يقول الله (جل وعلا) : { يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [البقرة : 269] .
وردت كلمة (حكمة) في مواضع عديدة من الكتاب العزيز ، وذهب المفسرون إلى تفسير معناها في كل موضع بحسب السياق الذي وردت فيه ، فتارة تُفسر بالسنة ، وتارة بالموعظة ، وتارة بالقرآن ...
أما في هذا الموضع الذي نحن بصدده ، فإن للعلماء في تفسيرها أقوالاً كثيرة ، منها : النبوة ، والفقه في القرآن ، والمعرفة بدين الله ، والفقه فيه ، والاتباع له ، والخشية ، والورع ...
قال العلامة اللغوي ابن فارس: الحاء والكاف والميم أصلٌ واحد، وهو المنْع. وأوّل ذلك الحُكْم، وهو المَنْع من الظُّلْم. وسمِّيَتْ حَكَمة الدابّة لأنها تمنعُها، يقال: حَكَمْت الدابةَ وأحْكَمتها. ويقال: حكَمت السَّفيهَ وأحكمتُه، إذا أخذتَ على يديه.ا.هـ.
والحكمة مأخوذة من الحَكَمَة؛ -بفتح الكاف والميم-وهي الحديدة التي توضع على أنف الحيوان لينقاد ويتذلل؛ فتمنعه من العبث والهيجان. قال ابن منظور: الحكمة ما أحاط بحنكي الدابّة؛ سميت بذلك لأنها تمنعه من الجري الشديد.
والحكمة في حقيقتها: وضع الأشياء في مواضعها. وهذا تعريف عام يشمل الأقوال والأفعال وسائر التصرفات.
والحكمة صفة من الصفات الحميدة؛ وخلق من الأخلاق الكريمة؛ والتي أثنى الله عز وجل على المتصفين بها؛ ومدح المتمثلين لها.
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال في (الحكمة) : إنها المعرفة بالدين ، والفقه في التأويل ، والفهم الذي هو سجية ، ونور من الله (تعالى) .
ولعل هذا القول هو أقرب الأقوال السابقة إلى الصواب . والذي يبدو لي : أن الحكمة تتجاوز المعلومات الجزئية إلى المفاهيم الكلية مع نوع من التطابق بين معارف الحكيم والمواقف العملية له ؛ ومن ثم قيل إن الحكمة تعني : وضع الشيء في موضعه ؛ وإن كنا نرى أن ذلك أحد تجليات الحكمة ، وليس جزءاً منها ، لكنهم لمحوا أن المواقف الصحيحة الملائمة هي التي تكشف عن حكمة الحكماء .
ولعلنا نحاول الحوم حول حمى الحكمة ، وحول بعض تجلياتها وتجسيداتها في المفردات التالية :
1- إن تاريخ الإنسان هو مكافحة (العماء) و (اللاتكوّن) في داخل نفسه وفي خارجها ؛ فهو يحاول أبداً صياغة المفهومات والرؤى التي تمكّنه من فهم مركزه في هذا الكون ، ومعرفة المحيط الذي يعيش فيه بغية فهم الموقف الصحيح والخطوة المناسبة .
ومهما بذل الإنسان من جهود في سبيل الوصول إلى ذلك فإن نجاحه يظل نسبيّاً ، كما أن تقدير الناس لذلك النجاح سوف يظل متفاوتاً ؛ حيث إن مبادئ الإنسان ومعارفه تتحكم دائماً في بلورة رؤيته للأشياء ؛ ومن ثم : فإن موقفاً ما قد يكون في نظر واحد منا حكيماً ، على حين ينظر إليه آخرون على أنه طائش وخائب ؛ إلا أن الأيام بما تجلّيه من عواقب ونتائج وبما تركمه من نماذج تساعدنا على نوع من توحيد الرؤية والفهم .
2- إذا كنا نختلف حول تعريف الحكمة فإنه سيظل بالإمكان تحليلها إلى العناصر المكوّنة لها ، وهي على ما يبدو لي ثلاثة : الذكاء ، والمعرفة ، والإرادة ؛ فالذكاء اللماح ، والمعرفة الواسعة ، والإرادة الصُلبة تكوّن معاً : (الحكمة) ، وعلى مقدار كمال هذه العناصر يكون كمالها .
