¦".×."¦ " تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم " ¦".×."¦
الكذبُ محرَّم، هذا ما يعرفه كل مسلم يؤمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صلَّى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولاً؛ وذلك لأنَّ الأمرَ في الإسلام مبناه على الصِّدق، فالصدق أمانة، والكذب خيانة، ولا يزال الرَّجُل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، ولا يزال يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذَّابًا[1].
والكذب ثلاثة أقسام: كذب على الله، وكذب على النَّفس، وكذب على الخلق.
فأمَّا الكذب على الله، فيقول الله - تعالى - فيه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60].
وله عدَّة معانٍ؛ منها: إنكار أمر الله ونهيه، ولو كان عمل الإنسان على وفقهما.
ومنها: ادِّعاء ما ليس لله أنَّه لله، مثل ادِّعاء الولد أو الزَّوجة أو الشَّريك أو النِّد له - سبحانه.
ومنها: القول على الله بغير علم، كأنْ يُفتي على غير مقتضى الأدلَّة الشرعيَّة عمدًا، أمَّا خطأ المفتي المجتهد ذي الأهليَّة فمغفور؛ لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر))[2].
ولذا يجب على المُفتي أمران هما: حسن القصد، وتحرِّي الصواب، وخير له أنْ يقولَ: لا أدري من أنْ يُخطئ في فتواه، ولقد رُوِيَ عن بعض أهل العلم أنَّ نصف العلم: لا أدري[3].
أمَّا أشد أنواع الكذب على الله - تعالى - فهو أن يقول العبد: أوحيَ إليَّ عن الله، وهو لم يوحَ إليه شيء؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93]؛ وذلك لأنَّ هذا الفعل القبيح ادِّعاء للنُّبوة، وهي من الاصطفاءات الإلهيَّة التي لا دَخْلَ للكسب والجهد البشري فيها أو في تحصيلها؛ بل هي محض اختيار من الله - تعالى - وقد ختمت بمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما هو معلوم بالضَّرورة من دين الإسلام.
وقد ادَّعى النبوة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - كذَّابون منهم: مُسيلمة الكذاب، وسجاح بنت الحارث، كما ادَّعاها في العصر الحديث عددٌ من الكذَّابين منهم القادياني الكذاب.
وأمَّا الكذب على النفس، فقد قال الله - تعالى - فيه: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 24]، وذلك كالجاحد للحقِّ، وهو يعلم أنه حقٌّ، كما في قوله - تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، وهي حال كحال أبي جهل الذي كان يعرف صدق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومع ذلك كفر به جحودًا واستعلاءً وحَسَدًا.
وأمَّا الكذب على النَّاس، فيقول فيه الحق - جلَّ وعلا: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
وكذب المنافقين بحسب نوع نفاقهم، فالنِّفاق الاعتقادي الذي يعني إبطان الكُفر وادِّعاء الإيمان - هو كذب على النَّفس من وجه، وكذب على النَّاس من وجه، وكذب على الله من وجه.
وأمَّا النِّفاق العملي الذي من أنواعه الكذب: "إذا حدَّث كذب"، فهو كذب على الناس، وكذب على النَّفس؛ حيثُ يعلم الكذَّاب المتعمد للكذب أنَّه كاذب فيما يُحدِّث به الناس، وقد يدخل في الكذب على الله إذا حدَّث بما يعلم أنَّه ليس صحيحًا في أمر الدين، ولا شَكَّ أنَّ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من الكذب المُغلَّظ - يدخل في الأقسام الثلاثة من الكذب.
يدخل في الكذب على الله - تعالى - لأنَّ ما ينسبه الكذَّاب إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - مما لا تصحُّ نسبته إليه - صلى الله عليه وسلم - هو إدخال ما ليس من الوحي الإلهي في الوحي الإلهي؛ لأنَّ نُطقَ الرسول وحي؛ حيث يقول - تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4].
فالقرآن هو الوحي الجليُّ الذي ينسب إلى الله - تعالى - لفظًا ومعنًى، وقد نزل على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخطاب المَلَك المكلف بالوحي، وله صُوَرٌ متعددة، منها: أنْ يأتيه مثل صلصلة الجرس، ويتلبَّس به الملك المكلف بالوحي جبريل - عليه السلام - ومنها: أن يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه؛ كما حدث في غار حراء، عند نزول سورة العلق في بدء الوحي.
روى البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنها -: "إنَّ الحارث بن هشام - رضي الله عنه - سأل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملكُ رجلاً، فيكلمني فأعي ما يقول))[4].
