الجنس : العمر : 41 بلاد مأرب التسجيل : 06/09/2011عدد المساهمات : 132
موضوع: ☸❦☸ بل كان نبياً رسولا ☸❦☸ الخميس 09 فبراير 2012, 9:30 am
☸❦☸ بل كان نبياً رسولا ☸❦☸
قدّم بعض المستشرقين جملة من النظريات المنحرفة؛ لتفسير النهضةِ، التي قامت بين العرب وظهورِ الدولة الإسلامية، وحاولوا جاهدين أن يلغوا الصبغة الدينية لهذه الحركة التاريخية، وقد أفضى بهم ذلك إلى جعل الإسلام مجرّد ثورة للفقراء ضد الأغنياء، وقالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أكثر من مصلح اجتماعي، أراد أن يعزّز القيم الفاضلة في المجتمع، الذي نشأ فيه، والذي كان يموج بمظاهر التخلف، والفساد - الأخلاقي والاجتماعي - فلم يجد أفضل من الدعوة إلى دين جديد، وأن يتقمّص – بزعمهم - دور النبي المبعوث من رب العباد.
وقامت نظرية أخرى مغايرة، وهي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رجلاً يطمح إلى الملك، والسيطرة على مقاليد الأمور، فوضع لنفسه خطة، تعتمد على تجميع الناس من حوله، والتغرير بهم من منطلق هذا الدين الجديد، وساعدته في ذلك الظروف الاجتماعية، التي وُجد فيها؛ حيث كان الناس في أمس الحاجة إلى نظام يلمّ شتات العرب، ويجمعهم على كلمة واحدة، بعد أن أنهكتهم الحروب، وذاقوا مرارة الفقر والحرمان، وهكذا التفّ العرب حوله، وانضمّوا تحت لوائه، وقبلوا دعوته التي أتى بها.
ومن المعلوم أن الدعوة التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - تشمل ما ذكروه من جوانب السياسة والإصلاح، لكن المشكلة تكمن في الاقتصار على هذه الجوانب، ونزع الطابع النبويّ منها، وإلباسها ثوباً ماديّاً مجرَّداً.
ولتعرية هذه الآراء المنحرفة وبيان بطلانها، سنقوم بعرض هذه الآراء على الواقع التاريخي، وفق ما يقتضيه المنهج العلمي، ثم لننظر: هل سيسعفهم ذلك في الوصول إلى رؤيتهم المادية أم لا؟
هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مصلحاً سياسياً؟ أولاً: إن اتصاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحزم والثبات، وعدمِ تقديم أية تنازلات – لَيَنْفي – قطعاً - مثلَ هذا الادعاء؛ إذ إن من صفات السياسيين أن يدوروا في فلك مصالحهم الشخصية، وما يقتضيه ذلك من الاتصاف بالمرونة في التنازل عن بعض الثوابت أو شيء من المبادئ.
لكن الشأن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النقيض من ذلك؛ ولذلك نجد موقفه واضحاً من الأعرابي الذي قدِم إليه ليبايعه؛ كما رواه الحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه عن ابن الخصاصية - رضي الله عنه - قال: ((أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبايعه على الإسلام، فاشترط علي: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وتصلي الخمس، وتصوم رمضان، وتؤدي الزكاة، وتحج البيت، وتجاهد في سبيل الله، قال: قلت: يا رسول الله، أما اثنتان فلا أطيقهما: أما الزكاة، فما لي إلا عشر ذود، هن رسل أهلي وحمولتهم، وأما الجهاد، فيزعمون أنه من تولّى، فقد باء بغضب من الله؛ فأخاف إذا حضرني قتال، كرهت الموت، وخشعت نفسي، قال: فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يده، ثم حركها، ثم قال: لا صدقة ولا جهاد! فبم تدخل الجنة؟! قال: ثم قلت يا رسول الله، أبايعك، فبايعني عليهن كلهن)).
ويستوقفنا ما رواه الإمام أحمد، وابن حبان، وغيرهما عن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه -(أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين، يقول الصحابي الجليل: وكان للكفار سدرة يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها: "ذات أنواط"، قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قلتم - والذي نفسي بيده - كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} [الأعراف: 138])).
ويتضح من ذلك الموقف وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى بالحلول الوسطية، أو الالتقاء في منتصف الطريق، وذلك نابع من طبيعة الهدف، الذي بُعث لأجله: أنه رسول من الله - تعالى - إلى الناس جميعاً، ومهمته هي تبليغ الإسلام إلى الناس كما هو، فليس في يده أن يقبل مناهج مقترحة، أو أفكاراً بديلة عن الشرع الإلهي، أو أن يبدل أو يغير شيئاً مما أمره الله بتبليغه؛ وذلك أمر في غاية الوضوح.