الذكاء بمفرده لا يجعل الإنسان حكيماً ؛ إذ الملموس أن الذكاء دون قاعدة جيدة من العلم والخبرة ينتج فروضاً ومعرفة (شكلية) ، كما أن المعرفة دون ذكاء تجعل استفادة صاحبها منها محدودة ، وتجعل وظيفته مجرد الحفظ والنقل ، دون التمكن من غربلة المعرفة أو الإضافة إليها . والأهم من هذا وذاك : أن المعرفة دون ذكاء تؤخر ولادة الموقف الحكيم ، وتجعل الواحد منا يأتي بعد الحدث بسبب ضعف البداهة .
ولا يكفي الذكاء اللمّاح ، ولا الخبرة الواسعة في جعل الإنسان حكيماً ما لم يمتلك قوة الإرادة ؛ لأن الإرادة القوية وحدها هي التي تجعلنا ننصاع لأمر الخبرة ، وهي التي تنتج سلوكاً يختفي فيه الفارق بين النظرية والتطبيق .
الذكاء موهبة من الله (تبارك وتعالى) ، والمعرفة الواسعة كسب شخصي ، والإرادة القوية هدية المجتمع الناجح لأبنائه البررة ؛ فهو الذي يحدّد العتبة والسقف المطلوبين للعيش فيه بكرامة على مستوى الإرادة ، وعلى مستوى القدرة ، وهو لا يمنح القدرة ، لكنه يمنح أفراده إرادة الفعل والكف من خلال نماذجه الراقية ، ومن خلال المراتبية الاجتماعية التي يصوغها تأسيساً على الاستجابة لأوامره .
3- إن المعرفة مهما كانت واسعة لا تعدو أن تكون إحدى مكوّنات (الحكمة) ، ومن ثم : فإن هناك فارقاً بين العالِم والحكيم ، فقد يكون المرء قمة في تخصص من التخصصات ، لكنه لا يُعدّ حكيماً ، كما أن الحكيم قد لا يكون عالماً متبحراً في أي علم من العلوم .
العلم يفكك المعرفة من أجل استيعابها ، فيقوم بتنظيمها وتوزيعها على مساقات كثيرة ، أما الحكيم : فيقوم بتركيب المعرفة النظرية مع الخبرة العملية من أجل بناء وتشكيل المفهومات العامة في سبيل الوصول إلى رؤية شاملة تندغم فيها معطيات الماضي والحاضر والمستقبل .
العلم يمكننا من صنع الدواء ، وصنع السلاح ، لكن الحكمة تجعلنا نعرف متى نداوي ، ومتى نحارب .
العلماء كثر ، والحكماء نادرون ؛ لأن تحليل المعرفة أسهل من تركيبها ، والعمل الدعوي اليوم ليس فقيراً في الاختصاصيين ، لكنه محتاج حاجة ماسّة إلى الحكماء العظام الذين يمزجون بين العلوم والثقافات المختلفة ، ويخلصون منها إلى محكات نهائية في الإصلاح والنهضة ومداواة العلل المستعصية ...
إن الحكمة أُم الوسائل والأساليب ، لكنها أكبر من أن تحصر في أي منهج من المناهج ، إنها معرفة تتأبى على التنظيم ، فهي دائماً مرفرفة ، على حين أن العلم معرفة منظّمة ، وكل العلوم يبدأ تفتحها على أنها حكمة ، وتنتهي إلى أن تكون فنّاً ، أي : إنها تفقد طاقتها على التجدد بعد أن يتم سجنها في قوالب جاهزة ، وتصبح بحاجة ماسّة إلى أن ترفرف من جديد ، أي : أن تطعّم بالحكمة . ومن ثم : فإن الحكمة تتأبى على الاستنفاذ ، ولذا : فإنها الخير الكثير الفياض المتجدد الذي يهيئه الله (تعالى) لمن شاء من عباده .
