياء أشد الناس بلاءً، غير أنّه اجتمع لنبينا صلى الله عليه وسلم ما حصل لكل الأنبياء؛ ابتُلي في أهله وماله وولده، أُصيب بالجوع والعطش، والنَّصَب والتعب، توالت عليه المصائب فلم تزده إلا إيماناً وتثبيتاً واعتصاماً بالله، صبّت قريش جام غضبها عليه - فداه آباؤنا وأمهاتنا - فما كان منه إلا أن قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"؛ رواه البخاري.
وبذلك تعلّم الصحابة من نبيّهم أنّ عِظَم الجزاء لا يكون إلا تحت مطارق الشدائد؛ فعندما اشتكى خباب ابن الأَرَتّ رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه والمسلمون من التعذيب والظلم والاضطهاد، ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له تسليةً وتثبيتاً: "قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار، فيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدّه ذلك عن دينه»!! رواه البخاري في صحيحه.
وقد تعلَّم سلفنا الصالح أن الشر قد ينطوي على الخير، وأن الخير قد يظهر من ورائه الشر، فلا يَعْلم هذا وذاك إلا الله - تعالى - وقد نزلت آيات عدة في أكثر من موضع في القرآن الكريم تنبِّهُهم إلى ذلك، ففي الأحداث التي أحاطت بغزوة بدرٍ أنَّ الصحابة أرادوا أن يُغِيرُوا على تجارة قريشٍ الآتية من الشام مرورًا بمحاذاة المدينة بصحبة أبي سفيان؛ ليعوضوا شيئًا مما تركوه في مكة لكفار قريش، ولم يُرِيدوا أبدًا الدخول مع قريش في مواجهة، ولكنَّ الله - تعالى - أراد الحرب؛ ليستأصِل شَوْكة قريش، ويُظْهِر الإسلام، ويَزْدَاد رفعة؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 7]؛ أي: تريدون التجارة لا الحرب، ﴿ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [الأنفال: 7 - 8]، وكان الخير فيما أراده الله، وكانت غزوةُ بدرٍ الكبرى الفاصلةُ في تاريخ الإسلام والمسلمين حتى سمَّى الله يومها "يوم الفرقان" الذي فرَّق فيه بين الحق والباطل.
ويمضي المسلمون إلى ميادين البطولة والجهاد، وساحات القتال والاستشهاد، يجودون بدمائهم لنُصرة دينهم ولسان حالهم يقول: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84].
فيا مَن عصفت بكم المصائب والكُرُبات، أُسوَتُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا تسخطوا ولا تجزعوا، بل تفاءلوا وأبشروا... وتقرّبوا إلى الله بقلبٍ صادقٍ خاشع، واعلموا أن مع العسر يُسراً.
وأنت يا أختي المسلمة، إذا حلّت بك الهموم، واشتدت الكروب، وعَظُمت الخطوب، وضاقت عليك الدروب، فاقرعي بابَ الحيّ القيّوم، بابَ مَن لا يَرُدّ سائله ولا يخيِّبه... اذرفي الدموع وقولي: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، يا سامعاً لكلِّ شكوى، ويا عالماً بكلِّ نجوى، يا سابغ النِّعَم، ويا دافع النِّقم، اكشف كُربتي، وارحم عَبرتي، وأَقِل عثرتي، وفرّج همّي وغمّي.
و يا أيها الثابت ونعلى الحق، الصابرون على الحاجة والفَقر، أيها الواقفون في وجه الباطل، يا من تُهدَّدون وتُعذَّبون وتُقصفُون، رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوتُكم، فسيروا في طريقكم، وإنّ الله لن يُضيِّع جهادكم، فهو ناصر المؤمنين، وقاهر الطغاة والظالمين، ومُذلّ المنافقين والمتخاذلين والمثبِّطين، وعندها سيعلم الذين ظلموا أيَّ مُنقَلَبٍ ينقلبون.