ثانياً: إن ميول الإنسان ومَعَالِمَ شخصيته تتضح في وقت مبكر من حياته، وهذه الميول تتنامى لتكوّن القالب، الذي يميّز الفرد عن غيره، ولنضرب مثلاً: لو أن رجلاً نشأ في بيت زعامة سياسية، وأبوه أحد أكبر الزعماء في زمانه – يقيناً - سيتأثر الولد بهذا الجو، وستظهر فيه سمات النفس القيادية؛ فالإنسان ابن بيئته كما يقولون، وإذا نظرنا في سيرة الرسول ونشأته، وجدنا أنه قد كان متواضعاً خفيض الجناح، راعياً للغنم – لا الإبل – وانظر وتأمل هذا النبي الكريم لما رأى رجلاً مقبلاً، يرتعد رهبةً منه، فقال له: ((هوّن عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)).
وثمة أمر آخر، هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شبابه ما كان داعياً لنفسه، ولا اشتُهر عنه الشعر – الذي هو أهم وسيلة إعلامية دعائية في ذلك العصر - ولو كان مريداً –ابتداءً - للحكم، لهيَّأ أرضيةً لدعوته بالشعر، ولدعا الناس إلى نفسه.
ثالثاً: من المعلوم أن مكة، ومن حولها كانت وثنيةً من جهة، متغلغلة في أوحال الفقر من جهة أخرى، ومرجع الفقر - الذي ألَمَّ بها - إلى السياسة، التي انتهجها اليهود مع العرب في إغراقهم بالربا، إلى حدٍّ أذلَّوا بها أعناقهم.
ومن البداهة - والحال هذه - أن يتّخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقصرَ الطرق؛ للوصول إلى الحكم، بأن يعلنها حرباً على اليهود، مستغلاً روح الكراهية، التي تنامت في نفوس المكيّين كردّة فعلٍ تجاه هذا الظلم والاستبداد، مع ضرورة السكوت عمّا يثير قومه عليه من ذم الأوثان والأصنام، أو النيل من مكانتها.
لكن العجيب في الأمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختار أصعب الطرق، وأكثرها وعورة في حياته، لقد كانت مبدأُ دعوته هي نبذَ الأصنام وتسفيهَها، وهو ما أدّى إلى كراهية قومه – الذين هم أولى الناس بنصرته – لهذه الدعوة الجديدة، فكان التعذيبُ له ولأصحابه، وتشريدُهم عن ديارهم، وكل ذلك يدلّنا أن مقصده لم يكن له علاقة بالتملك والسيطرة، إنما هو إخراج الناس من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد.
رابعاً: إن الملوك المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - ممن هم ساسة للأمم - كانوا مدركين لطابع النبوة في شخصيّته؛ ويتضح هذا من خلال مواقفِهم التي اتخذوها تجاه هذه الدعوة الجديدة، واعترافاتِهم التي سجّلوها في هذا الصدد، وأقرب مثالين على ذلك: موقف كل من النجاشي وهرقل.
أما النجاشي - ملك الحبشة - فنحن نعلم ما وصل إليه من حسن سياسة لشعبه، وذلك ما أدى إلى تهافت الناس لسكنَى أرضه، ونعلم – أيضاً - اتصاله بالديانة المسيحية من خلال الأساقفة، الذين كانوا بأرضه، وعلى الرغم من ذلك، فلم يفهم من دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - الرغبةَ في الزعامة السياسية، بل تجاوز ذلك إلى الإيمان بدعوة هذا النبي – صلى الله عليه وسلم - أتُراه يذعن لرجل يطمح إلى الزعامة المجردة، في وقت لم يكن ذلك الرجل يملك من أمر نفسه، ولا من أمر أصحابه شيئاً؟!
إن زعيم الحبشة، قد استمع إلى كلام جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحقيقة الدين الذي جاء به، فرأى أنوار النبوة تنبثق من سيرته العطرة، وعلم أنه من ذات المشكاة، التي أتى منها موسى - عليه السلام - فقال: "إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة".
