°•.♥.•°( المعاني الحقيقية للهجرة )°•.♥.•°
أصبحنا في زمان نقرأ كلمة "الهجرة"، فنراها مجرَّد مغادرة أرض قفر مجدبة، إلى بلاد فيها حضارة، يجد فيها الإنسان جوًّا أفضل، وعيشًا أرغد، وحياة أسعد، وبات من الضَّروري أن نُعيد للكلِمة قيمتَها الحقيقيَّة، ومفهومها الأصيل، فقد أهْدرْناها خلال مسيرة طويلة من الجهل والتخلُّف، وتعالَوا بنا نقلِّب معًا في سيرة ابْنِ إسحاق التي شذَّبها ابن هشام، ففاقت الأخيرةُ الأصْلَ في شهرته، ولنقِف عند هذه الصورة التي تضع الدُّموع في العيون، وتملأ القلب بالانفعال، وتهز منا القلوب والأفئدة.
بنو عبدالأسد، وبنو المغيرة، إنَّهما من أهل الجزيرة العربيَّة قبل الإسلام، عرفهُما النَّاس فيمن عرفوا بالبأْس والقوَّة، واشتهروا بالجود والكرَم، وتقاربا، وتصاهرا قبل أن تُشْرِق الأرْض بنور ربِّها، وينزل عليْها الإسلام، ليطهِّرَها من العصبيَّة، والعنف، ولينزِعَ منها البغضاء والكراهية.
كان الخير يُصارع الشَّرَّ في فجْر الدَّعوة المحمديَّة، وإذا بالرَّجُل - ابن عبدالأسد - يُسْلم، ويشهد بأن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله، ويُدرك الرجُل - أبو سلمة - مدى ما ينتظِره من عذاب، ولكنَّه لا يبالي، فقد عمر قلبه بالإيمان، ومن ورائِه زوجته - أمُّ سلمة - تؤيِّده وتؤازره وتحاول جاهدة أن تدفع عنه الشَّرَّ، ويتعاون بنو عبدالأسد، وبنو المغيرة في إيذاء الرجُل، ويتفننون في خلْق ألْوان من الإرهاب، لعلَّه يرتدُّ، ويقلع عن عبادة الله، غيرَ أنَّ الرَّجُل مؤمنٌ بربِّه ورسوله، قادر على أن يَحتمِل ويصبر، رغْمَ كلِّ شيء.
ويأتيه ذاتَ صباح ما يتصوَّره الفرَج، أنَّ رسولَ الله - عليْه الصَّلاة والسَّلام - يسمح لِلمسلمين أن يُهاجروا من مكَّة إلى يثرِب، إنَّها بضعة أيَّام على راحلته، تتجاوز عشَرة أيَّام بقليل، فلا بأس من احتِمالها، والصبر عليْها، فذلِك أيْسر كثيرًا من البقاء في مكَّة: السياط تمزِّق جسْمَه، والرِّمال السَّاخنة تكْويه، وقد يجد في يثرب خيرًا يعوِّضه وزوجته وابنه "سلمة" عن الحياة القاسية التي يعيشونَها في مكَّة.
نعم، هي موطنه، وعشُّه، غير أنَّه مضطرٌّ لأنْ يُفارقَها؛ هربًا من الظلم والظلام اللَّذَين يظلِّلانها، ويملأانِ جنباتِها، ويحوِّلانها إلى سجْن رهيب، مليء بكلِّ صور التَّعذيب.
فلتكُن "الهجرة".
* * *
أعدَّ أبو سلمة راحلته، وسألَ زوْجَته أن ترتِّب أُمورَها؛ لكي يهجُرا معا مكَّة، والطفل الصغير سلمة أيضًا، ثلاثتُهم سيتركون كلَّ شيء: الأرض التي وُلِدوا فيها، وعاشوا عليْها، وأكلوا منها وشرِبوا، والتي فيها أهلُهم - بنو عبدالأسد، أعمام الصغير، وبنو المغيرة، أخواله - والتي فيها الأصْحاب والأصدقاء الذين عاشوا معهم وبينهم، إنَّهم سيودِّعون البيت، ومكان الرِّزْق، إلى يثرب التي لا يعرفون من شأنها إلاَّ أنَّها تفتح ذراعيْها لتستقبلَ المسلِمين المؤمنين في سلام وودٍّ، فالمضي إليْها لا يَزيدُ على أن يكون هربًا من واقع أليم.
