™®«۩۩« اقتداء الواعظ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في وقت المواعظ »۩۩»®™
المقـدِّمة
الحمد لله الذي هدى وأعطى، ولا أعظم عطاء من صبرٍ على الأذى والبلوى "وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ". [أخرجه البخاري، برقم: (1469)]، وما أعظم هذا الخير حينما يكون صبرا الدعوة في سبيل الله - تعالى - والصَّلاة والسَّلام على خير من صبر فظفر، وخالط النَّاس وللخير نشر، فجاءت دعوته مثالا لكل من ابتلي وأوذي في سبيل الدعوة إلى الله - سبحانه -، بل لم يلاقي أحد في دعوته مثل ما لاقى بأبي هو وأمي.
بين يديك - أخي القارئ - أسطر جمعتها تحت حديث يُعنى بالداعية - على وجه الخصوص، وخلطته بالناس، لا سيما في هذه الأزمان، والتي عزف بعض أهل الخير عن مخالطة الناس وطلب السلامة مما في هذه المجالس، وهذه النظرة وإن كانت سليمة في ظاهرها، إلا أنها مفضولة في هدي النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ؛ لقصورها على النفس، والداعية منار هدى ينشر الخير بين الناس، ولا يكون ذلك إلا بمخالطتهن، والصبر على آذاهم كما كان النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -، وإليك وقفات دعوية مع هذا المعنى من مشكاة النبوة:
حَدَّثنا أَبُو مُوسَى محمَّدُ بنُ المُثَنَّى، حدثنا ابنُ أَبي عَدِيٍ عن شُعْبَةَ عن سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ عن يَحْيَى بنِ وَثَّابٍ، عن شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "إِنَّ المُسْلِمَ إِذَا كَاَنَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبُر عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ ولا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ".
تخريج الحديث:
الحديث رواه الترمذي، كتاب: صفة القِيامَة والرقائق والورع عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -، باب مطلق معنون له بـ (باب) وهو آخر باب في الكتاب، حديث (2935)، وجوَّد إسناده: المناوي في تخريج أحاديث المصابيح ( 4/344 )، وصححه: الألباني في صحيح الترمذي رقم: ( 2507) - رحم الله الجميع -.
والحديث أخرجه أحمد في: مسند ابن عمر - رضي الله عنهما -، حديث (22715)، وأخرجه ابن ماجه في (كتاب: الفتن، باب: الصبر على البلاء، حديث: (4119) )، وحسَّن إسناده: ابن حجر في بلوغ المرام حديث: (451)، وفي فتح الباري حديث: (10/528)، وصحَّح إسناده: أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد (7/94)، وصححه الألباني في: صحيح الترمذي (2507)، وفي صحيح ابن ماجه (3273)، وفي السلسلة الصحيحة (939) - رحم الله الجميع -.
وجاء مصرحا باسم الراوي (وهو: ابن عمر - رضي الله عنهما -) في رواية عند أحمد وابن ماجه، ولفظ ابن ماجه:
"الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ".
راوي الحديث:
راوي الحديث جاء مبهماً في رواية الترمذي، ومصرَّحاً به في رواية أحمد وابن ماجه - رحم الله الجميع -، والراوي هو: أبو عبد الرحمن، عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي المدني، أحد رؤوس العلم والعمل والفقه، أسلم صغيرا مع أبيه، وأول مشاهده (الخندق)؛ لأنه كان قبلها صغيرا، قال مالك: بقي بن عمر بعد النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ستين سنة، يقدم عليه وفود الناس - يعني: لتلقي العلم - وأفتى الناس في الإسلام ستين سنة، وكُفَّ بصره في آخر حياته، له في كتب الحديث (2630) حديثاً، وكان شديد التحري والاحتياط في فتواه، وفي تتبعه لسنة وآثار النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، توفي في مكة سنة ثلاث وسبعين، وهو آخر من توفي بمكة من الصحابة[1].
شرح غريب الحديث:
(عن شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -): جاء مصرحا باسم هذا الشيخ في رواية أحمد وابن ماجة - كما تقدَّم -.
(يُخَالِطُ): قال المباركفوري - رحمه الله -: "(يُخَالِطُ النَّاسَ) أي: يساكنهم، ويقيم فيهم"[2].
(وَيَصْبُر عَلَى أَذَاهُمْ): الصبر: هو مصدر "صَبَر يصبر"، وهو مأخوذ من مادة (صبر)، التي تدل من حيث اللغة على ثلاثة معانٍ: الأول: الحبس، والثاني: أعالي الشيء، والثالث: جنس من الحجارة[3].
وفي الاصطلاح: ذكر له أهل العلم عدةَ تعريفات - وهي متقاربة - منها ما ذكره ابن حجر - رحمه الله - قال: والصبر: هو حبس النفس عن المكروه، وعقد اللسان عن الشكوى والمكابدة في تحمله، وانتظار الفرج.[4]، ومعناه في الحديث: قال المباركفوري - رحمه الله -: "(وَيَصْبُر عَلَى أَذَاهُمْ ) أي على ما يصل إليه منهم من الأذى."[5].