كذلك الشأن في هرقل عظيم الروم، والذي استطلع شأن هذه الدعوة الجديدة في وقت مبكر، من خلال محاورة هامة، دارت بينه وبين أبي سفيان زعيم قريش، فقد روى الإمام أحمد بسند صحيح: ((إن هرقل قال لأبي سفيان: إني سألتك عن نسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك: هل قال هذا القول أحد منكم قطُّ قبله؟، فزعمت أن لا، فقلت: لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله، قلت: رجل يأتم بقول قيل قبله، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟، فزعمت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله - عز وجل – وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟، فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك، قلت: رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟، فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك، هل يزيدون أم ينقصون؟، فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك: هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟، فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد، وسألتك: هل يغدر؟، فزعمت أن لا، وكذلك الرسل، وسألتك، هل قاتلتموه وقاتلكم؟، فزعمت أن قد فعل، وأن حربكم وحربه يكون دولاً يدال عليكم المرة، وتدالون عليه الأخرى، وكذلك الرسل تبتلى، ويكون لها العاقبة، وسألتك: بماذا يأمركم؟، فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله - عز وجل – وحده، لا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصدق، والصلاة، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وهذه صفة نبي قد كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أظن أنه منكم)).
خامساً: لو كان الملك غايته، لكان في عرض قريش له أن يجعلوه ملكاً - طريقٌ مختصرٌ لهذه الغاية، لكنه أبى ذلك، وتمسك بمبدأ نبوته، وهو ما ينفي صحة هذا الادعاء.
سادساً: أنه يوجد في التاريخ نموذج لرجل ادعى النبوة ليجعلها سبباً في التملك والزعامة، هذا الرجل هو مسيلمة بن ثمامة، المعروف بـ"مسيلمة الكذاب"، ونريد - بتسليط الضوء على حياة هذا الرجل - أن نبيّن أن استغلالَ النبوة؛ للوصول إلى السلطة - أمرٌ لا يمكن أن يخفى على عقلاء الناس، ولا أن يلتبس شأنه على عامتهم، وهو ما سوف نوضحه في الفقرة التالية.
إننا عندما نقرأ سيرة هذا الرجل، فإننا نجد أن أصلَ حركته، وادعاءَه للنبوة إنما كان مبنياً على حب السلطة والتملك، ونلمس هذا مبكراً، عندما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يَدّعي النبوة، فقد روى الإمام البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: ((قدم مسيلمة الكذابُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول: إنْ جعل لي محمدٌ الأمرَ من بعده، تبعتُه))، وبعد أن ادّعى النبوة كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في مسند أبي عوانة: "من مسيلمة - رسول الله - إلى محمد - رسول الله - أما بعد، فإني أُشركت في الأمر معك، وإن لنا نصفَ الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً يعتدون"، ولما كان مسيلمة طامعاً في الحكم، استغلّ الروح العصبية في قومه، فقام بإذكائها؛ حتى يُكثر من أتباعه، فلننظر إليه عندما خطب الناس قائلاً: "أريد أن تخبروني: بماذا صارت قريشٌ أحقَّ بالنبوة، والإمامة منكم؟! والله، ما هم بأكثر منكم، ولا أنجد، وإن بلادكم لأوسعُ من بلادهم، وأموالَكم أكثرُ من أموالهم"، وكان كذبه من الجلاء بحيث إن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال له قبل إسلامه: والله، إنك لَتعلم أني أعلم أنك تكذب، وقال أحد أتباع مسيلمة – وهو طلحة النمري – له: "أشهد أنك كاذب، وأن محمداً صادق، ولكن كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر".
فها نحن نرى مسيلمة قد اتضح قصده من خلال مواقفه وكلامه، فأين هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي شهد له معاصروه بنبوته ورسالته؟ إن ذلك مما لا يخفى على كل منصف عاقل.
سابعاً: تطالعنا كتب السير بحادثة فريدة، تكشف بطلان ما زعمه المستشرقون عن طبيعة الدعوة الإسلامية، وذلك حينما انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس: "انكسفت لموت إبراهيم"، فأجابهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته))؛ متفق عليه.
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي - رحمه الله - معلقاً على هذه الحادثة: "لو كان مكانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المناسبة الحزينة - أيُّ داعٍ من الدعاة، أو زعيم من الزعماء، أو قائد دعوة، أو حركة، أو جماعة - لَسكت على هذا الكلام، إذا لم يوفّق إلى نفيه، ظناً منه أن ذلك الكلام إنما هو في صالح دعوته وحركته، وظنّ أنه لم يسترعِ الانتباه إلى هذه الناحية، بل إن الناس بأنفسهم فكّروا في ذلك، وقالوا: إن الشمس انكسفت؛ لوفاة ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذاً فهو ليس بمكلف بنفي هذا التفكير.