وأمَّا السُّنَّة فهي من الله - تعالى - معنًى لا لفظًا، وبهذا يتميز القرآن بأنَّه النَّص الإلهي المعجز، المُتحدَّى بلفظه ومعناه كلُّ الجن والإنس مُجتمعين، وتتميَّز السنة النبوية بأنَّها الوحي الثَّاني المبين للوحي الأول، بالقول والعمل والإقرار.
وبهذا يتَّضح أنَّ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - بنسبة ما لم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، هو نوع من الكذب على الله تعالى.
كما يدخل الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكذب على الخلق من وجهين:
الأول: أنه كذب على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أشرف الخلق، بنسبة ما لم يقُله إليه، وبقدر عُلُوِّ منزلة مَن نَسَبْتَ إليه ما لم يقلْ، يزداد فُحش الكذب وغلظه.
الثاني: أنَّ الكاذب على رسول الله يخبر النَّاس بخبر كاذب، وهم له مُصدِّقون، فهو كذب عليهم في نفس الوقت الذي هو كذب على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم.
ولقد كَذَبَ اليهود على أنبيائهم، وحرَّفوا كتابَ ربِّهم، ونسبوا إلى الله - تعالى - وإلى الأنبياء والرُّسل - عليهم السلام - ما لم يقولوه، وكَذَبَ النَّصارى كذلك، ونسبوا إلى الله - تعالى - وإلى أنبيائه ورسله - عليهم السلام - ما لم يقولوه، وقد قال الله - تعالى - عنهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].
وذلك أنَّ الله - تعالى - استحفظهم على ما أنزل على رسلهم فضيَّعوه، وحرَّفوه، وادَّعَوْا على الله - تعالى - ورسله ما لم يَقُلْه الحقُّ - جل وعلا - وما لم يخبر به رسلُه - عليهم السلام - ولكن الله - تعالى - اختصَّ هذه الأُمَّة بحفظ كتاب الله - تعالى - فلا تطولُه يدُ التحريف أو التبديل أو التغيير، ويتبع حفظَ كتاب الله - تعالى - حفظُ سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم.
ولقد كانت أولى مُحاولات الكذب على الله - تعالى - ما قام به أدعياءُ النُّبوة قبل زمن النبي وأثناء حياته وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فادَّعوا أنَّ الوحي يأتيهم من السَّماء، كما كان ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن الصَّحابة - رضِيَ الله عنهم، وعلى رأسهم أبو بكر الصِّديق - تصدَّوا لأولئك الأدعياء الكذَّابين، ومرَّت هذه الفتنة العَمْياء بعدما استُؤصِلَت من جذورها.
ولقد كان صحابة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - الذين حملوا علمه، واتَّبعوه في أعماله - لا يعرفون الكَذِبَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل لم يكُنْ يخطر ببال أحدهم، فلَمَّا وقعت الفتنة في أواخر العصر الرَّاشدي، بدأ الكذب والدَّسُّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيثُ لم يستطعْ أولئك النَّفَر من أتْبَاع عبدالله بن سبأ - السبئيَّة - أن يُحرفوا في كتاب الله - تعالى - المتواتر بين الصَّحابة المحفوظ في الصُّدور والقُلُوب، وخصوصًا بعد أنْ جمعه أبو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - فأحسن جمعه.
ثم أتم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - هذا العمل العظيم عندما جمع القرآن للمرَّة الثانية على حرف واحد في المصحف العثماني، بعد اتِّساع الفتوحات الإسلاميَّة شرقًا وغربًا، ودخول كثير من العجم في الإسلام، فكان المصحف العُثماني الذي أرسل عُثمانُ نُسَخًا منه إلى كُلِّ مِصْرٍ من أمصارِ الدَّولة الإسلاميَّة في ذلك الوقت[5].
وكان ذلك ثمرة لتعهُّد الله بحفظه؛ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، بل إنَّ تواتُر القرآن في قراءاته العشر المتواترة قد حفظ لكلِّ حرفٍ من القرآن، بل لكل حركة فيه مكانَها من أن ينالَها التحريفُ أو التغيير أو التبديل؛ فقد اشتهر بين الصَّحابة - رضي الله عنهم - عددٌ كبير من القُرَّاء أخذوا القرآن تلقِّيًا من فَمِ النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم: أُبَيُّ بنُ كعب، ومعاذُ بن جبل، وغيرهم - رضي الله عنهم جميعًا - ثُمَّ نقل عنهم بالتواتُر إلى اليوم.
