هو الكتاب الذي من قام يقرأه *** كأنما خاطب الرحمن بالكلمِ
المتأمل في علوم القرآن يرى أن لها مقاصد عديدة والمراد منعا السعة والرحمة للعباد ، وما يتحقق لهم من مصالح هي خير لهم في حياتهم و أخراهم ، ولكيانهم حتى تشرق عليهم أنوار معرفية كبرى تزكيهم وتهديهم الى خير السبل .
وهذه العلوم تشيد للعالمين صرحا متينا ومحكما ، ومعمار متكامل شامخ البنيان ، وهي تهذب كيانهم وأخلاقهم ونوازعهم وتهديهم الى بر الأمان ، وكتاب الله عز وجل يصحح الأفهام والعقول ويخاطب الملكات العميقة في النفس الانسانية ويدعوها الى النظر والتأمل والاستبصار في ملك عظيم .
وحتى لا يجهل العباد بعلمهم ومعارفهم لا بد لهم من النظر والتأمل في علوم القرآن التي لا تعد ولا تحصى ومنها ما أحصي ومنها ما زال خفيا ، والقرآن كتاب الله العزيز الذي أحصى كل شيء عدا بحر عميق من النفائس والذرر وهي لا تستجلى الا بالعلم والمجاهدة .
فالله تبارك وتعالى أنزل كتابه بعلمه وأحكم آياته ، وهو العليم الحكيم الذي له علم بقدرات الانسان وطاقته المحدودة ، وضعفه ونوازعه وبيئته ومحيطه لذا نزل بصيغته المعهودة والمخالفة لكل ما عهده الناس في كلامهم ليكون آية لهم ومرشدا لخير السبل وذلك برفق وحكمة متناهية ولتكون للعالمين نورا ومعرفة ، ودون أن يستلب خصوصيتهم ومعارفهم فكان قمة بلاغية ومعمارا بيانيا أعجز الثقلين ، والمستوى البلاغي لكتاب الله العزيز يتجلى لمن له ذوق عربي في تشبيهاته وأمثاله الحكيمة ، ومجادلاته وافحامه للمبطلين واثباته للعقائد الحقة.
وعلوم القرآن المشعة تتخطى حدود الزمان والمكان ، وكل الأقيسة الاستقرائية و الجدلية المعروفة في عصرنا الحاضر .
وتتجلى حكمة الله تعالى ورحمته وهو العليم الخبير أن جعل محكم كتابه ما اتضحت دلالته وعقلت معانيه ، وجعل متشابهه التي لا يدرك حقيقتها الا الله عز وجل كآية الاستواء، والوجه واليد وسائر الصفات وذلك لتقريب المعنى الى المتلقي وهو أعلم به وله علم بقصورهم عن الادراك الحقيقي والكامل ، فالمتشابه هو أكثر الأنواع خفاءا والتي توهم نقصا وتشابها بين الله تعالى ومخلوقاته ، ومن عقل هذا العلم بصيغه المختلفة التي تبينه سيدرك أنه تنزيه في حق الله تعالى العزيز المنيع الشديد المحال .
وأمره سبحانه وتعالى مطلق فما علم سبحانه في أزله استمرار لحكمه لن يلحقه نسخ ، ولكن رحمة من الله تعالى نسخ آياته لتكون ارتقاءا مدرجا للعباد في ارتياد ما هو أسمى ، وينبذوا ما ألفوه من وثنية وجاهلية ويجمعوا أمرهم على كلمة الحق وبين لهم ذلك بعلمه ورفقه المتناهيين ، ونسخت آيات الله وهو أعلم بها لبناء الشرائع القويمة والتي تهدي الى الحق المبين ، ولاستنهاض البواعث والهمم والتحصيل على أسمى العلوم وأرقاها ، وتكون محفزا لارتياد الآفاق الرحبة والواسعة لاحت في الأفق عوالم الاعجاز في آياته حيث أخبر عن حوادث مستقبلة تحققت وهو عالم الغيب والشهادة وبين اعجازه في الحرف والكلمة وآيه في خلقه ، وتبين أن هناك عدد من أوجه الاعجاز في كتابه .