وذلك هو الفرق بعينه بين النبي – صلى الله عليه وسلم - وغيرِه، فإن الأحداث التي يستغلها أصحاب التفكير السياسي - وإن كانت حوادثَ طبيعيةً يرى الأنبياء الكرام - عليهم السلام - أن استغلالهَا - على حساب الدين - حرامٌ، وأمرٌ يرادف الكفر - ولا أدري أن أحداً سوى محمد - صلى الله عليه وسلم - قد صدق في هذا الامتحان من غير مؤسسي الجماعات وزعماء السياسة" انتهى كلامه بتصرّف.
فانظر: أيها القارئ الكريم، كيف حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على عدم ربطِ الناس بشخصه؟، أو تطويعِ هذه الحادثة لمصلحته؟، بل انظر: كيف قام بترسيخ البعد العقائدي في مثل هذه الحوادث الكونية؟، وهو ما ينفي – قطعاً - كونَه مجرَّدَ زعيم سياسي.
ثامناً: كل الشعوب ترى أن من حق قائدها أن يتملّك الأراضي، ويتمتّع بالمال، ويتقلّب في النعيم، فكان من الطبيعي أن يشتهر عن النبي - صلى الله عليه وسلم – الثراءُ، وأن يظهر ذلك في بيته، وملبسه، ومسكنه، لكننا نفاجأ بسهولة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومدى زهده، حتى أثّر ذلك في أصحابه - رضوان الله عليهم - وقد رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أثر الحصير في جنب النبي - صلى الله عليه وسلم - فبكى، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يُبكيك؟ فقال: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال له: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟))؛ رواه البخاري، فلماذا نراه يفضّل شظفَ العيش، وقسوةَ الحياة على رغدها، لو لم يكن متطلّعاً إلى ما عند الله من ثوابه ونعيمه؟
تاسعاً: جاءت وفود الأنصار عند العقبة لمبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى الدفاع عنه حتى الموت، فما المقابل الذي بشّر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابَ هذه البيعة؟ إنه لم يكن مالاً يبذله لهم، أو وعوداً على مناصب قياديّة، أو أمانيّ في رقاع من الأرض، لكنه سما بهم عن كل حطام الدنيا، وبشّرهم بالجنة، والملفت للنظر أنهم لم يطالبوا بشيء من هذه الأموال، ولكن تدافعوا للبيعة، وهم يعلمون أنهم قد يدفعون أرواحهم ثمناً لهذه البيعة، ولو كان هؤلاء القومُ لم يلمسوا فيه صدقَ دعوته - لمَََا وافقوا على مثل تلك البيعة، فأيّ شيء يغريهم بالموت في مقابل غير معلوم؟ لا شك أن هذا يعد دليلاً على صدقه.
هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مصلحاً اجتماعياً؟ لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث ليُتمّم مكارم الأخلاق، ويضيفَ إلى الإنسانية الكثيرَ من المعاني السامية، والمثل العليا، وأن البعد الأخلاقي في مبادئه واضحٌ بلا مراء، لكن أن يحلو للبعض أن يفسّر دعوته بانتحال النبوة، والاحتيال باسم الدين، كي يسهم في انتشال قومه من الانحلال الخلقي، ومحاربة الهيمنة القبلية، فهذا ما لا يقوله عاقل منصف، عرف التاريخ، أو اطلع على جزء من حياة النبي، صلى الله عليه وسلم.
والنقاط التالية تبيّن تفاهة تلك الفرية، وأنها لا تعدو أن تكون أفكاراً نابعة من نفوس مغرضة: أولاً: إن جوانب الحياة الاجتماعية تشمل عدة أبعاد: البعد المنظّم لعلاقة الإنسان بنفسه، والبعد المنظم لعلاقته بمن سواه. ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مجرّدَ مصلحٍ اجتماعي لَكان تركيزه الأعظمُ على هذين البعدين، في حين نرى في الواقع أن العماد الحقيقي، الذي قامت عليه دعوته هو بُعد أعمق من القضيتين السابقتين، إنه البُعد العقدي، والمتمثل في علاقة الإنسان بخالقه ومولاه.
لقد تركّزت الدعوة الإسلامية في أكثر مظاهرها بالعبادة، وتوحيد الله - جلّ وعلا - وهذا البعد ليس له علاقة مباشرة بالإصلاح الاجتماعي، فما بال النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر الناس بعبادة الله وحده؟ وما علاقة الأخلاق بتحمّل أعباء تكاليف تَشغل – بمجملها - حياةَ الإنسان اليومية؟
وهنا قد يقول المستشرقون: إن لهذه التكاليف أثراً في ترويض الروح على الفضيلة. لكن هذا لا يتماشى مع النهي عن عبادة الأصنام، ولا مع وجوب البراءة من الكفر والكافرين، وهذا ما يجعلنا نقطع بتفاهة مثل هذا الرأي.
ثانياً: إن هذا التفسير النظري لَيقفُ عاجزاً عن تفسير بكاء الصحابة العائدين من الغزوات؛ إذ لم تُكتب لهم الشهادة، ويقف عاجزاً عن تفسير حرصهم على قتال ذويهم وبني جلدتهم، حتى ترى الوالد يقتل ولده، والأخ يقتل أخاه، كل ذلك في سبيل هذه الدعوة الجديدة، ثم إن هذه النظرية لَتعجز عن تفسير رضا المهاجرين أن يتركوا ديارهم وأموالهم، ويختاروا مفارقة الأوطان، إلى مصير غير معلوم، لو لم يعلموا يقيناً بنبوته، صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: إن المتطلّع إلى محتويات الدين الإسلامي يجد فيه العديد من التشريعات المختلفة، والأنظمة المحكمة الدقيقة، خصوصاً ما يتعلّق بجوانب القضاء، والإفتاء، والحدود، والشأن في المناهج الأرضية القويّة أن تجتمع عقول كثيرة؛ لكي تخرج بنظام متكامل كهذا النموذج، لا أن يكون منبع هذا الدستور من رجل أمي، لا يعرف القراءة ولا الكتابة، منشغلٍ بعبادته والاجتماع بصحابته، ومثلُ هذا التصوّر يقتضي أن تكون هذه الشريعة من مصدر سماوي، لا اجتهادات بشريةٍ عرضة للخطأ والصواب.
ونقول أخيراً: إن الإصلاح الاجتماعي هو قاسم مشترك بين الديانات السماوية والدعوات الأرضية، وفيما يتعلق بالدعوات السياسية؛ فالكل يسعى إلى تحقيق الاستقرار وتنظيم الحياة، ولكنا حينما نتكلم عن دين أتى من عند الخالق الحكيم، فمن البداهة أن يكون أوسع نطاقاً، وأكمل نظاماً، وأشمل منهجاً؛ فليس هو بالمقتصر على جانب من جوانب الحياة أو نظام من نظمها.
وإذا كان الأمر كذلك، فمن السذاجة أن يوصف الدور، الذي قام به خاتم الأنبياء والمرسلين بأنه مجرد عمليات إصلاحية في المجتمع العربي، أو محاولات لتصدّر الزعامة، والسيطرة على مقاليد الحكم في جزيرة العرب، فلا مناص من الاعتراف بالحق الواضح، وهو ما عبّر عنه المستشرق " تريتون " بقوله: "إذا صحّ في العقول أن التفسير المادّي يمكن أن يكون صالحاً في تعليل بعض الظواهر التاريخية الكبرى، وبيان أسباب قيام الدول وسقوطها - فإن هذا التفسير المادي يفشل فشلاً ذريعاً حين يرغب في أن يعلّل وحدة العرب وغلبتهم على غيرهم، وقيام حضارتهم، واتساع رقعتهم، وثبات أقدامهم، فلم يبقَ أمام المؤرخين إلا أن ينظروا في العلّة الصحيحة لهذه الظاهرة الفريدة، فيرى أنها تقع في هذا الشيء الجديد: ألا وهو الإسلام".
تلك هي شهادة شاهد من أهلها، فأي حجة بعد ذلك تنفع، إذا كان ما سبق لا يُقنع؟!
زهد النبي - صلى الله عليه وسلم -: الزهد في حقيقته هو الإعراض عن الشيء، ولا يطلق هذا الوصف إلا على من تيسر له أمر من الأمور، فأعرض عنه، وتركه زهداً فيه، وأما من لم يتيسّر له ذلك، فلا يقال إنه زهد فيه؛ ولذلك قال كثير من السلف: إن عمر بن عبد العزيز كان أزهدَ من أويس - رحمة الله على الجميع - وقال مالك بن دينار عن نفسه: الناس يقولون مالك زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أي إنه هو الزاهد حقيقة، فإن الدنيا كانت بين يديه فلم يلتفت إليها.
وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - أزهدَ الناس في الدنيا، وأقلهم رغبة فيها، مكتفياً منها بالبلاغ، راضياً فيها بحياة الشظف، ممتثلاً قول ربه - عز وجل -: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِه أَزْوَاجَاً منْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]. مع أن الدنيا كانت بين يديه، ومع أنه أكرم الخلق على الله، ولو شاء لأجرى له الجبال ذهباً وفضة.
وقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره عن خيثمة أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبياً قبلك، ولا نعطي أحداً من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله، فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله - عز وجل - في ذلك: {تَبَارَكَ الذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} [الفرقان:10]، وخُيِّر - صلى الله عليه وسلم - بين أن يكون ملِكاً نبياً، أو عبداً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً)).
وأما حياته - صلى الله عليه وسلم - ومعيشته فعجب من العجب، يقول أبو ذر - رضي الله عنه –: ((كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرّة المدينة، فاستقبلْنا أُحُداً، فقال: يا أبا ذر: قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً، تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار، إلا شيئاً أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم مشى، فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، وقليل ما هم))؛ رواه البخاري، وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)) - وفي رواية –: كفافاً، ودخل عليه عمر - رضي الله عنه - يوماً، فإذا هو مضطجع على رمالٍِ وحصيٍر ليس بينه وبينه فراش، وقد أثّر في جنبه، قال عمر: فرفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر، فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وسِّع عليهم وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله، فقال: ((أوَفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا))، وكان يقول: ((ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها))، وكان فراشه - صلى الله عليه وسلم - من الجلد وحشوه من الليف.
وأما طعامه، فقد كان يمر عليه الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال - ثلاثة أهلة - وما توقد في بيوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نارٌ، وإنما هما الأسودان التمر والماء، وربما ظل يومَه يلتوي من شدة الجوع، وما يجد من الدَّقل - وهو رديء التمر - ما يملأ به بطنه، وما شبع - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام تِباعاً من خبز بُرٍّ حتى قُبض، وكان أكثر خبزه من الشعير، وما أُثر عنه أنه أكل خبزاً مرقّقا أبداً، ولم يأكل - صلى الله عليه وسلم - على خِوان - وهو ما يوضع عليه الطعام - حتى مات، بل إن خادمه أنس بن مالك - رضي الله عنه - ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يجتمع عنده غداء ولا عشاء من خبزٍ ولحم إلا حين يأتيه الضيوف.
ولم يكن حاله في لباسه بأقل مما سبق، فقد شهد له أصحابه - رضي الله عنهم – بزهده، وعدم تكلّفه في لباسه، وهو القادر على أن يتّخذ من الثياب أغلاها، يقول أحد الصحابة واصفاً لباسه: ((أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكلّمه في شيء فإذا هو قاعد وعليه إزار قطن له غليظٌ))، ودخل أبو بردة - رضي الله عنه - إلى عائشة - أم المؤمنين - فأخرجت كساءً ملبداً وإزاراً غليظاً، ثم قالت: قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذين الثوبين، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية)).
وإن المرء لَيقف متعجباً أمام ما يذكره علماء السير من وصفٍ لبيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلة متاعها، فلم يكن فيها شيءٌ يملأ العين من الأثاث ونحوه، وما ذلك إلا زهداً في الدنيا وإعراضاً عنها.
ولم يترك - صلى الله عليه وسلم - عند موته درهماً، ولا ديناراً، ولا عبداً، ولا أَمةً، ولا شيئاً، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقة، قالت عائشة - رضي الله عنها -: ((توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما في رفِّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفٍّ لي، فأكلتُ منه حتى طال عليَّ))، ومات - عليه الصلاة والسلام - ودرعُه مرهونة عند يهوديّ مقابل شيءٍ من الشعير.
إن ما ذكرناه في هذه العجالة هو شيء يسير من أخبار إمام الزاهدين، وسيد العابدين - صلى الله عليه وسلم - وغيرُها كثير لم يذكر، وستظل هذه الأخبار شواهدَ صدق على نبوته، وزهده، وإيثاره ما عند الله - عز وجل - وإن فيها دعوةً للأمة، وللأجيال المؤمنة؛ للزهد في الدنيا، والحذر من فتنتها، فلو كانت الدنيا دليلَ محبة الله لِصاحبها، لَفاز بها خيرُ الخلق، وأكرمهم على الله.