أمَّا بالنسبة للسُّنَّة النبويَّة، فقد كان في خلافة عمر - رضي الله عنه - يُسْأَلُ مَن يَنسُبُ قولاً أو عملاً للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - عن شاهد من الصَّحابة؛ للتثبُّت، وإن كان هذا لا يَحدثُ في كلِّ حادثة، فلَمَّا وقعت الفتنة، كانوا لا يتلقَّون عن أهل البِدَع، ويقولون لمن يروُون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم: سَمُّوا لنا رجالَكم، فيُنظَرُ إلى أهل البِدَع، ويُجتنَب حديثُهم.
ومنذ ذلك الوقت المبكِّر في تاريخ الإسلام، وُضِعَ أصلُ المنهج العلمي لحفظ السنة النبوية، وهو النَّظر في رجال السَّند، وثَبَتَ في "الصِّحاح" في حديث أبي شاة، وفي "السنن" في حديث عبدالله بن عمرو، وفي "الصحيح" في حديث علي - رضي الله عنه - في الصحيفة، وفي غيره، وكذلك في كثيرٍ من الدِّراسات المعاصرة - أنَّ تدوينَ السنة بدأ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم، فقد أَذِنَ النبيُّ لبعض صَحَابته كعبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - في كتابة الحديث عنه.
وذلك برغم أنَّه - صلى الله عليه وسلم - نهى نهيًا عامًّا عن كتابة غير القُرآن عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتَّى لا يختلط القرآن بغيره، فقد كان هذا الإذن الخاصُّ مع أمن الاختلاط؛ ولذا توجد صحيفةُ عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - بطولها في مُسند الإمام أحمد، وكان عبدالله بن عمرو يسمِّيها "الصَّادقة"[6].
إذًا؛ لما وقعت الفتنة، بَدَأ تمحيصُ الرِّوايات، وبدأت معرفة الحديث المسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من غيره عند أئمة التَّابعين؛ ولكنَّ الجَمْعَ بدأ الشُّروع فيه حينما أَمَرَ عمر بن عبدالعزيز بجمع السُّنَّة وتدوينها؛ حيثُ كتب لبعض عُلماء عصره، وإلى عمرو بن حزم، وكان واليَه على المدينة: "أَنِ انْظُر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكْتُبه، فإنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العلم وذَهَابَ العُلماء"[7].
بعد أنْ صُنِّفت التصانيفُ المفردة قبل المرحلة التي كانت فيها الأحاديث مُنتشرة على ألسنة التابعين وفي صُحُفهم، وكانوا يَجتهدون في التَّعرُّف على صحيحها من سقيمها، في ضَوْء منهجٍ علمي صحيح رصين، يعتمد على سلسلة الإسناد، ونقد الرجال، والأخذ عمَّن اشتهر بالعدالة والضَّبط من الرِّجال - جاءت المرحلة التي دُوِّنَ فيها مُسند أبي حنيفة بأيدي تلامذته[8]، وموطأ مالك، ومسند الشافعي، وكان أوسعها وأجمعها مُسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، والذي رتَّبه على أسماء صَحابة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - حيثُ بدأ بمسند أبي بكر، ثُم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رضي الله عنهم أجمعين.
ثُمَّ كانت مرحلة الصِّحاح، ثُمَّ السنن التي أخرجت لنا الصَّحيحَيْن الجامعَيْن: صحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري المُسَمَّى بالجامع الصَّحيح، وصحيح الإمام مُسلم بن الحجاج القشيري النَّيسابوري، والسنن الأربعة الشهيرة: سنن ابن ماجه، والترمذي، والنسائي، وأبي داود.
وفي هذه المرحلة تطوَّر المنهج العلميُّ في تَحمُّل الحديث وأدائه تطوُّرًا عظيمًا، وكان لكل من الإمامين العظيمَيْن: البخاري، ومسلم - دَوْرُهما العظيم في هذا الشَّأن.
فهذا هو الإمامُ البخاري يشترط شرطَيْن لرواية الحديث المعنعن[9]، فيما يتَّصل باتِّصال السند - وهو أحدُ شُروط الحديث الصحيح -: أنْ يكونَ الرَّاوي معاصرًا لمن أخذ عنه بشكل يثبُت به السَّماع، وأنْ يثبُتَ اجتماعُهما أو سَماع أحدهما من الآخر، بينما يشترط الإمام مُسلم ثُبوتَ المُعاصرة، وذلك فضلاً عن الأحاديث التي صَرَّح فيها بالسَّماع؛ كقول الرَّاوي الثِّقة: حدَّثنا، وأخبرنا، حدثني وأخبرني، أو غير ذلك من صِيَغِ التحديث عن الثِّقَات.