4- جفل الوعي الإسلامي قديماً من (الفلسفة) ؛ لأن أكثر فلاسفة المسلمين أخرجوا الفلسفة من إطار الوحي وإطار النصوص والمعطيات الشرعية العامة ، فصارت المفاهيم الفلسفية غريبة عن البنية الثقافية الإسلامية ، بل مصادمة لها .
وفي العصر الحديث : لم تنشأ لدينا مدارس فلسفية ، وإنما اتباع لفلاسفة الغرب ، ومروّجون لفلسفة مادية أجنبية محورها الأساس : هدم عقيدة الألوهية وتدعيم الإلحاد ... فاستمر الجفاء بين الاختصاصيين (العلماء) وبين ذوي النظر الكلي والرؤية العامة .
إن الناظر في الآيات الكريمة التي وردت فيها كلمة (الحكمة) : يجد أنها ما اقترنت بذكر (الكتاب) إلا كانت تالية له ، وكأن في ذلك إشارة إلى أن الحكمة بما هي مفاهيم ونظر كلي لا يصح أبداً أن تتشكل خارج مبادئ الكتاب ومعطياته الكبرى ؛ إنه القيّم والمهيمن عليها ، وليس في ذلك حد من عطاء الحكمة وانطلاقها ، ولكنه إمساك بها كي لا تفقد اتجاهها ومحورها ؛ فالعقل البشري على سعة إمكاناته لا يستطيع أن يعمل بكفاءة إلا من خلال إطار توجيهي يمنحه شيئاً من الثوابت وصلابة اليقين .
وقد آن الأوان لتنشيط حركة علمية لا تغرق في التخصصات لكنها تستفيد منها جميعاً : في تنسيق الواقع في ضوء المثال ، وفي إدراك العلاقات الخطية والجدلية التي تربط بين الأشياء ، وفي معرفة سنن الله (تعالى) في الخلق ...
آن الأوان لترك التقدم العلمي لأهل التخصصات يغوصون على مفردات العلوم ، ويضيفون إلى فروع المعرفة كل يوم جديداً ، والسعي إلى تكوين جيل جديد من الحكماء والمصلحين ذوي النظر الكلي والثقافة المَزْجية ، الذين يستخدمون المعارف المختلفة في بناء النماذج الحضارية الخاصة والمشروعات النهضية الشاملة .
وفي اعتقادي أن الحاجة إلى (الحكماء) سوف تزداد ؛ إذ إن المعرفة البشرية على وشك إكمال دورتها ، وعصر ثورة المعلومات الذي بزغ فجره سوف يكون أقصر العصور الحضارية ، ثم يأتي زمان الأسئلة الكبرى : أسئلة الهوية ، وعلل الوجود ، والمصير ، وطبيعة الكينونة البشرية وحدودها ، وحقوقها .. أي : إن الفلسفة قد تستعيد مجدها القديم ، لكن ضمن معطيات ومساقات جديدة ، وبلغة شديدة التعقيد ، وعلينا منذ الآن أن نحضّر أولئك ، الذين يستطيعون فهم أسئلة العصر القادم ، ويحسنون الجواب عليها .
5- الإرادة الصُلبة مكوّن أساس من مكونات ( الحكمة ) كما ذكرنا وهي (الإكسير) الذي يحيل المعرفة النظرية إلى نماذج متحققة في الواقع المحسوس ، إن الحكمة نور داخلي يشكل مفهومات كثيرة متباينة ، ويدمجها في نظم أشمل ، فتبدو منسجمة متناسقة ، لكن الحكيم لا يبدو كذلك ، فهو طراز فريد ، ونموذج خاص ، يصعب تقنين عطاءاته وتوجهاته ومواقفه ؛ لأن طبيعة الحكمة تتأبى على التحقق الكامل ، ومن ثم : فإنها تلوح في بعض المواقف والسلوكات لتدل على فضل الله (تعالى) على أصحابها وتوفيقه لهم . وتلك المواقف تفوق الحصر والعد ، لكن نذكر بعضها من أجل التقريب :
أ- الحكمة نمو دائم ، فالمزج الفاعل بين الذكاء والخبرة والإرادة يجعل مفهومات الحكيم في نوع من الحركة الدائبة ، مفهوم يكبر ، وآخر يضمر ، ونقط تزداد تفصيلاً ، وأخرى تزداد تركيزاً ، أفكار جديدة لديه تفقد بريقها بسرعة ، وأفكار قديمة تنبعث حية لتخط خطّاً جديداً ...