ومن علوم القرآن المشعة ما كان خفيا و مراده سبحانه وتعالى أن ينال طلبها ومعرفتها واستقصاؤها بعلم لمعرفة كنهها لتشرق شمس حقيقته وتتعزز في المعمار البياني الشامخ ، فالخفي لا ينال الا بالطلب والاجتهاد، وقد يشكل اللفظ الذي خفي أحيانا على أولي الأبصار ولا يدرك الا بالتأمل أو بقرينة تبين المراد منه وهذا كله فيه تحفيز للهمم ، وكذلك ما اشترك في اللفظ من المعاني التي تزاحم بعضها بعضا ويدل اللفظ نفسه على معنى معين .فصار في ركابه العاملون المتقون وشربوا من ماءه السلسبيل واغترفوا علوما مشعة ، وكل يغترف على اختلاف المشارب ، والذي يبحر في كتاب الله العزيز الرحب والواسع عليه أن يتقن فن الغوص لاستخراج ذرره ونفائسه لينفع بها العالمين .
وقد ينفذ البحر ولا تنفذ كلمات ربي . قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [ الكهف : 109 ]
قال الزرقاني رحمه الله ( لقد اشتمل القرآن على آلاف من المعجزات ، لا معجزة واحدة فحسب ، فلم يذهب بذهاب الأيام ، ولم يمت بموت الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو قائم في فم الدنيا يجابه كل مكذب ، ويتحدى كل منكر ، ويدعو أمم العالم جمعاء الى ما فيه من هداية وتشريعات ونظم تكفل السعادة لبني الانسان ) .
وكثير من آيات القرآن الكريم المتعلقة بالكون ومكوناته لم يكن من الممكن إدراكها في أبعادها الحقيقية في زمن تنزيل القرآن ، وإنما تتضح دلالاتها للناس في مستقبل الزمان الذي يلي زمن تنزيل الوحي تصديقاً لقوله تعالى { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت : 53]. ولقوله تعالى { إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ ص : 87-88] . أي أنه ذكر للبشرية كلها إلى قيام الساعة وفيه من الأنباء ما يتجدد مع مرور الزمن.
فسبحان الذي أحكم آياته وأخبرنا فيها عن حقائق لم يكن لأحد من البشر علم بها من قبل ، إنه بحق كتاب الحقائق والأسرار والعجائب ، إنها آيات عظيمة نتعرف إليها لندرك أن الله هو من خلق الشمس وهو من نظَّم الكون وهو من أنزل القرآن وقال جل جلاله { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[ النمل : 86]
كتاب الله ما أعظمه من كتاب ، به نتخلص من وساوس الشيطان ، فهوحبل الله المتين الذي يُعتصم به من الهلاك ، ونوره المبين ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ولابد لنا من بذل وسعنا في تدبر معانيه ، واستخراج ما فيه من كنوز المعرفة وأسرار البيان ، وذلك من خلال سَبر أغواره ، لاستخراج مافيه من درر ولآلىء هذا هُوَ القُرآنُ فَجْرٌ سَاطِعٌ سِفْرٌ تَضاءلُ دونهُ الأسفارُ!! المُحْكَمُ التَّنْزيلِ ليْسَ بِمُدرَكٍ لفْظاً وماسُبرَتْ له أغْوَارُ!! المُعْجزُ التَّأويلِ..في آياتِهِ.. وبهِ لَكَمْ يَتَألَّقُ الأطْهَارُ!!
ومهما يكن فالقرآن الكريم بْحرٌ لا يُدرك غَوره ، ولا تَنْفذ دُرره ، ولا تنقضي عجائبه .. وعندما نقرأ كتاب الله عزّ وجل تستوقفنا آيات فنقف عندها !!! ونبحث عن إجابة لها ؟؟؟ عندها ندرك أننا أمام كتاب عظيم تبهرنا عظمته !!!
مثلُ القُرآنِ الكريمِ كَمَثلِ أرضٍ مُبَارَكَةٍ تُخفِي الحَياةَ في باطِنِهَا، وتؤتي أُكُلها عندما يرعاها الناسُ. فكلما كانت أساليبُ إحيائِها مُنظمةً، مُخلَصةً، صَادقةً، شامِلةً ومُتطورةً كان عطائُها وافراً مباركاً مُتنوعاً .. وهنا نكتفي بالقولِ أنَّه وكما تعطي الأرض ثمارها دوماً فإنّ القرآن الكريم يعطي ثماره وينبت من كُلِّ زوجٍ كريمٍ .. وأنَّ الكريمَ لا ينقضي عطائُه! فكتابُ ربِّ العالمينَ للعالمينَ لجميع الأزمنةِ والأماكنِ.
¤¦¦✮¦¦¤ القرآن .. كتاب عظيم لا تَنْقضِي عَجائِبُه ¤¦¦✮¦¦¤