الفوائد الدعويَّة إجمالاً:
• من موضوعات الدعوة: الصبر على الأذى في طريق الدعوة.
• من صفات الداعية: الصبر على الأذى في طريق دعوته.
• من القواعد التي يراعيها الداعية في دعوته: مراعاة المصلحة والمفسدة في الخلطة.
• في الحديث: خيرية وثواب عظيم للداعية الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم.
الفوائد الدعويَّة بالتفصيل:
أولاً: من موضوعات الدعوة: الصبر على الأذى في طريق الدعوة.
(الصبر) من الموضوعات الدعوية التي يحتاجها الناس في واقع حياتهم كثيرا، فلو تأملت حال الناس لوجدت منهم المكلوم والمهموم والمريض، منهم من أصابته آفة في بدنه، ومنهم في ولده وأهله، ومنهم في ماله، وهكذا تتنوع الأقدار التي تلحق الناس، ومنهم من يحتاج إلى الصبر على الطاعة، ومنهم من يحتاج إلى الصبر عن المعصية؛ ولحاجة الناس للصبر جاء في الكتاب والسنة ما يدل على عظم من امتن الله - تعالى - عليه بهذا الخلق العظيم، ولعلك بتأمل هذين النصين تعلم ما لهذا الخلق من فضل جليل والنصوص في فضله كثيرة، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وروى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قول النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم -: "وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ" أخرجه البخاري في (كتاب: الزكاة، باب: "الاستعفاف عن المسألة"، ح (1469) )، وأخرجه مسلم في: (كتاب: الزكاة، باب: "فضل التعفف والصبر"، حديث (1053)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مبيناً أهمية الصبر: "قد ذكر الله الصبر في كتابه في أكثرَ من تسعين موضعًا، وقرنه بالصلاة في قوله: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45]، وجعل الإمامة في الدين موروثةً عن الصبر واليقين بقوله: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]، فإن الدِّين كلَّه علمٌ بالحق وعمل به، والعمل به لا بد فيه من الصبر؛ بل وطلبُ علمه يحتاج إلى صبر"[6].
ولكثرة النصوص الآمرة بالصبر؛ اختلف أهل العلم في حكمه، فقد أمر الله - عز وجل - بالصبر؛ فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]،ونهى عن ضدِّه، فقال - تعالى - لنبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ﴾ [الأحقاف: 35]، فـ: (العجلة) ضد: الصبر.
وأمَّا حكمه، فقد ذهب ابن القيَّم - رحمه الله - إلى وجوبه، ونقل الإجماعَ على ذلك، فقال: "وهو واجب بإجماع الأمة" [7]، ولعله - رحمه الله - أراد الصبر على الأمور الواجبة، أو عن الأمور المحرَّمة.
ومن أهل العلم من ذهب إلى التفصيل، وما أجمل ما قاله الإمام الغزالي - رحمه الله -: "واعلم أن الصبر أيضًا ينقسم باعتبار حكمه إلى: فرض، ومستحبٍّ، ومكروه، ومحرَّم ؛ فالصبر عن المحظورات (فرض)، والصبر على المكاره (مستحب)، والصبر على الأذى المحظور (محظور)، كمن يُقصد حريمه بشهوة محظورة، فتهيج غيرتُه، فيصبر عن إظهار الغيرة ويسكت عما يجري على أهله، فهذا الصبر محرَّم"[8].
فالصبر على أداء الصلوات المكتوبات، هذا صبرٌ واجب، لكن الصبر على إسباغ الوضوء على المكاره حال برودة الماء أو حرارته مستحبٌّ، وكذلك الصبر على مقابلة السيئة بمثلها، فالله - عز وجل - أجاز لمن عوقب بسيئة أن يعاقِب بمثلها؛ لكن العفو - وسماه صبرًا - خيرٌ منه، فهذا صبر مستحب؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126].
وللصبر أنواع:
قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤدِّيها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يسخطها "[9].
• فالصبر على الطاعات: كالصبر على الصلوات فرضًا ونفلاً، والصيام، وقراءة القرآن، وغيرها من أنواع الطاعات.
• والصبر على المعاصي: كالصبر على الشهوات المحرَّمة، كالزنا، والنظر الحرام، والأكل الحرام، وغيرها من أنواع المعاصي.
• والصبر على الأقدار والأقضية: كالصبر على الابتلاء والمصائب والأوجاع، وفوات بعض المصالح، وحصول بعض المكاره المقدَّرة.
ثانياً: من صفات الداعية: الصبر على الأذى في طريق دعوته.
فالداعي يحتاج إلى هذه المرتبة؛ لاختلاف حال المدعوين وتقبُّلهم لِما يقول، وربما ناله منهم أذى وهمزٌ ولمز، وافتراء واستهزاء، وفي سنة النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حينما دعاهم للتوحيد، ما يدلُّ على ذلك؛ لأن الداعيَ يدعو الناس إلى ما يخالف أهواءهم وشهواتِهم، فمن الطبيعي أن أكثر الناس سيخالف هذا المنهج، وربما حاربه ؛ فيحتاج الداعي للصبر حينئذٍ.