هذه الوضعية تجعل الحكيم في حالة من التألق الدائم ، وهذا التألق قد يفسّر لدى الكثيرين على أنه تناقض واضطراب ، على حين أنه نوع من الاستجابة الناجحة للمرونة الذهنية العالية ، والروافد الثقافية الثرية ، والإرادة الحرة الصُلبة ، لكن كل ذلك يأخذ سمة التغيّر لا التبدّل .
ب- إيثار الآجل على العاجل ، والدائم على الآني ، وما يمليه ذلك من مواقف والتزامات : أكبر سمة من سمات (الحكيم) ، والشرائع السماوية كلها جاءت توجّه الناس نحو هذه الفضيلة ، لكن إغراءات المنافع والملذات العاجلة صرفت جلّ الناس عن الاستجابة { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ } [القيامة : 20 ، 21] .
وعدم تحقق هذه الفضيلة في حياة كثير من الناس ، سببه : ضعف في الخبرة ، أو ضعف في الإرادة ، أو فيهما معاً ، والحكمة تجعل الحكيم في منأى عنهما .
وموقف الحكيم هنا يثير لدى الناس الدهشة ؛ حيث يجدونه زاهداً معرضاً عما يتقاتلون عليه ، وربما اتهموه بالعجز أو الكسل أو القصور ، وهو في الوقت نفسه يضحك في داخله من جهادهم في غير عدو ومحاولات قبضهم على السراب ! ! .
ج- داخل الحكيم ساحة مَوّارة بالحركة والنشاط ، فهو لا يكفّ أبداً عن عمليات المقارنة ، والموازنة ، والتحليل ، والتركيب ، والاستنتاج ، والتشذيب ، والإضافة ، إنها أمواج وتيارات في أعماق المحيط ، أما السطح فإنه هادئ تعلوه السكينة والوقار .
إن من ملامح الأذكياء سرعة البديهة ، وإطلاق الأحكام ، وسرعة تشكيل المواقف ، لكن الحكيم طراز آخر من الناس ، فهو بطيء في تكوين معتقداته ، وصياغة مقولاته ، إذ إنه يملك قدرة خاصة على ضرب كل أشكال المعرفة والخبرة في بعضها بعضاً ، ليخرج في النهاية بزبدة تتميز عنها جميعاً ، لكنها منها جميعاً !
ويفسّر بعض الناس ذلك بالعي والحَصَر ، لكن الأيام تثبت أن مقولات الحكماء هي بنات عواصف فكرية وشعورية هائلة ، لكنها غير منظورة ! .
د - من أهم تجليات الحكمة : إدراك حجوم القضايا على وجهها الصحيح ؛ فالحكيم يرى الأشياء الكبيرة كبيرة ، كما يرى القضايا الصغيرة صغيرة كما هي ، وتقدير القضايا بصورة صحيحة من أخطر المشكلات التي ظلت تواجه البشر على مدار التاريخ ، وهل دُمّرت الحضارات إلا من وراء مشكلات وأخطاء ظنها الناس تافهة ، فإذا هي عواصف هوجاء تأتي على كل ما تمرّ عليه ! .
الحكيم : رجل يرى ما قبل اللحظة الراهنة ، ويستشرف ما بعدها ، وهو لا يرى نسقاً أو نظاماً من التداعيات الترابطية ، لكنه يرى أنساقاً ونظماً تتوازى ، وتتقاطع ، وتتصادم ، إنه يحسّ بالعاصفة قبل هبوبها ، فيحذر قومه وينذرهم . كلنا نرى القضايا بحجمها الحقيقي ، لكن بعد فوات الأوان ! ، وبعد أن نكتوي بنارها ، وتفوتنا فرصها الذهبية ، لكن الحكيم يأتي في الوقت المناسب ، كما قال سفيان الثوري : » إذا أدبرت الفتنة عرفها كل الناس ، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا العالم « ! .