ومنذ أنْ وُضع الصَّحيحان وتلقَّتْهما الأُمَّة بالقَبول، وصل علم تدقيق السُّنة إلى شأوٍ رفيع في نَقْد الرِّوايات ونقد الرِّجال، وصار علمُ الإسناد من خصائص الأُمَّة، وأصبح الإسنادُ من الدين.
ولقد رُوي أنَّ أحد الخلفاء قد أمر بقتل واحد من الكذَّابين من وضَّاعي الأحاديث، فقال هذا الكذَّاب للخليفة: وماذا تفعل بقتلي وقد وضعتُ على أُمَّة محمد كذا وكذا من الأحاديث؛ أحرِّم فيها الحلال، وأحلُّ فيها الحرام، فيقول له الخليفة: "إنَّ ابن المبارك وأمثاله من العلماء سيُنخِّلونها نخلاً".
ولقد قيل للإمام عبدالله بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة؟ كأنَّهم يسألون عن كيفيَّة بيانِ كذبها، فيقول: تعيشُ لها الجهابذة[10].
ومِن هُنا نستطيعُ إدراكَ كيف تطوَّر هذا المنهج الإسلامي الفريد في نَقْد المتون والأسانيد، وأصبح الإسنادُ من الدين، وكما قال بعض أهل العلم بالحديث: الإسنادُ من الدين، ولولا الإسنادُ لقال من شاء ما شاء[11].
وهكذا حفظ الله - تعالى - سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفظًا عظيمًا في الصُّدُور والسُّطُور، وفي فترة لاحقة عُنِي رجالُ الحديث وأئمَّتُه بوضع كُتُبٍ مُختلفة في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إمَّا بيانًا للمنهج العلميِّ في التَّصحيح والتضعيف، وهو ما أُطلِق عليه عِلمُ مصطلح الحديث، وإمَّا شرحًا لما وَرَدَ في الصحيحين وغيرهما من السنن، أو الأجزاء أو أحاديث الأحكام.
ورَغْم تعدُّد شروحِ الصحيحَين، إلاَّ أنَّ جُهُود العُلماء ظلَّت تتواصَل في التدقيق والتمحيص والشَّرح، حتَّى أُشبِعَت السنة النبوية تمحيصًا وتدقيقًا، ورواية وشرحًا واستنباطًا للأحكام.
ولقد كان للإمام ابن حجر العسقلاني، الذي جمع بين فنَّي الرِّواية والدراية، والفقه واستنباط الأحكام وتنقيح المسائل - فضلٌ عظيمٌ في العناية بالسنة وشرحها، وكان كتابه "فتح الباري في شرح صحيح البخاري" فتحًا عظيمًا في تاريخ العلم بالحديث وفقهه، كما كان لجهودِ الإمام السيوطي دَوْرٌ في إعادة ترتيب السُّنة وتمحيصها في جامِعَيْه: الصغير، والكبير، كما أصبحَ كتابُه "تدريب الراوي" عُمْدَةً في علم مصطلح الحديث، فضلاً عن ألفيَّته الشَّهيرة، التي جاءت بعد ألفيَّة الإمام العراقي؛ لتتضمَّن قواعدَ التَّحديث والنَّقد للمتون والأسانيد.
ثُمَّ إذا انتقلنا إلى العصر الحديث، وجدنا تلك الحملة المسعورة على السُّنة النبويَّة، التي شنَّها بعضُ مَن يتعاطَوْن العلم ممن تلقَّوْا دراساتِهم على أيدي المستشرقين.
ولقد تَمثَّلت تلك الحملة في عِدَّة اتِّجاهات منها:
- ردُّ أحاديثَ صحيحةٍ تلقَّتها الأُمَّة بالقَبُول، دون اعتبار للمنهج العلمي المتبع في القَبُول والردِّ؛ بل كل ما يطرحونه هو نوعٌ من الشَّغب الذي لا يدُلُّ على أصالة علميَّة أو التزام بمنهج.
- تشويه رجال السنة ونَقَلَتِها، بَدْءًا من الصَّحابة، كأبي هريرة - رضي الله عنه - وهو أحدُ المُكثرين السَّبعة من رواة الحديث من الصَّحابة.