وانتظر الرَّجل حلولَ الليل؛ ليكون ستْرًا له وستارًا يُخفيه عن القوم الظالمين، الذين كانوا يتربَّصون لِلمهاجرين، ويقطعون عليهم الطريق، ويَحولون بيْنهم وبين الانطِلاق إلى يثرب.
ولكنَّ قريشًا كانت تبثُّ العيون في كلِّ مكان، وكانت تتسمَّع الأنباء من رجالِها، فنمى إليْها خبر عزْم أبي سلمة على أن يهجُر مكَّة، ونقلت ذلك إلى بني عبدالأسد، وإلى بني المغيرة، وثار هؤلاء وأولئك، وقرَّروا أن يَحولوا بين أبي سلمة وبين مُغادرة مكَّة، وأن يمنعوه من الهجْرة، ولَم يبلغْه ذلك؛ لكنَّه ما أن وضع زوجتَه وابنَه فوق الرَّاحلة، ومضى يقودُها إلى خارج مكَّة، حتَّى تعرض له أهلها - رجال بني المغيرة - وأخذوا منه مقود البعير، وهم يقولون: هذه نفسُك غلبتَنا عليها، أرأيتَ صاحبتَنا هذه، علامَ نتركُك تسيرُ بها في البلاد؟! ولم يكُنْ في استِطاعة أبي سلمة أن يُقاوِمَهم، فهم كثيرون؛ لذلك نَجحوا في إناخة البعير، وانتزاعها من فوقه هي وابنها سلمة، وكان بنو عبدالأسد يقِفون عن قرب يشهدون الموقف دون تدخُّل من جانبهم، ولكنّهم أقبلوا على بني المغيرة يصرخون فيهم: والله لا نترُك ابنَنَا عندها إذْ نزعتُموها من صاحبنا.
وتشاجر الطَّرفان، وتجاذَبا الصَّغير حتَّى لقد خُلِعَت ذراعُه، وصرخاته تعلو، يستغيثُ بالأب والأمِّ، وما من مغيث، إلى أنِ انطلق به بنو عبدالأسد، ومضى بنو المغيرة بالزَّوجة المنتحبة على فراق ولدها وزوجها.
* * *
هاجر أبو سلمة وقد أسلم وجهه لله، وحطَّ رحالَه في يثرب، ولقِيه أبناؤُها أهلاً وسهلاً، وراح يعبُد الله، ويدْعوه أن ينصُر الإسلام والمُسلمين، ويسأله أن يَجمع شمله بزوجته وابنه، بيْنما بقي الصَّغير عند بني عبدالأسد مَحرومًا من أبيه المهاجر، ومن أمِّه التي سجنَها أهلُها بنو المغيرة، وحالوا بينها وبين زوجِها وابنها، وكانت أم سلمة تخْرُج كلَّ يوم، فتجلس في ذات البقْعة التي فارقتْ عندها الزَّوج والابنَ من الصَّباح، وتظلُّ تبكي حتَّى المساء، والنَّاس يمرُّون بها فتتقطَّع منهم نياط القلوب، وتهتزُّ الأفئدة.
ومضى عام كامل على لحظة الفراق، عام امتلأ ببكاء الأُم المتَّصل، ويأس الصَّغير في وحدتِه، وبِحزن دفينٍ من الأب على أُسْرته التي تمزَّق شمْلها، وتشتَّتت أفرادُها، ولا أحدَ يَدري كيف يُمكن لهذه المأساة أن تنتهي، ولا أحدَ يَستطيع أن يجِد للمُشكلة حلاًّ، مؤمنٌ بعيد عن ديارِه في يثْرِب، يتعبَّد ويصلِّي ويدعو، وطفْل محروم من أبيه وأمِّه، وزوجة حِيل بيْنها وبين زوْجِها وابنِها، ويستمرُّ ذلك عامًا كاملاً، وذلك ما تعْنيه حقًّا كلمة "الهجرة"، إنَّها تجرِبة إنسانيَّة شديدة القسْوة، بالغة الثَّمن، لا يقْدِر على مكابدتِها واحتمالِها غيرُ إنسانٍ مؤمنٍ بربِّه ورسوله.
ويمرُّ عامٌ، ويمرُّ واحد من بني المغيرة من أبناء عمِّ أم سلمة، ليراها في بكائِها كالثَّكالى، وما هي من الثَّكالى، ويحنُّ قلبُه، ويشعُر نَحوها بعطفٍ لا يستطيع أن يسكُت عليْه، فذهب إلى أهلِه ليصرُخ فيهم: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرَّقتم بيْنها وبيْن زوجِها وولدها، إلى متى هذا؟! وتبادل بنو المغيرة الرأْي، وكانوا قد ضاقوا بالمرأة وبكائها، فقالوا لها: الحقي بزوْجِك إن شئت.
ورقصتِ الفرْحة في قلْبِها، وزغْردت النِّسوة، وبعثتْ إلى بني عبدالأسد ترْجوهم وتتوسَّل إليْهم أن يُعيدوا إليْها ابنَها سلمة، وكان هؤلاء قد ضاقوا بالصَّغير وسؤاله - مع كلِّ شمس تُشْرِق أو تغْرُب - عن أمِّه وأبيه، ولهفته عليْهما وشوْقه إليْهما، فما كان من بني عبدالأسد إلا أن ردُّوا إليْها ولدها.
* * *
وبدأتْ رحلة "هجرة" أخرى:
أعدَّت الأم راحلةً لها، تحمِلُها وابنَها إلى يثرب، وما وجدت المِسْكينة أحدًا يصْحبها في هذه الرِّحْلة التي تُقطع فيها الصحاري والقفار، على مدى أحد عشر يومًا أو يزيد، ولكنَّها وولدها الصغير في شوقٍ ولهْفة إلى رجُلهما المؤمن الصَّابر؛ لذلك وضعتِ الصَّغير على حجْرها فوق الرَّاحلة، وانطلقتْ به وما معها أحدٌ من خلْق الله - على حدِّ تعبيرها - وقالتْ لنفسِها: أَتَبَلَّغ بِمن لقِيتُ حتَّى أقدَم على زوجي.
وعندما وصلتْ إلى التَّنعيم - وهو مكانٌ في أطراف مكَّة - لقِيت عثمان بن طلحة، فقال لها:
إلى أين يا بنت أبي أمية؟
قالت: أريد زوجي في المدينة.
فقال: أوما معك أحد؟
قالت: لا والله، إلا الله وابني هذا.
قال: واللهِ ما لكِ من مترك!
وأخذ بِخطام البعير، وانطلَق معها، ماضيًا إلى أن بلغ المدينة.
* * *
وتقول أم سلمة: والله ما صحبتُ رجُلاً من العرب قطُّ أرى أنَّه كان أكرمَ منه.
وتستقبل المدينةُ المهاجرةَ العظيمة أمَّ سلمة ووليدَها، ويستقبلها زوجُها بفرحة غامرة، تعوِّضهم جميعًا ما عانَوه خلال عام الفرْقة، وما لقيه الأبُ قبل ذلك من عنتٍ وعذاب، وعندما رحل الرَّجُل من الحياة أصبحتْ أمُّ سلمة واحدةً من أمَّهات المؤمنين، ووجدتْ في رسول الله نِعْمَ الزَّوج، ونِعْم الرجل، وعوَّضها الله خيرًا.
* * *
هذه واحدة من قصص "الهجرة"، رجل يُنْزع منه زوجه وابنه، وزوجة يؤخذ منها رجُلها وابنها، وطفل يُحمل قسرًا بعيدًا عن أبيه، ولكن يبقى الإيمان؛ فإنَّ هذه الأسرة الممزَّقة الشمل اجتمعت وعادتْ إليْها وحدتُها، وسارت تَحت لواء الإسلام، مع عشَرة آلاف مُقاتل مضوْا في العاشر من رمضان عام 8 هـ من المدينة، والجزيرة تتزلزَلُ تَحت قيادة رسول الله - عليه الصلاة والسلام - أعظمِ المهاجرين؛ لكي تسلم لهم مكَّة، وتفتح أبوابَها للقادمين المنتظرين الفاتحين؛ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]، وانطلقت من قلْب محمَّد بن عبدالله أعظم صيحة للحريَّة في تاريخ الإنسانية: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
هذا هو المعنى الحقيقي والأصيل لما نُطلق عليه "الهجرة"، أمَّا هؤلاء الذين نُنْفِق عليْهم دماءَنا وأموالَنا لكي يتعلَّموا، ثم يهْجُرونا بدلاً من أن يردُّوا الجميل، وعوضًا عن أداء الواجب - فهم هاربون من الميْدان وليسوا بِمهاجرين، لقد كانت الهجرة تجرِبة قاسية، وكانت إلى حين، وعاد المهاجرون يرفعون اللواء، ويُطْلِقون النِّداء: الله اكبر، وكان الله دائمًا أكبر، وكان بجانب المؤمنين، يثبِّت أقدامهم وينصرهم على القوم الظالمين.
((ولا هِجْرة بعد الفتح))؛ كما يقول الرَّسول الكريم - صلوات الله وسلامه عليه.