العالم (الحكيم) الذي وصفناه ، أما أهـل الاختصاص ، الذين أذهبوا العمر في تفتيق المعرفة حول شيء بالغ الصغر ، أو حول (لا شيء) : فهؤلاء جنود التقدم العلمي ، لكن حظوظهم من إشراقات الحكماء محدودة للغاية ! .
هـ ترتفع درجة المرارة في داخلنا على مقدار فقدنا للحكمة ؛ والنزق والبَرَم الذي نبديه حول كل ما لا يعجبنا سببه جهلنا بالأسباب والجذور والسنن وطبائع الأشياء ومنطق سيرورتها . أما الحكيم : فإن مرارته لا تنبع من مفاجآت الأحداث وفواجعها ، وإنما من غفلة الناس واستخفافهم بالمواعظ التي ألقيت عليهم ، ونبهتهم إلى النهايات المحتومة التي يندفعون إليها دون أي حساب أو تقدير لفداحة الخطب الذي سيواجهونه . إن الآلام التي نشعر بها عند ظهور بعض النتائج تكون مكافئة في العادة للمسرات التي عشناها يوم كانت (عقولنا مستريحة) ومشاعرنا غارقة في عالم الملذات والأوهام ! .
ما ذكرناه من أنوار الحكمة وفضائلها غيض من فيض ، ولا يشف عن محاسنها قول كقول الله (تبارك وتعالى) : { وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البقرة : 269] .
أقوال أهل العلم في معنى الحكمة :
1. قال الامام ابن كثير رحمه الله ( تفسير ابن كثير ج1/ص323 )
وقوله ( يؤتى الحكمة من يشاء ) قال علي بن أبي طلحة عن بن عباس يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمة ومتشابهة ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله وروى جويبر عن الضحاك عن بن عباس مرفوعا الحكمة القرآن يعني تفسيره قال بن عباس فانه قد قرأه البر والفاجر رواه بن مردويه وقال بن أبي نجيح عن مجاهد يعني بالحكمة الاصابة في القول وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد ( يؤتى الحكمة من يشاء ) ليست بالنبوة ولكنه العلم والفقه والقرآن وقال أبو العالية الحكمة خشية الله فان خشية الله رأس كل حكمة وقد روى بن مردويه من طريق بقية عن عثمان بن زفر الجهني عن أبي عمار الأسدي عن بن مسعود مرفوعا رأس الحكمة مخافة الله وقال أبو العالية في رواية عنه الحكمة الكتاب والفهم وقال إبراهيم النخعي الحكمة الفهم وقال أبو مالك الحكمة السنة وقال بن وهب عن مالك قال زيد بن أسلم الحكمة العقل قال مالك وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا إذا نظر فيها وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه عالما بأمر دينه بصيرا به يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا فالحكمة الفقه في دين الله وقال السدي الحكمة النبوة والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة والرسالة أخص ولكن لا تباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع كما جاء في بعض الأحاديث من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحي إليه رواه وكيع بن الجراح في تفسيره عن إسماعيل بن رافع عن رجل لم يسمه عن عبد الله بن عمر وقوله وقال الإمام أحمد بسنده عن بن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها وهكذا رواه البخاري ومسلم
2. وقال الشيخ السعدي رحمه الله ( تفسير السعدي ج1/ص115)
( يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ) لما ذكر أحوال المنفقين للأموال وأن الله أعطاهم ومن عليهم بالأموال التي يدركون بها النفقات في الطرق الخيرية وينالون بها المقامات السنية ذكر ما هو أفضل من ذلك وهو أنه يعطي الحكمة من يشاء من عباده ومن أراد بهم خيرا من خلقه والحكمة هي العلوم النافعة والمعارف الصائبة والعقول المسددة والألباب الرزينة وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال وهذا أفضل العطايا وأجل الهبات ولهذا قال ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال إلى إصابة الصواب فيها وحصول السداد ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم واستعد لنفع الخلق أعظم نفع في دينهم ودنياهم وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة التي هي وضع الأشياء في مواضعها وتنزيل الأمور منازلها والإقدام في محل الإقدام والإحجام في موضع الإحجام ولكن ما يتذكر هذا الأمر العظيم وما يعرف قدر هذا العطاء الجسيم إلا أولوا الألباب وهم أهل العقول الوافية والأحلام الكاملة فهم الذين يعرفون النافع فيعملونه والضار فيتركونه وهذان الأمران وهما بذل النفقات المالية وبذل الحكمة العلمية أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله وأعلى ما وصلوا به إلى أجل الكرامات وهما اللذان ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يعلمها الناس
3. وقال الامام الطبري ( تفسير الطبري ج1/ص557 )
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة التي ذكرها الله في هذا الموضع فقال بعضهم هي السنة
ذكر من قال ذلك حدثنا بشر بن معاذ قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة والحكمة أي السنة
وقال بعضهم الحكمة هي المعرفة بالدين والفقه فيه
ذكر من قال ذلك حدثني يونس قال أخبرنا بن وهب قال قلت لمالك ما الحكمة قال المعرفة بالدين والفقه في الدين والاتباع له
حدثني يونس قال أخبرنا بن وهب قال قال بن زيد في قوله والحكمة قال الحكمة الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم يعلمهم إياها
قال والحكمة العقل في الدين وقرأ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
وقال لعيسى ( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة وإلانجيل )
قال : وقرأ بن زيد ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها )
قال : لم ينتفع بالآيات حيث لم تكن معها حكمة
قال : والحكمة شيء يجعله الله في القلب ينور له به
والصواب من القول عندنا في الحكمة أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم والمعرفة بها وما دل عليه ذلك من نظائره
وهو عندي مأخوذ من الحكم الذي بمعنى الفصل
4. وقال الإمام القرطبي رحمه الله ( تفسير القرطبي ج3/ص330 )
قوله تعالى ( يؤتى الحكمة من يشاء ) أي يعطيها لمن يشاء من عباده واختلف العلماء في الحكمة هنا فقال السدي هي النبوة بن عباس هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدمه ومؤخره وقال قتادة ومجاهد الحكمة هي الفقه في القرآن وقال مجاهد الإصابة في القول والفعل وقال بن زيد الحكمة العقل في الدين وقال مالك بن أنس الحكمة المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له وروى عنه بن القاسم أنه قال الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له وقال أيضا الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به وقال الربيع بن أنس الحكمة الخشية وقال إبراهيم النخعي الحكمة الفهم في القرآن وقاله زيد بن أسلم وقال الحسن الحكمة الورع قلت وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدي والربيع والحسن قريب بعضها من بعض لأن الحكمة مصدر من الأحكام وهو الإتقان في قول أو فعل فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس فكتاب الله حكمة وسنة نبيه حكمة وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه فقيل للعلم حكمة لأنه يمتنع به وبه يعلم الإمتناع من السفه وهو كل فعل قبيح وكذا القرآن والعقل والفهم وفي البخاري ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) وقال هنا ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها اعتناء بها وتنبيها على شرفها وفضلها حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى فبدل الذين ظلموا قولا ذكر الدارمي أبو محمد في مسنده حدثنا مروان بن محمد حدثنا رفدة الغساني قال أخبرنا ثابت بن عجلان الأنصاري قال كان يقال إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم المعلم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم قال مروان يعنى بالحكمة القرآن قوله تعالى ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ) يقال إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع علم كتب الأولين
5. وقال الإمام ابن حجر رحمه الله ( فتح الباري ج7/ص205 )
قوله تعالى ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) وأصح ما قيل في الحكمة انها وضع الشيء في محله أو الفهم في كتاب الله فعلى التفسير الثاني قد توجد الحكمة دون الإيمان وقد لا توجد وعلى الأول فقد يتلازمان لأن الإيمان يدل على الحكمة
فمن رام الحكمة وابتغاها فليجعل العلم إمامه وقائده؛ والعمل به رائده وسائقه؛ وليبعد هواه عن نفسه ومسلكه؛ ولا يستخفنه الذين لا يدركون قيمة الحكمة ولا يعبأون بجميل عاقبتها.