والصبر على ما يلاقيه الداعي في دعوته هو منهج الأنبياء - عليهم السلام - أيضًا ؛ قال الله - تعالى - تسليةً لنبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتبيانًا له أن هذا ما لاقاه الأنبياء قبله: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [الأنعام: 34]، وأمره بالاقتداء بهم، فقال: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ﴾ [الأحقاف: 35].
وقال لقمان الحكيم في وصيته لابنه، مبيِّنًا له أن الدعوة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحتاج إلى صبر: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17].
فإن قيل: على ماذا يصبر الداعي في دعوته؟
فالجواب: أنه يصبر على عدَّة أمور، منها:
1. الصبر على إعراض الخَلْق عن دعوته:
وهذا هو دأب الأنبياء؛ قال نوح - عليه السلام - مناجيًا ربَّه: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ [نوح: 5 - 7].
2. الصبر على أذى المدعوين بأقوالهم وأفعالهم:
ولنا في رسولنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعظمُ أسوةٍ، فقد قالوا عنه: ساحر وكذاب ومجنون وشاعر، وضربوه وطردوه، فواجه منهم أصنافَ الأذى المعنوي والحسي، وهو يصبر على أذاهم، ولما طرده أهلُ الطائف، خرج وهو مهموم، وحينما ناداه ملك الجبال - عليه السلام - بـ: (قرن الثعالب) وأخبره أن الله - تعالى - يبعثه إليه، وقال له ملك الجبال: "إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبين"، وهما:جبلان محيطان بأهل الطائف، قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بلسان الصابر المشفق عليهم: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" الحديث متفق عليه، عن عائشة- رضي الله عنها-.
وفي "صحيح البخاري": قال ابن مسعود: كأني أنظر إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يحكي نبيًّا من الأنبياء - عليهم السلام - ضربه قومُه حتى أدمَوْه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ﴿ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
والأدلة في هذا الباب كثيرة، تدل على صبرهم على ما يلاقونه من أذى.
3. الصبر على طول طريق الدعوة، وعدم استبطاء النصر والتأييد من الله - تعالى -:
قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]، وقال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [يوسف: 110].
فعلى الداعية أن يصبر أيضًا على طول الطريق، ويستشعر أنه على طريق الحق، وأن النصر قد يتأخر لحكمة أرادها الله - تعالى -.
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: " أن يكون صابراً على الدعوة أي مثابراً عليها لا يقطعها ولا يمل، بل يكون مستمراً في دعوته إلى الله بقدر المستطاع وفي المجالات التي تكون الدعوة فيها أنفع وأولى وأبلغ، وليصبر على الدعوة ولا يمل، فإن الإنسان إذا طرقه الملل استحسر وترك، ولكن إذا كان مثابراً على دعوته فإنه ينال أجر الصابرين من وجه، وتكون له العاقبة من وجه آخر، واستمع إلى قول الله عز وجل مخاطباً نبيه: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَاۖ فَاصْبِرْۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ هود: 49]"[10].
ثالثاً: من القواعد التي يراعيها الداعية في دعوته: مراعاة المصلحة والمفسدة في الخلطة.
وهذه القاعدة ظاهرة البيان في الحديث؛ لأن النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم- إنما فضَّل المؤمن المخالط للناس والصابر على أذاهم على من لا يصبر على أذاهم؛ لِما في مخالطتهم من مصلحة متحققة من إرشادهم للخير وكفهم عن الشر، حتى لو قال الداعية أنّ العزلة أكثر راحة لقلبه، وأبعد عن كل ما يلهي ويقود للغو مما يجري بين الناس؛ لأن المصلحة تقتضي أن يخالطهم، وليعلم أن في خلطتهم أذى فيصبر عليهم؛ كل ذلك طلباً للنفع المتعدي، وهذا الحديث أصل فيمن فضَّل الخلطة على العزلة.
ولذا نشأ الخلاف: هل الخلطة أفضل أو العزلة؟
لأهل العلم خلاف يطول في هذه المسألة، ومجمل الخلاف أن يقال: هذه المسألة على قسمين:
القسم الأول: التفضيل حال الفتنة.
القسم الثاني: التفضيل في غير فتنة.
القسم الأول: التفضيل حال الفتنة، والخوف من ضرر المخالطة.
القول الأول: تفضيل العزلة على الخلطة.
واستدلوا: بما رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّه قال: قال رسول اللّه - صلَّى الله عليه وسلّم -: " يُوشِكُ أن يكونَ خَيْرَ مالِ المُسْلمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ، وَمَواقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينهِ مِنَ الفِتَن ". [أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب من الدِّين الفرار من الفتن، حديث رقم: (19)].
والقول الثاني: تفضيل الخلطة على العزلة.
واستدلوا: بالحديث السابق، وقول النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "إِنَّ المُسْلِمَ إِذَا كَاَنَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبُر عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ ولا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ" [سبق تخريجه].
والأظهر - والله أعلم -: التفريق، وأن المسألة تختلف باختلاف الحال والمكان والزمان.