- دَحْض أحاديث صحيحة، بدعوى أنَّها لا تُناسب العصر؛ بل وصل الأمرُ ببعضهم إلى رَدِّ السنة جملةً وتفصيلاً، وادِّعائهم أنَّهم في نفس الوقت يقبلون القُرآن باعتباره المصدرَ الثابت بالتواتُر، وبدعوى أنَّ القرآنَ يكفي عن السنة حتَّى أُطْلِقَ عليهم - أو أطلقوا على أنفسهم - "القرآنيُّون"، رغم أنَّ القرآن نفسَه يدحض هذا الفهم السَّقيم، إلى غير ذلك من صُوَر هذه الحملة المسعورة، وما عَلِمَ أولئك أنَّ السُّنَّة هي مُبيِّنةُ الكتاب، وشارحته، ومُفصلةُ مُجمله، ومُقيدة مطلقه، ومخصصة عامِّه.
ومِنْ هنا انبرى العُلماء المعاصرون يتصدَّون لأمثال هؤلاء، ولقد كان انتبهَ الفاروق عمر بن الخطاب لأمثال هؤلاء قديمًا، أولئك الذين يُريدون نَبْذَ السنة المطهرة بدعوى الاقتصار على القرآن، وذكر أنَّهم قد أعيتهم الأحاديثُ أن يحفظوها، كما روى الخطيبُ البغداديُّ في كتاب "الكفاية في علم الرِّواية" رواياتٍ عدَّةً، تردُّ قولَ هؤلاء الذين يرون الاقتصار على القُرآن ونَبْذ العمل بالسنة.
نذكر منها: رواية ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((عسى أحدكم يتكئ على فراشه يأكل مما أفاء الله عليه، فيُؤتى يُحدث عنِّي الأحاديث يقول: لا أرب لي فيها، عندنا كتابُ الله؛ ما نهاكم عنه فانتهوا، وما أمركم به فاتَّبعوه))[12].
بل إنَّه - صلى الله عليه وسلم - يُخبر ضمنيًّا بحفظ السنة، فهي التَّطبيق العمليُّ لكتاب الله - تعالى - ولا يشك في ذلك إلاَّ كافر أو مُلحد، أو جاهل أو أحمق، وكيف لا، وقد قال الحقُّ - جلَّ وعلا -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4]؟!
ويُؤكد هذه الحقيقة - حقيقة حفظ السنة - هذه الصَّحوة الإسلاميَّة المباركة، التي بدأ أبناؤها في كلِّ البلاد الإسلاميَّة وغيرها ينتبهون لأهميَّة السنة وحفظها والعمل بها، ومن فضل الله - تعالى - على هذه الأُمَّة أنْ قيَّض لها مَن يذب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويَردُّ عادية الغرب المادي في حملته المسعورة - متمثِّلة في كتابات المستشرقين - على السنة النبويَّة المطهرة، ومُتمثلة كذلك في - هذه الحملة المسعورة - في كتابات المستغربين ممن ينتسبون إلى الإسلام، يقولون: لئن رجعنا إلى سُنَّة النبي والعمل بها، فهذا يدخل بنا في طريق التراجُع والتخلُّف عن ركب العصر، وما لنا وما قيل قبل أربعة عشر قرنًا من الزَّمان؟!
بل إنَّ حملتهم تلك تأخذ ثوبَ المنهج العلمي، وتستعير ثوبَ الموضوعيَّة الرقيع، ولا يدركون أنَّهم ينطلقون - فيما يرونه منهجيَّة علميَّة - من غير منطلقاتنا - نحن المسلمين - حيث إنَّ منهجيَّة نقد ثبوت النُّصوص الإسلاميَّة يجب أن تنبع من منهجية علميَّة قرآنيَّة وإسلامية، لا تلك المرجعيَّة المستغربة، ولا يدرك هؤلاء أنَّ عِلْم الإسناد الإسلامي قد استطاعَ به بعضُ علماء الغرب الموضوعيِّين نقدَ نصوص كلٍّ من العهدين القديم والجديد، وبيَّنوا انقطاع سندها؛ مما يُرجِّح عدم الثِّقة بنسبتها إلى الأنبياء والرسل المنسوبة إليهم، بل دخل في كليهما نُصوص غيرهما من الأتباع والتلاميذ.
ويُقيِّض الله - تعالى - من علماء الأُمَّة في العصر الحديث مَن يُبيِّن زَيْفَ مناهج هؤلاء المستغربين، ومَن وراءهم من المستشرقين، ويدحض مفترياتِهم على السنة ورواتها من الصَّحابة والتَّابعين، ولقد واصلَ هؤلاء العلماء البحثَ والدَّرس والتنقيح؛ ليضيفوا جهودًا حميدة إلى جهود السَّابقين من العُلماء والأئمَّة.
بل إنَّ كلَّ جيل من أجيال هذه الأُمَّة سيوجد من أبنائه من يظلُّ يُواصل السير على طريق الذبِّ عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم.