❖☜❖ كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أميا ❖☞❖
تقرير مبدئي:
﴿ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]، والله أعلم بِمَن يستحقُّ أن يَرفع له ذِكْرَه، وجعل الرِّسالة ورَفْع الذِّكر كلاهما هبةً من الله ومَحْض فضل، فحين يمنحهما ربُّ العزة لرجل أمِّي، فهو - سبحانه وتعالى - يعلم يقينًا أنَّه جدير بتلك العطيَّة؛ لأنه مما تقرَّر شرعًا أنَّ التكليف ينقض الظَّهر، ويقلق الضمير، ولذلك كان الضَّمير في عالَم الوثنية لا قيمة له، والعالم الجاهلي يُناقض بقاء نقاء الفطرة التي هي أصل الخِلْقة، وأصل الخلقة معناه عدم اختزال أيِّ معارف وإدراكاتٍ سابقة، والمعارف مَنُوطة بالعقل، وعموم العقل البشريِّ مُحال عليه ألاَّ تشوبه شائبة من شوائب التلوُّث الثقافي، ناهيك عن بعض (الهرطقات) الدِّينية، وأن أي إنسان مثقَّف صاحب دين - بعيدًا عن المثقف المنحرف، أو صاحب الدِّين الملتوي - هو شبيه بالنَّحلة؛ يلتقط من الزُّهور أطيبها وأخبثَها، أحسنها وأردَأها، بل وأحيانًا تمتصُّ النحلة زهرةً مليئة بالسُّموم والأدواء، ثم تُخْرج - بعد عملية تصنيعٍ هائلة - ذلك العسلَ المصفَّى، ولذلك كان لا بدَّ للمثقف من أن يتقوَّل من عند نفسه لإخراج ما يتضمَّنه عقله من معارف وثقافات ومُدْرَكات، وإلاَّ مات حسرة وكَمدًا، أو طغى عليه إحساسٌ مرير بالدُّونية، وشعورٌ قاسٍ بأنه لا قيمة له؛ إذْ هو مجرَّد ناقل، حتَّى ولو كان ينقل عن الله؛ كالذي ﴿ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الأعراف: 175]؛ لأن نزعة التقوُّل بداخله تتأرجح وتتدافع، بل وتتألَّم، تريد أن تخرج لترى النُّور، وهذا مُشاهَد، وله في واقع الشَّرْع أمثلة كثيرة[1]، ولذلك كان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يحمل أيَّ علل حضاريَّة سابقة، أو أي موروثٍ ثقافي قديم يجعله دائمًا في حالة من الحنين إلى النَّهل من هذه الموروثات، ورغم ذلك قال الله: ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴾ [الحاقة: 44]، وهذا مِن أعجب ما يكون؛ لأنَّ الذي خلَقَه يعلم أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يختزل أيَّ [عقائد وإدراكات] سابقة، وبناءً عليه فإنه لن يتقوَّل، ومِن أين يأتي ذلك التقوُّل، ونفْسُه لا تنازعه إخراجَ أيِّ اختزال؟
ثم لا بدَّ أن نربط عدمَ التقوُّل بقوله - جلَّ شأنه -: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ﴾ [الضحى: 7][2]، ومِمَّا هو معلوم أن التقوُّل نتاج عقلي، فكانت الآية المقابِلةُ لهذا التقرير هي قول الله لنبيِّه: ﴿ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ ﴾ [الأحقاف: 8]، وتلك حقيقة غاية في الرَّوعة؛ لأنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - رضي بأن يكون مبلِّغًا عن ربِّ العزة، دون أن تتَنازعه أيُّ ثقافات خارجيَّة - مع مُلاحظة أنَّ فكرة عدم التقوُّل لم تَنْبع من ذلك الضَّلال؛ لأنه رُبَّما بعد الهُدى يَحْدث التقوُّل، ولم تنبع كذلك من كونه أميًّا، وإنما لم تنبع داخله لكونها سرَّ القدر في خَلْقِه - وبذلك لن تؤرِّقه فكرة أنه مجرد ناقلٍ ومبلِّغ، وهذا يدفعنا إلى أن نطرح سؤالاً هامًّا: ما جزاء مخالفة التبليغ؟ وما النَّتيجة المترتِّبة عليه؟
أولاً: قال الله تعالى: ﴿ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [الحاقة: 45 - 47]، "ومفاد هذا القول من الناحية التقريريَّة: أن محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - صادقٌ فيما أبلغهم، وأنه لو تقوَّل بعض الأقاويل التي لم يُوحَ بها إليه، لأخذه الله، فقتَله على هذا النحو الذي وصفَتْه الآيات، ولما كان هذا لم يقع فهو لا بُدَّ صادق؛ هذه هي القضية من الناحية التقريرية.
ولكن المشهد المتحرك الذي ورَد فيه هذا التقرير شيءٌ آخر، يُلقي ظلالاً بعيدة وراء المعنى التقريري، ظلالاً فيها رهبة وفيها هول، كما أنَّ فيها حركةً وفيها حياة، ووراءها إيحاءات وإيماءات وإيقاعات!
فيها حركة الأخذ باليمين، وقَطْع الوتين، وهي حركة عنيفة هائلة مروِّعة، حيَّة في الوقت ذاته، ووراءها الإيحاء بقدرة الله العظيمة، وعَجْزِ المخلوق البشري أمامها وضَعْفه؛ البشر أجمعين، كما أنَّ وراءها الإيماءَ إلى جدِّية هذا الأمر، التي لا تحتمل تسامحًا ولا مجاملة لأحد؛ كائنًا من كان، ولو كان هو محمَّدًا الكريم عند الله، الأثير الحبيب"[3].
ثانيًا: ﴿ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ﴾ [الأحقاف: 8]؛ لأن هذا الأمر الرهيب لا تَسامُح فيه ولا هوادة ولا لين.
لذا كان النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أميًّا لا يحمل أيَّ مؤثرات ثقافيَّة أو خلفيات دينيَّة أرضية؛ لأن هذا الأمِّي نفسه هو "الذي يَحْمل ذاكرة الزَّمن، ووعي الماضي، وواقع الحاضر، ومنطق المستقبل"[4]، إنَّها قضية جديرةٌ بالمناقشة؛ ولذلك كان الحوار الأول - الذي دار بين أمين وحي السماء وأمين وحي الأرض - يُناقش تلك المسألة:
• اقرأ؟!
• ((ما أنا بقارئ))!
هذا الحوار الفريد الذي يستهلُّ - بالنسبة لهذا العالم - العهد القرآني[5]، يوضِّح لنا حقيقة يعرفها محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن نفسه؛ ولذلك بدأها بقوله: ((ما أنا بقارئ))[6]، وهي ليست نفيًا للقراءة حال كونه يعرف القراءة ويُجيد الكتابة، ولكنه قصد أنه ممن لا يجيدون ولا يحسنون القراءة "فإجابته سلبيَّة خاشعة، ولكنها قاطعة"[7]، نابعة من كونه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعرف من نفسه أنه أُمِّي؛ فهو يؤمَر بالقراءة، ولكنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - "لا يتخيَّل نفسه قارئًا، وهو لهذا قد اضطرب وأجفل... لأن أمر الأمِّي بالقراءة سيُحْدِث خروجًا عن المألوف، يَبْدو لأوَّل وهلة غير معقول"[8].
وكونه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أميًّا لا يقرأ، ولا يكتب، من أعظم المُهيِّئات والدلائل على صدق نبوَّته؛ فهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي لم يقرأ كتابًا، ولم يكتب سطرًا، ولم يقل شعرًا، ولم يرتجل نثرًا، الناشئ في تلك الأمَّة الأمِّية - يأتي بأعظم دعوة، وبشريعة سماويَّة عادلة، تستأصل الفوضى الاجتماعيَّة، وتكفل لِمُعتنقيها السَّعادة الإنسانية الأبدية، وتعتقهم من رقِّ العبودية لغير ربِّهم - جلَّ جلاله - وكل ذلك من مهيِّئات النبوة، ومن دلائل صدقها.
وإننا نجد لعلماء الكلام أقوالاً عجيبة؛ فمنهم من قال: ها أنا ذا أموت على عقيدةِ أمِّي؛ لأن أمَّه أميَّة لا تعرف القراءة والكتابة؛ يعني بذلك أنَّ فطرتها لم تتغيَّر ولم تتدنس بقِيَم منحرفة.
وآخَر يقول: ها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور، رجعوا إلى عقيدة العجائز؛ لأنها فطرية.
وقفة مختصرة:
ولنا هنا مع الحديث الذي رواه الإمام مسلمٌ مَلْمح خاطف، وفيه: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعليٍّ في صلح الحديبية: ((اكتُب الشَّرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قاضى عليه محمدٌ رسول الله))، فقال له المشركون: لو نعلم أنَّك رسول الله تابعناك، ولكن اكتب: "محمد بن عبدالله"، فأمر عليًّا أن يَمْحاها، فقال عليٌّ: لا والله، لا أمحاها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: ((أرِني مكانها))، فأراه مكانها، فمحاها، وكتب: "ابن عبدالله"[9].
فالثابت في جميع الأخبار أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان أميًّا لا يعرف الكتابة والقراءة قبل نبوته وبعدها.
وبعيدًا عن الخلاف الدائر في تلك المسألة؛ نقول: إن الذي نميل إليه ويطمئنُّ له القلب أنَّ هذا من خصائصه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومن معجزاته؛ فإن الجاهل من الممكن أن يكتب وهذا معلومٌ مشاهَد، أما الأمي فلا يكتب مطلقًا، فهذا الحديث فيه دلالة على خرق نواميس العادة، وأنه لا يستحيل على الله شيء.
لفظة الأميَّة ومشتقاتها:
جاءتْ لفظة الأمية ومُشتقَّاتها في القرآن مرَّاتٍ ستًّا، وهي:
• قولُه تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [البقرة: 78].
• وقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 20].
• وقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾ [آل عمران: 75].
• وقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
• وقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158].
• وقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
والأمِّي: المنسوب إلى أمه، كأنه ما زال في حِجْر أمه لم يفارقه، فلذا هو لم يتعلَّم الكتابة والقراءة، وجائزٌ أن يكون منسوبًا إلى الأمَّة، فيكون بمعنى العامِّي المنسوب إلى العامَّة[10]، فالأميُّ المنسوب إلى الأمَّة الأمية التي هي على أصل ولادتها من أمهاتها، لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها[11]؛ لأنَّ الكتابة إنما تكون بالاستفادة والتعلُّم[12]، وهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يتلقَّ العلم، ولم يتعلَّم الكتابة، وقوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ ﴾ [آل عمران: 20]؛ الأُميُّون سموا بذلك لقلة من يقرأ ويكتب فيهم[13].
وقيل: نسب النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى مكة أُمِّ القرى؛ لأن الكتابة كانت عزيزةً في أهلها.
وقيل: للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أميٌّ؛ لأنه نُسِب إلى أُمِّ العرب؛ أيْ: أصلهم[14].
وقيل: الأمي هو الذي لم يتدنَّس بقِيَم منحرفة[15]؛ لأنه ما زال على أصل الخِلْقة، لذلك كانت الأميَّة صفة لازمة له - صلى الله عليه وسلم - وهي فيه شرَفٌ ونبلٌ وفضلٌ، وفي غيره نقصٌ وجهلٌ وذلَّةٌ، وهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - موصوف بها في الكتب السابقة؛ فقد جاء في التَّوراة كما أخرج أحمد والدارميُّ والبخاري - رحمهم الله - واللَّفظ له، عن عطاء بن يسارٍ، قال: لقيتُ عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قلت: أخبِرْني عن صفة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في التوراة، قال: أجَل، والله إنَّه لموصوفٌ في التوراة ببعض صفته في القرآن؛ يا أيُّها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحِرْزًا للأمِّيين[16].
والأميون هم العرَب باتفاق؛ "مَن كان يحسن الكتابة منهم، ومن لا يُحْسنها"[17]، وفي الحديث: ((إنا أمةٌ أميةٌ، لا نكتب ولا نحسب))[18]، وهذا حكم على المَجموع لا على الجميع؛ لأنَّ في العرب مَن كان يكتب؛ مثل كتَبة الوحي؛ الصدِّيق وعُمر وعلي، وغيرهم[19]، وربما سُمُّوا كذلك كما كان اليهود يقولون عن غيرهم من الأمم: إنهم - جوييم - أي: أُمَميون نسبة إلى الأمم؛ بوصفهم شعبَ الله المختار، وغيرهم هم الأمم[20].
والمقصود بالأمِّية في الحديث ليس الوصف، ولكن المقصود هو الاسم، فليس معنى الأمِّية - عدم الكتابة والحساب - هو المأخوذ في اللَّفظ، ولكن المأخوذ في اللفظ الاسميَّة، وبهذا يكون المعنى: نحن أمَّة سميت بالأمية؛ أيْ: لأنَّ غالب أهلها لا يكتبون ولا يحسبون في عدِّ الأهلَّة، ولو كان المراد الوصف لكان مخالفًا للواقع؛ لأنَّ الأمة بِأَسْرها لم تكن أمية - أيْ: كل أفرادها - في عصر من العصور، وهذا واضح لا يحتاج إلى تقرير[21].
وقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2] "فكونه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أميًّا بمعنى أنه لا يكتب؛ بيَّنَه قولُه تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48]، وبيَّن تعالى الحكمة في كونه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أميًّا مع أنه يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم بنفي الرَّيب عنه، كما كانوا يزعمون أنَّ ما جاء به - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الأحقاف: 17][22]؛ ولذلك لم تكن الرِّسالة في رجل عالِم، متبحِّر في النصرانية أو اليهوديَّة، على علم بما سبَق من أحوال العالَم والناس.
وللشيخ "محمد الغزالي" تعليق طريف حول هذه المسألة، يقول فيه: "وأظنُّ أن الله اختار نبيَّه الأخير من الأمِّيين؛ اختصارًا للمتاعب التي تنشأ لو أنَّه اختِير من آباء الكنيسة، فلو كان محمَّدٌ واحدًا من أولئك المحترفين، ثم اصطفَتْه العناية من بينهم ليؤدِّي رسالة الصلاح والإصلاح؛ لقال كاردينال عجوز: أنا أسَنُّ منه، ولقال ثانٍ: أنا أسبق منه في الخدمة، ولقال ثالثٌ: إن كان عالِمًا فليس إداريًّا، وإن كان إداريًّا فليس بعالِم مثلي، ولقال رابع: إنَّه يُخطئ في إقامة الطقوس، ولاتَّهمَه خامس بكذا، وسادسٌ بكيت، ثم يجتمع عليه المتنافرون ليشلُّوا دعوته، وليحبطوا رسالته، وقد كان الله قادرًا على أن يجعل عيسى واحدًا من علماء اليهود، ولكنه ترَك بيئتهم تغلي بأحقادهم، وبتنازعها على الرِّياسات والمطامع، ثم جعل كلامه على لسان طفلٍ يُنطقه الوحي وهو في المهد؛ لعلَّ الكهان الشيوخ يتَّعظون"[23].
التعريف الجامع للأمية:
الأمية معنى له تفسيران؛ تفسير نظري، وتفسير واقعي.
والتفسير النظري له جانبان:
• تفسير لغوي.
• تفسير اصطلاحي.
والتفسير الواقعي له جانبان:
• جانب خاصٌّ بالرسول خاصة.
• جانب خاص بأمة رسول الله.
وبعد هذا الإطار يبدأ التحديد.
التفسير النظري:
أولاً: التفسير اللغوي:
الأمية نسبة إلى الأمِّ، وهذه النسبة تعني الناحية المعرفيَّة الناشئة عند الابن من خلال علاقته بأمِّه.
وتتميَّز هذه المعرفة: بالفطرة، والبساطة، والحسِّية.
ثانيًا: التفسير الاصطلاحي:
وباعتبار أنَّ هذه الطبيعة المعرفيَّة لا يدخل فيها القراءة والكتابة؛ فإنَّ الإنسان الذي لا يقرأ ولا يكتب يكون أميًّا.
وهذا المعنى الاصطلاحي ناشئٌ عن أن القراءة والكتابة هي المرحلة التي يتَجاوز بها الابنُ مرحلة التلقِّي عن الأم.
ومن هنا جاء المعنى بأن الأُمِّية هي عدم القراءة والكتابة اصطلاحًا.
التفسير الواقعي:
أمَّا التفسير الخاصُّ برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فالرسول - عليه الصلاة والسلام - باعتبار معجزته ذات الطَّبيعة الحُجِّية العقلية العلميَّة، كان لا بدَّ أن يكون أميًّا لا يقرأ ولا يكتب؛ وذلك لإظهار الإعجاز بصورة كاملة، وبذلك أصبح المعنى الاصطلاحيُّ للأمية ينطبق على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو النبيُّ الذي منعه الله أيَّ معرفة قبل الوحي.
أما تفسير الأمية الخاص بالأمَّة، فله ثلاثة أبعاد:
البعد الأول: إطلاق اسم الأمِّية على الأمة؛ باعتبار انتسابها للنبِي الأمي.
ولذلك أثبت القرآن خضوع غير العرب من المسلمين لصفة الأمِّية باعتبار الانتساب للأمة الأمية، فقال تعالى: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الجمعة: 3].
روى البخاريُّ قال: حدثني عبدالعزيز بن عبدالله، قال: حدَّثني سليمان بن بلالٍ عن ثورٍ عن أبي الغيث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنا جلوسًا عند النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأنزلت عليه سورة الجمعة: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الجمعة: 3]، قال: قلتُ: مَن هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتَّى سأل ثلاثًا، وفينا سَلْمان الفارسيُّ، وضَع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يده على سلمان، ثم قال: ((لو كان الإيمان عند الثُّريا لناله رجالٌ - أو رجلٌ - مِن هؤلاء))[24].
ففي هذا الحديث دليلٌ على أن السُّورة مدنية، وعلى عموم بعثته إلى جميع النَّاس، وأنه فسَّر قوله تعالى: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ﴾ بفارس، ولهذا كتب كُتبَه إلى فارس والرُّوم وغيرهم من الأمم يدعوهم إلى الله - عز وجل - وإلى اتِّباع ما جاء به، ولهذا قال مُجاهدٌ وغيرُ واحدٍ في قوله تعالى: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ [الجمعة: 3] هم الأعاجم، وكلُّ من صدَّق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من غير العرب.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيديُّ، حدثنا الوليدُ بن مسلم، حدَّثنا أبو محمد عيسى بن موسى، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعديِّ، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ أصلابَ أصلابِ أصلاب رجالٍ ونساء من أمتي يدخلون الجنَّة بغير حساب))، ثم قال: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ [الجمعة: 3]؛ يعني بقيَّة من بقي من أمة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الجمعة: 3]؛ أيْ: ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره.
وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 4]؛ يعني ما أعطاه الله محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - من النبوَّة العظيمة وما خصَّ به أمته من بعثته.
البعد الثاني: هو عدم وجود أيِّ معرفة حضارية للأمة قبل البعثة، رغم معرفتها الثابتة للقراءة والكتابة.
البعد الثالث: هو المعنى الجامع للأمِّية بين الرسول والأمَّة؛ فهو معنى الأمية ومنهج الدَّعوة.
فالأمية في منهج الدعوة ليست مستوًى معرفيًّا، ولكنها أسلوبٌ دعوي، فنحن قوم أميُّون باعتبار أسلوب الدعوة الذي نراعي فيه كلَّ المستويات البشرية الثقافية والعلمية؛ ابتداءً من التفهيم بالإشارة.
قال الإمام البخاريُّ: حدَّثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الأسود بن قيسٍ، حدثنا سعيد بن عمرٍو أنَّه سمع ابنَ عمر - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه ذكَر رمضان، فضرب بيديه، فقال: ((إنَّا أمةٌ أميةٌ، لا نَكْتب ولا نَحْسب؛ الشهر هكذا، وهكذا))؛ يعني: مرةً تسعةً وعشرين، ومرةً ثلاثين".
وفي رواية مسلم: ثُمَّ عقد إبهامه في الثالثة، ((فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن أُغْمي عليكم فاقدروا له ثلاثين))، ومعنى ذلك أنَّ "الحد النِّهائي للبساطة هو مفهوم الأميَّة، والأمية تعني التسليم بحقائق هذا الدِّين بغير مُسلَّمات فكرية سابقة، وعندئذٍ يَخلو المتلقِّي من الخلط بين وحي السماء والثقافات الخاصَّة"[25].
وهذا الحدُّ يمثِّل الحد الأدنى للعقول التي نتعامل معها في دعوتنا، وهي نقل الرِّسالة كما هي باعتبارها فطرة، فلزم عند الأميِّين أن تكونَ طبيعة التلقِّي لهذا الدين من طبيعة الدين، وأن تكون طبيعة اعتناقه من طبيعة تلقِّيه، وأن تكون طبيعة الدَّعوة إليه من طبيعة اعتناقه، وهكذا"[26]؛ ولذلك كان من أهمِّ أمثلة التَّعالي الجاهليِّ بالثقافة المقابلة للأمية، كانت الثقافة اليونانيَّة والرُّومانية، وكانت هذه الثقافة هي بِذاتِها مادَّةَ اختلاط حقائق الدِّين المسيحي المُنَزَّلة من عند الله[27].