فمن كان ذا نفع للناس عند المخالطة فالخُلطة خير له، وإن كان ممن يتأثر بالخُلطة ويخاف على دينه فالعزلة خير له، وكذا يقال في اختلاف الزمان والمكان، فإن كان باختلاف أحدهما يخاف على دينه فيما لو خالط الناس فالعزلة خير له، وإلا فالخلطة أفضل مع الصبر على أذى الناس وتوجيههم للخير وكفهم عن الشر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبهذا تجتمع النصوص والله - تعالى - أعلم وأحكم.
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفًا على دينه، كما جاء في الحديث: "يُوشِكُ أن يكونَ خَيْرَ مالِ المُسْلمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ، وَمَواقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينهِ مِنَ الفِتَن"، ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها؛ لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع"[11].
قال فضيلة الشيخ: ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -: "واعلم أن الأفضل هو المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، هذا أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، ولكن أحيانا تحصل أمور تكون العزلة فيها خيرا من الاختلاط بالناس، من ذلك: إذا خاف الإنسان على نفسه فتنة، مثل: أن يكون في بلد يُطالَب فيها بأن ينحرف عن دينه، أو يدعو إلى بدعة، أو يرى الفسوق الكثير فيها، أو يخشى على نفسه من الفواحش،فهنا تكون العزلة خيرا له.
ولهذا أمر الإنسان أن يهاجر من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، ومن بلد الفسوق إلى بلد الاستقامة فكذلك إذا تغير الناس والزمان، ولهذا صح عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: " يُوشِكُ أن يكونَ خَيْرَ مالِ المُسْلمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ، وَمَواقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينهِ مِنَ الفِتَن"، فهذا هو التقسيم تكون العزلة هي الخير إن كان في الاختلاط شر وفتنة في الدين، وإلا فالأفضل أن الاختلاط هو الخير، يختلط الإنسان مع الناس فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يدعو إلى حق يبين السنة للناس فهذا خير، لكن إذا عجز عن الصبر وكثرت الفتن، فالعزلة خير ولو أن يعبد الله على رأس جبل أو في قعر واد"[12].
القسم الثاني: التفضيل في غير فتنة.
والمقصود به: خُلطة الناس في الأمور المباحة، والتي تكون في غير معصية، فهل الأفضل حينئذ الخُلطة؟
في مثل هذه الحال - وهي حال فيما لو خالط الناس - فإنه لن ينفعهم بشيء ولن يتضرر من مخالطتهم، فالناس على قسمين:
الأول: صاحب العلم أو العبادة: فالأفضل في حقه: الانكفاف عن الناس، واستغلال العمر بالنفع بما يعود في الآخرة، ولا تكون خلطته إلا لنفعهم.
والثاني: عوام الناس: فالعزلة لهم ليست محمودة كما ذكر أهل العلم؛ لِما في انعزالهم انعزال عن الخير، واستحواذ الشيطان عليهم فهو منهم في هذه الحال أمكن، ولذا لا تستحب منهم عزلة؛ لأنهم لن يستغلوا أوقاتهم إن اعتزلوا بل سيستحوذ عليهم الشيطان، ولأنه لو اعتزل لن ينشغل بما ينفع بخلاف الذي تفقه في الدين، وسلك طريق العلم.
قال الخطابي - رحمه الله -: " قال أبو سليمان: فالعزلة إنما تنفع العلماء العقلاء وهي من أضر شيء على الجهال وقد روينا عن إبراهيم أنه قال لمغيرة: تفقه ثم اعتزل"[13].
وقال القاسمي - رحمه الله -: "وبالجملة: فلا تستحب العزلة إلا لمستغرق الأوقات في علم، بحيث لو خالطه الناس لضاعت أوقاته أوكثرت آفاته"[14].
وقال ابن حجر - رحمه الله -: "والمطلوب إنما هو ترك فضول الصحبة؛ لِما في ذلك من شغل البال، وتضييع الوقت عن المهمات، ويجعل الاجتماع بمنزلة الاحتياج إلى الغداء والعشاء، فيقتصر منه على ما لا بد له منه فهو أروح للبدن والقلب - والله أعلم -"[15].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وأمَّا اعتزال الناس في فضول المباحات وما لا ينفع وذلك بالزهد فيه فهو مستحب، وقد قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيه بصره وسمعه. وإذا أراد الإنسان تحقيق علم أو عمل فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة فهذا حق كما في الصحيحين: أن النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - سئل: أي الناس أفضل ؟ قال: "رَجُلٌ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ إلَيْهَا يَتَتَبَّعُ الْمَوْتَ مَظَانَّهُ، وَرَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَدَعُ النَّاسَ إلَّا مِنْ خَيْرٍ"[16].
قال ابن القيِّم - رحمه الله - في بدائع الفوئد: "المحب يهرب إلى العزلة والخلوة بمحبوبة والتعلق بذكره كهرب الحوت إلى الماء والطفل إلى أمه"[17].
وجُملة الجواب: أنَّ العزلة في القسم الثاني إنما هي العزلة من أجل الانتفاع واستغلال العمر بالطاعات، فتكون خلطته لإفادة الناس، وعزلته لتغذية قلبه وعقله، وهذه العزلة إنما تكون لمن يستغل وقته إذا انفرد، أمَّا عوام الناس الذين يتضررون بانعزالهم فليست في حقهم مستحبة - كما تقدَّم -.
وما أجمل ما قاله العلامة ابن القيِّم - رحمه الله - في كتابه البديع: [بدائع الفوئد]، في بيان فضول المخالطة حيث قال:"ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.
أحدها: من مخالطته كـ: (الغذاء)، لا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحم، وهم: العلماء بالله - تعالى - وأمره، ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها، الناصحون لله - تعالى - ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله.
القسم الثاني: من مخالطته كـ: (الدواء) يحتاج إليه عند المرض، فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات، والمشاركات والاستشارة، والعلاج للأدواء، ونحوها فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم الثالث: وهم من مخالطته كـ: ( الداء ) على اختلاف مراتبه، وأنواعه، وقوته، وضعفه، فمنهم: من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما، فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف، ومنهم: من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربا عليك، فإذا فارقك سكن الألم، ومنهم: من مخالطته حمى الروح، وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها، بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به فهو يحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض، ويذكر عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال: "ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر"، ورأيت يوما عند شيخنا - قدس الله روحه - رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله، وقد ضعف القوى عن حمله فالتفت إلي، وقال: "مجالسة الثقيل حمى الربع "، ثم قال: "لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة" أو كما قال، وبالجملة: فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف، حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا.
القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله، ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لأكله ترياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله، وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها"[18].
رابعاً: الخيرية والفضل العظيم للداعية الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم.
دلّ الحديث برواياته على فضل مخالطة الناس؛ لإعانتهم على الخير، وكفهم عن الشر، والصبر على أذاهم، ففي لفظ الترمذي ما يدل على خيَّريته، قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنه: "خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ ولا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ "، وفي لفظ أحمد، وابن ماجه ما يدل على عِظَم أجره حيث قال عنه النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: " أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ "، ونيل الخيرية، وعِظَم الأجر فيه دلالة على الفضل الكبير الذي يناله الداعية من تكبُّد ذلك، والصبر عليه، ولابد للداعية أن يراعي في هذا ما تقدَّم ذكره من مصلحة المخالطة من مفسدتها، فالخلطة تختلف باختلاف الأحوال، والأزمان، والأماكن؛ لينال الفضل والأجر في خلطته، فقد تكون الخلطة مفسدة للشخص لا تناسبه كمن إذا خالط تأثر بمن خالطهم وربما فسد دينه، بخلاف من إذا خالط نشر خيرا وكف عن شر.
يقول المباركفوري - رحمه الله -: " قال في السبل: في الحديث أفضلية من يخالط الناس مخالطة يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحسن معاملتهم، فإنه أفضل من الذي يعتزلهم، ولا يصبر على المخالطة، والأحوال تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان ولكل حال مقال.
ومن رجح العزلة فله على فضلها أدلة، وقد استوفاها الغزالي في الإحياء، وغيره"[19].
-----------------------------------------------------
[1] انظر: تذكرة الحفاظ (1/37)، والإصابة في تمييز الصحابة (6/167)، والإعلام للزركلي (4/246)، وبواسطته انظر صفة الصفوة (1/228).
[2] انظر: تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة، تحت باب مطلق معنون له بـ (باب)، وهو آخر باب في الكتاب.
[3] انظر لسان العرب لابن منظور، مادة (صبر).
[4] انظر: الفتح، لابن حجر، حديث (6470).
[5] انظر: المرجع السابق في تحفة الأحوذي.
[6] انظر: البصائر ؛ لأبي حيان ( 3/376).
[7] انظر: مدارج السالكين، لابن االقيم: ( 2/174).
[8] انظر: الإحياء، للغزالي (4/69 ).
[9] انظر: المرجع السابق (1/165).
[10] زاد الداعية إلى الله تعالى، لسماحة الشيخ العلامة / محمد ابن عثيمين- رحمه الله تعالى -، دار الثريا، صـ ( 11 ).
[11] انظر: تفسيره لقوله تعالى: ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10].
[12] انظر: شرح رياض الصالحين، لفضيلة شيخنا : ابن عثيمين - رحمه الله - ، حديث: " يُوشِكُ أن يكونَ خَيْرَ مالِ المُسْلمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ، وَمَواقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينهِ مِنَ الفِتَن"
[13] انظر: كتاب العزلة، للخطابي صـ (225).
[14] انظر: موعظة المؤمنين، للقاسمي (2/164 ).
[15] انظر: فتح الباري، لابن حجر (11/ 332).
[16] انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية ( 10/404 ).
[17] انظر: بدائع الفوائد، لابن القيم ( 3 / 218 ).
[18] بدائع الفوائد (3 / 218).
ولشيخ الإسلام - رحمه الله - كلام في الخلطة والعزلة عامة في [مجموع الفتاوى: الجزء العاشر] حيث قال: " فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ الْأَفْضَلُ لِلسَّالِكِ الْعُزْلَةُ أَوْ الْخُلْطَةُ؟
فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا إمَّا نِزَاعًا كُلِّيًّا وَإِمَّا حَالِيًّا. فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ الْخُلْطَةَ تَارَةً تَكُونُ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ قَدْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْمُخَالَطَةِ تَارَةً وَبِالِانْفِرَادِ تَارَةً.
وَجِمَاعُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُخَالَطَةَ إنْ كَانَ فِيهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَهِيَ مَأْمُورٌ بِهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَالِاخْتِلَاطُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي جِنْسِ الْعِبَادَاتِ: كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَاطُ بِهِمْ فِي الْحَجِّ، وَفِي غَزْوِ الْكُفَّارِ، وَالْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، وَإِنْ كَانَ أَئِمَّةُ ذَلِكَ فُجَّارًا، وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ فُجَّارٌ، وَكَذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ الَّذِي يَزْدَادُ الْعَبْدُ بِهِ إيمَانًا: إمَّا لِانْتِفَاعِهِ بِهِ، وَإِمَّا لِنَفْعِهِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ أَوْقَاتٍ يَنْفَرِدُ بِهَا بِنَفْسِهِ فِي دُعَائِهِ، وَذِكْرِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَتَفَكُّرِهِ، وَمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ، وَإِصْلَاحِ قَلْبِهِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ فَهَذِهِ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى انْفِرَادِهِ بِنَفْسِهِ؛ إمَّا فِي بَيْتِهِ، كَمَا قَالَ طاوس: نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ يَكُفُّ فِيهَا بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ. وَإِمَّا فِي غَيْرِ بَيْتِهِ، فَاخْتِيَارُ الْمُخَالَطَةِ مُطْلَقًا خَطَأٌ وَاخْتِيَارُ الِانْفِرَادِ مُطْلَقًا خَطَأٌ. وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْ هَذَا وَهَذَا وَمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ خَاصٍّ كَمَا تَقَدَّمَ".
وإتماماً للمسألة فقد جاء في جاء في الموسوعة الكويتية في مادة (عزلة):
حُكْمُ الْعُزْلَةِ:
ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْعُزْلَةِ عِنْدَ (ظُهُورِ الْفِتَنِ وَفَسَادِ النَّاسِ) - إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الإِْنْسَانُ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِزَالَةِ الْفِتْنَةِ - فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي إِزَالَتِهَا بِحَسَبِ الْحَال وَالإِْمْكَانِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْفِتْنَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْعُزْلَةِ وَالاِخْتِلاَطِ: قَال النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الاِخْتِلاَطَ بِالنَّاسِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ - أَيْ مِنْ شُهُودِ خَيْرِهِمْ دُونَ شَرِّهِمْ، وَسَلاَمَتِهِمْ مِنْ شَرِّهِ - هُوَ الْمُخْتَارُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَائِرُ الأَْنْبِيَاءِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ-، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْيَارِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْمُخَالَطَةِ: بِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَمَرَ بِالاِجْتِمَاعِ، وَحَضَّ عَلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ الاِفْتِرَاقِ وَحَذَّرَ مِنْهُ، فَقَال تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [ آل عمران:103]، وَأَعْظَمُ الْمِنَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ مِنْهُمْ فَقَال عَزَّ وَجَل: ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأْرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ [ الأنفال: 63]، وَقَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [آل عمران:105].
وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ نَبَوِيَّةٍ مِنْهَا: قَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُمْ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ".
وَقَالُوا: إِنَّ الْمُخَالَطَةَ فِيهَا اكْتِسَابُ الْفَوَائِدِ، وَشُهُودُ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، وَتَكْثِيرُ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيصَال الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ وَلَوْ بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَإِفْشَاءُ السَّلاَمِ، وَالأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَإِعَانَةُ الْمُحْتَاجِ، وَحُضُورُ جَمَاعَاتِهِمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُل أَحَدٍ.
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ وَالْعَيْنِيُّ عَنْ قَوْمٍ: تَفْضِيل الْعُزْلَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ السَّلاَمَةِ الْمُحَقَّقَةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِوَظَائِفِ الْعِبَادَةِ الَّتِي تَلْزَمُهُ وَمَا يُكَلَّفُ بِهِ، قَال الْكِرْمَانِيُّ: الْمُخْتَارُ فِي عَصْرِنَا تَفْضِيل الاِنْعِزَال لِنُدْرَةِ خُلُوِّ الْمَحَافِل عَنِ الْمَعَاصِي.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ﴾ [مريم:48]، وَبِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَال: يَا رَسُول اللَّهِ مَا النَّجَاةُ ؟ قَال: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ".
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ: حُكْمَ الْعُزْلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَرَجَّحُ فِي حَقِّهِ أَحَدُهُمَا، وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الْخَطَّابِيِّ: أَنَّ الْعُزْلَةَ وَالاِخْتِلاَطَ يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلاَفِ مُتَعَلِّقَاتِهِمَا، فَتُحْمَل الأَْدِلَّةُ الْوَارِدَةُ فِي الْحَضِّ عَلَى الاِجْتِمَاعِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِطَاعَةِ الأَْئِمَّةِ وَأُمُورِ الدِّينِ، وَعَكْسُهَا فِي عَكْسِهِ، وَأَمَّا الاِجْتِمَاعُ وَالاِفْتِرَاقُ بِالأَْبْدَانِ، فَمَنْ عَرَفَ الاِكْتِفَاءَ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ مَعَاشِهِ وَمُحَافَظَةِ دِينِهِ، فَالأَْوْلَى لَهُ الاِنْكِفَافُ عَنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ بِشَرْطِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالسَّلاَمِ وَالرَّدِّ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِيَادَةِ وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمَطْلُوبُ إِنَّمَا هُوَ: تَرْكُ فُضُول الصُّحْبَةِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شُغْل الْبَال، وَتَضْيِيعِ الْوَقْتِ عَنِ الْمُهِمَّاتِ، وَيُجْعَل الاِجْتِمَاعُ بِمَنْزِلَةِ الاِحْتِيَاجِ إِلَى الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ، فَيَقْتَصِرُ مِنْهُ عَلَى مَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَهُوَ رُوحُ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ.
قَال الْغَزَالِيُّ: إِنْ وَجَدْتَ جَلِيسًا يُذَكِّرُكَ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ وَسِيرَتُهُ فَالْزَمْهُ وَلاَ تُفَارِقْهُ، وَاغْتَنِمْهُ وَلاَ تَسْتَحْقِرْهُ، فَإِنَّهَا غَنِيمَةُ الْمُؤْمِنِ وَضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، وَتَحَقَّقَ أَنَّ الْجَلِيسَ الصَّالِحَ خَيْرٌ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَأَنَّ الْوَحْدَةَ خَيْرٌ مِنَ الْجَلِيسِ السُّوءِ.
آدَابُ الْعُزْلَةِ:
يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ - إِذَا آثَرَ الْعُزْلَةَ - أَنْ يَعْتَقِدَ بِاعْتِزَالِهِ عَنِ الْخَلْقِ سَلاَمَةَ النَّاسِ مِنْ شَرِّهِ، وَلاَ يَقْصِدَ سَلاَمَتَهُ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ، فَإِنَّ الأَْوَّل: نَتِيجَةُ اسْتِصْغَارِ نَفْسِهِ، وَالثَّانِيَ: شُهُودُ مَزِيَّتِهِ عَلَى الْخَلْقِ، وَمَنِ اسْتَصْغَرَ نَفْسَهُ فَهُوَ مُتَوَاضِعٌ، وَمَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ مَزِيَّةً عَلَى أَحَدٍ فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ، وَأَنْ يَكُونَ خَالِيًا مِنْ جَمِيعِ الأَْذْكَارِ إِلاَّ ذِكْرَ رَبِّهِ، خَالِيًا مِنْ جَمِيعِ الإِْرَادَاتِ إِلاَّ رِضَا رَبِّهِ، وَخَالِيًا مِنْ مُطَالَبَةِ النَّفْسِ مِنْ جَمِيعِ الأَْسْبَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ خَلْوَتَهُ تُوقِعُهُ فِي فِتْنَةٍ أَوْ بَلِيَّةٍ. وَأَنْ يَتْرُكَ الْخِصَال الْمَذْمُومَةَ ؛ لأَِنَّ الْعُزْلَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ اعْتِزَال الْخِصَال الْمَذْمُومَةِ، فَالتَّأْثِيرُ لِتَبْدِيل الصِّفَاتِ لاَ لِلتَّنَائِي عَنِ الأَْوْطَانِ، وَأَنْ يَأْكُل الْحَلاَل، وَيَقْنَعَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْمَعِيشَةِ، وَيَصْبِرَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ أَذَى الْجِيرَانِ، وَيَسُدَّ سَمْعَهُ عَنِ الإِْصْغَاءِ إِلَى مَا يُقَال فِيهِ مِنْ ثَنَاءٍ عَلَيْهِ بِالْعُزْلَةِ.
وَلْيَكُنْ لَهُ أَهْلٌ صَالِحَةٌ، أَوْ جَلِيسٌ صَالِحٌ ؛ لِتَسْتَرِيحَ نَفْسُهُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ سَاعَةً مِنْ كَدِّ الْمُوَاظَبَةِ، فَفِيهِ عَوْنٌ عَلَى بَقِيَّةِ السَّاعَاتِ.
وَلْيَكُنْ كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلْمَوْتِ، وَوَحْدَةِ الْقَبْرِ.
وَلْيَلْزَمِ الْقَصْدَ فِي حَالَتَيِ الْعُزْلَةِ وَالْخُلْطَةِ ؛ لأَِنَّ الإِْغْرَاقَ فِي كُل شَيْءٍ مَذْمُومٌ وَخَيْرُ الأُْمُورِ أَوْسَطُهَا، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ.
قَال الْخَطَّابِيُّ: وَالطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى فِي هَذَا الْبَابِ أَلاَّ تَمْتَنِعَ مِنْ حَقٍّ يَلْزَمُكَ لِلنَّاسِ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبُوكَ بِهِ، وَأَلاَّ تَنْهَمِكَ لَهُمْ فِي بَاطِلٍ لاَ يَجِبُ عَلَيْكَ وَإِنْ دَعَوْكَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ مَنِ اشْتَغَل بِمَا لاَ يَعْنِيهِ فَاتَهُ مَا يَعْنِيهِ، وَمَنِ انْحَل فِي الْبَاطِل جَمَدَ عَنِ الْحَقِّ، فَكُنْ مَعَ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ، وَكُنْ بِمَعْزِلٍ عَنْهُمْ فِي الشَّرِّ، وَتَوَخَّ أَنْ تَكُونَ فِيهِمْ شَاهِدًا كَغَائِبٍ، وَعَالِمًا كَجَاهِلٍ.
كَيْفِيَّةُ الاِعْتِزَال:
الاِعْتِزَال عَنِ النَّاسِ يَكُونُ مَرَّةً فِي الْجِبَال وَالشِّعَابِ، وَمَرَّةً فِي السَّوَاحِل وَالرِّبَاطِ، وَمَرَّةً فِي الْبُيُوتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ: إِذَا كَانَتِ الْفِتْنَةُ فَأَخْفِ مَكَانَكَ، وَكُفَّ لِسَانَكَ وَلَمْ يَخُصَّ مَوْضِعًا مِنْ مَوْضِعٍ.
وَقَدْ جَعَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعُزْلَةَ، اعْتِزَال الشَّرِّ وَأَهْلِهِ بِقَلْبِكَ وَعَمَلِكَ إِنْ كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قَال ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي تَفْسِيرِ الْعُزْلَةِ: أَنْ تَكُونَ مَعَ الْقَوْمِ، فَإِذَا خَاضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَخُضْ مَعَهُمْ، وَإِنْ خَاضُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَاسْكُتْ.
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: أَحْوَال النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ تَخْتَلِفُ، فَرُبَّ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى سُكْنَى الْكُهُوفِ وَالْغِيرَانِ فِي الْجِبَال، وَهِيَ أَرْفَعُ الأَْحْوَال ؛ لأَِنَّهَا الْحَالَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِدَايَةِ أَمْرِهِ، وَنَصَّ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ مُخْبِرًا عَنِ الْفِتْيَةِ فَقَال: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴾ [ هود: 49]، وَرُبَّ رَجُلٍ تَكُونُ الْعُزْلَةُ لَهُ فِي بَيْتِهِ أَخَفَّ عَلَيْهِ وَأَسْهَل، وَقَدِ اعْتَزَل رِجَالٌ مِنْ أَهْل بَدْرٍ فَلَزِمُوا بُيُوتَهُمْ بَعْدَ قَتْل عُثْمَانَ، فَلَمْ يَخْرُجُوا إِلاَّ إِلَى قُبُورِهِمْ، وَرُبَّ رَجُلٍ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَصْبِرُ بِهَا عَلَى مُخَالَطَةِ النَّاسِ وَأَذَاهُمْ، فَهُوَ مَعَهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَمُخَالِفٌ لَهُمْ فِي الْبَاطِنِ.
فَوَائِدُ الْعُزْلَةِ:
قَدْ يَكُونُ لِلْعُزْلَةِ فَوَائِدُ مِنْهَا:
أ. التَّفَرُّغُ لِلْعِبَادَةِ وَالْفِكْرِ، وَالاِسْتِئْنَاسِ بِمُنَاجَاةِ اللَّهِ - تَعَالَى -.
ب. التَّخَلُّصُ بِالْعُزْلَةِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي يَتَعَرَّضُ الإِْنْسَانُ لَهَا غَالِبًا بِالْمُخَالَطَةِ، وَيَسْلَمُ مِنْهَا فِي الْخَلْوَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ، وَالرِّيَاءُ، وَالسُّكُوتُ عَنِ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمُسَارَقَةِ الطَّبْعِ مِنَ الأَْخْلاَقِ الرَّدِيئَةِ، وَالأَْعْمَال الْخَبِيثَةِ الَّتِي يُوجِبُهَا الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا.
ج. الْخَلاَصُ مِنَ الْفِتَنِ وَالْخُصُومَاتِ، وَصِيَانَةُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ عَنِ الْخَوْضِ فِيهَا وَالتَّعَرُّضِ لأَِخْطَارِهَا.
د. الْخَلاَصُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ.
هـ. السَّلاَمَةُ مِنْ آفَاتِ النَّظَرِ إِلَى زِينَةِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا وَالاِسْتِحْسَانُ، لِمَا ذَمَّهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ زُخْرُفِهَا وَعَابَهُ مِنْ زَبْرَجِ غُرُورِهَا.
و. السَّلاَمَةُ مِنَ التَّبَذُّل لِعَوَامِّ النَّاسِ وَحَوَاشِيهِمْ، وَالتَّصَوُّنُ عَنْ ذِلَّةِ الاِمْتِهَانِ مِنْهُمْ.
آفَاتُ الْعُزْلَةِ:
قَال الْغَزَالِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا يُسْتَفَادُ بِالاِسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ بِالْمُخَالَطَةِ، فَكُل مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْمُخَالَطَةِ يَفُوتُ بِالْعُزْلَةِ وَفَوَاتُهُ مِنْ آفَاتِ الْعُزْلَةِ.]
[19] انظر: تحفة الأحوذي، كتاب: صفة القيامة، باب: مطلق آخر باب في الكتاب، حديث (2935).