وقيل: إنَّ المعنى الصحيح الذي لا يصحُّ غيره: أنَّ معنى الأمية هنا أي: الرائدة القائدة، من الأمِّ بمعنى الرَّأس والمقدمة، ومنه أمُّ الكتاب، وأمُّ الشيء: أصْلُه، ولذلك نسب الجاهل بالكتابة والقراءة إلى أمِّه؛ أي: لأنه وُلِد منها، ولم يتعلَّم، ولكن الأمية هنا بمعنى الأمَّة الرئيسة القائدة، مثل قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ﴾ [الأعراف: 157]؛ أي: القائد المقدَّم الرئيس، والأمَّة: القدوة يؤتَمُّ به، وبهذا المعنى يتواءم الافتخار المفهوم من سياق الحديث مع المعنى المذكور[28]، فالله سبحانه ﴿ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]، وكان من مستلزمات حامل الرِّسالة أن يكون على خلُق عظيم، والسؤال: لماذا كان حامل الرِّسالة على خلقٍ عظيم؟ ولماذا لم يَقُل: على خلق كريم وهو الأَوْلى؟
--------------------------------------------------------------------------------
[1] منها: اليهود، والرَّجل الذي كان يكتب الوحي لرسول الله ثم تنصَّر، وأهل اليونان، وأهل فارس (الشِّيعة)، ومعظم الحضارات التي لم تلتَصِق بديانة، أو التصقت بديانةٍ محرَّفة.
[2] والذي نميل إليه في تفسير كلمة الضالِّ أنَّها بمعنى المُحبِّ؛ أي: وجدَك الله مُحبًّا للهداية، فأرشدك إليها.
[3] "في ظلال القرآن"، 6 / 3689.
[4] مقدمة كتاب: "مَن هو محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم"؟، محمد متولي الشعراوي، طبعة دار أخبار اليوم، ص9.
[5] "الظاهرة القرآنيَّة"، مالك بن نبي، ص 234.
[6] جزء من حديث صحيح أخرجه البخاري، باب بدء الوحي، رقم 3.
[7] "الظاهرة القرآنية"، ص 236.
[8] السابق، ص 235 - 237.
[9] رواه مسلمٌ 1783، والنَّسائي في "الكبرى"، وابن أبى شيبة، باب غزوة الحديبية.
[10] "أيسر التفاسير"، 1/ 51.
[11] "الجامع لأحكام القرآن" 2/ 9، و"فَتْح القدير"، 1/ 219.
[12] "في ظلال القرآن"، 6/ 3564.
[13] "أيسر التفاسير" 1/ 197.
[14] "الجامع" 7/ 284، وانظر: "المحيط في اللغة".
[15] مقدمة كتاب "من هو محمد - صلى الله عليه وسلم"، ص 9.
[16] من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص؛ البخاري في التفسير، والدَّارمي في المقدمة و"المسند"، 3/ 174.
[17] "فتح القدير"، للشوكاني، 5/ 299.
[18] متفق عليه، وأخرجه أبو داود 2319، والنسائي 2319، وابن ماجه 1657، والطيالسيُّ 1905، وابن أبي شيبة، وأحمد في "مسنده" 1594، 5017، وفي روايةٍ أخرى للبخاري" قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الشَّهر هكذا وهكذا))، وخنس الإبْهَامَ في الثالثة.
[19] "تتمة أضواء البيان"، 8/ 123.
[20] "في ظلال القرآن" 6/ 3564.
[21] أرشيف ملتقى أهل الحديث (4) 1/ 3874، 1/ 3882، المكتبة الشاملة، الإصدار الثاني.
[22] "تتمة أضواء البيان" 8/ 124.
[23] "جدد حياتك"، محمد الغزالي، ص 142 - 143.
[24] متفق عليه، وأخرجه الترمذيُّ (5/ 384، رقم 3261)، والنسائي 8278، وأحمد في "مُسنَدِه" 9406.
[25] "التصوُّر السياسي للحركة الإسلامية"، رفاعي سرور، ص 68.
[26] "في النفس والدعوة"، رفاعي سرور، ص 284 - 287 .
[27] "التصور السياسي"، ص 68.
[28] أرشيف ملتقى أهل الحديث (4) 1/ 3873، 1/ 3881.